قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

معنى هجران القرآن ونماذجه

حيدر حب الله

هجران القرآن معناه ترك قراءته والتأمّل فيه والتدبّر في معانيه، وهو أيضاً ترك العمل بأحكامه وصيرورته غريباً في مفاهيمه عن حياة الإنسان المسلم، فلو نظرنا اليوم إلى واقع حياتنا وقارنّاه بمفاهيم القرآن الكريم لرأينا أنّ الكثير من مفاهيمه متروكة مهجورة بل مستنكرة، وهذا هو معنى هجران الكتاب الكريم، فالهجران هو تارةً هجران فكري بمعنى ترك التأمّل فيه والتخلّي عن مرجعيّته المعرفيّة، وأخرى هجران عملي بمعنى ترك العمل بأحكامه ومفاهيمه وتعاليمه.

والقرآن المهجور في بيتٍ من البيوت معناه أنّ أهل هذا البيت لا يتلون القرآن ولا يتدبرونه ولا يعملون بما فيه، وهو كائن غريب عن منظومة حياتهم، لسببٍ أو لآخر، والأسباب كثيرة بعضها ينتمي إلى مجال ترك العمل بالدين، وبعضها ينتمي إلى خلل في مناهج المعرفة الدينية نفسها، فيصبح القرآن كائناً دينيّاً يعيش على هامش الحديث الشريف مثلاً، وهذه من النماذج التي تجلّت وما تزال في غير موقع من حياتنا الفكريّة والدينية.

لنأخذ مثالاً بسيطاً على هجران القرآن الكريم، وهو غياب مفهوم (اليوم الآخر) الذي نافح القرآن وناضل من أجله في مئات من الآيات الكريمة. إنّ اليوم الآخر أو يوم القيامة ليس حدثاً زمنيّاً فقط يريد أن يخبرنا عنه الله في كتابه المجيد، إنّه مفهوم عملي يستدعي الحضور في حياتنا، ومن آثاره الشعور (وليس مجرّد الاقتناع الفكري المضمر والخافت) بأنّ الدنيا هي حقّاً دار ممرّ، وأنّها ـ فقط ـ جزء بسيط من حياتنا العامّة التي سنحياها في خلق الله لنا، وهذا المفهوم يكشف لنا ـ كالعيان ـ معنى الحياة الدنيا، وأنّها دار امتحان واختبار، فعندما لا أجد النعيم في دار الدنيا فنحن نعترض على الحكمة الإلهيّة، ونقول: لماذا كانت حياتنا الدنيا بهذه الطريقة؟ فنفقد الرضا والتسليم، وهما الشعار الكبير للإسلام العملي. وهكذا عندما نلاحظ حجم اهتمامنا بإعمار دنيانا ونقارنه بحجم اهتمامنا بإعمار آخرتنا فسوف نجد أنّ ما نبذله لإعمار دنيانا يشكل 99 في المائة من حياتنا، وهو قدر أعظم بكثير من الوقت الذي نمنحه لإعمار آخرتنا التي تشكّل أغلب حياتنا الحقيقيّة، بل هي الحياة الحقيقيّة بحسب المضمون القرآني.

ولو قارنّا حياة المسلمين اليوم مثلاً سنجد بوضوح قدراً لا بأس به من غياب مفهوم الآخرة، الأمر الذي يكون لصالح مفهوم الدنيا، فتتعزّز حظوظ الدنيا في وعينا على حساب حظوظ وأولويّات الآخرة، وهذه من أشكال هجران واحد من أعظم مفاهيم الديانات عبر التاريخ، أعني حقيقة الدنيا والآخرة.

بل حتى (الله)، فكم يحظى الله في يومنا الواحد باهتمامنا؟! إنّه لا يحظى سوى ببضع دقائق من الاهتمام إلا عند المؤمنين الصالحين، فنحن نفكّر ونعيش ونحيا لمفاهيم أخرى تأخذ حجماً أكبر بكثير من (الله) في حياتنا، وحجم حماسنا لها أكبر بكثير من حجم حماسنا لله سبحانه، مع أنّ أولى أولويّات القرآن الكريم والشيء الأكثر تأكيداً وتكراراً في هذا الكتاب العزيز هو الله وحجم حضوره في الحياة، فالله ليس فكرةً، الله إحساس وشعور ونمط عيش، هو الإحساس القرين لكلّ فعلٍ نفعله، حتى لو كان فعلاً دنيوياً، وعندما يقترن إحساس (الله) بكلّ فعلٍ نفعله فسيتحوّل فعلنا من فعلٍ دنيوي إلى فعلٍ أخروي، فيجتمع بذلك بناء الدنيا والآخرة معاً.

هذا الكلام ليس أدباً ولا شعراً، هو تجربة خاضها كثيرون، وبإمكان الآخرين أن يخوضوها، وهو مضمون الرسالة القرآنية ورسالة الدين عامّة، وهذه هي المفاهيم الدينية التي تجعل كلّ شيء في سبيل الله تعالى، ويصبح الله هو الإحساس الأعظم والمهيمن في حياتنا دون أن يشلّ سائر الأحساسيس، بل يمنحها معنى آخر.. فهل (الله ـ الفكرة) هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام يمدّد ابنه أمامه ويهمّ بذبحه؟! هل (الله ـ الفكرة) هو الذي حوّل السجن بالنسبة ليوسف أحبّ ـ بما تحمله كلمة الحبّ (وليس فقط أفضل) ـ من لذّة الجنس العارمة التي تكون في عمر الشباب؟! إنّ (الله) الفلاسفة والمفكّرين والباحثين والمتكلّمين لا يمكن أن ترقى إلى (الله) الروحانيين والقرآنيين والعرفاء الصادقين، هناك يكون (الله) بحقّ هو كلّ شيء نمرّ عليه، فنحسّ به في كلّ شيء وقبله وبعده بحسب تعبير إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام.

الله هو المفهوم والإحساس المهيمن على النبوات والأنبياء وليس العكس، والله هو المفهوم والإحساس المهيمن على الإمامة والأئمّة وليس العكس، والله هو المفهوم المهيمن على المعاد واليوم الآخر وليس العكس، هذه هي أولويّات القرآن الذي ما نسي الله في أيّ آية من آياته تقريباً ليحكينا عنه أو يصفه لنا أو يشرح لنا فعله وتدبيره ومكانته، فهل نحن نهجر القرآن في منظومة حياتنا أم لا؟! رزقنا الله جميعاً أنس اللقاء به سبحانه، ووفّقنا لكي نحيا حياةً قرآنية سليمة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة