قرآنيات

القول الأجدر في تسمية القرآن بالثقل الأكبر

 

لقد وردت الأحاديث الشريفة مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وآله واصفة الكتاب الكريم بالثقل الأكبر والعترة الطاهرة بالثقل الأصغر.

وكذا وردت الأدلة من الكتاب والسنة بما يبلغ حدّ التواتر الاجمالي على عدم التفاضل بينهما، على نحو التصريح أو الإشارة والإشعار، بالدلالة المطابقية والالتزامية، مضافا إلى الأدلة الناصة على تقدمهم الزمني والرتبي على جميع المخلوقات كافة، وأنّهم على أقل التقادير هم العلة الغائية من خلقة الخلق، وأنهم وعاء مشيئة الله، ولسان إرادته، أقامهم في عالم الأداء مقامه، وارتضاهم حكّاما يقومون مقامه لو كان حاضرا في المكان.

وهنا استوقف الكثيرين نعتُهُم بالثقل الأصغر، في حديث الثقلين قياسا بالقرآن الكريم.

مما حدا ببعض أهل العلم بأن ينبروا إلى التوفيق بين الطائفتين من الأدلة، لبيان وجه جعلهم أصغر الثقلين، بعد ما ثبت من كون ذواتهم المقدسة تُجسد الوجود العيني الخارجي للقرآن الكريم والذي هو ـ أي الوجود الخارجي ـ أعلى وأشرف مراتب وجود الشيء من حيث كونه هو المنشأ لترتب آثار الشيء والداعي إلى إيجاده.

على أنَّ النصوص المبينة لكيفية نزول الوحي القرآني بضميمة أحاديث خلق اللوح والقلم، تهتف بوساطتهم في عالم الفيض عموما، ليشمل مراتب نزول الوحي وتلقيه من قبل الروح الموكل به.

وقد وجه هؤلاء الوصف المذكور ـ كون العترة هي الثقل الأصغر ـ في الحديث الشريف بأنّه ناظرٌ لوظيفة المسلمين، من عرض الروايات على القرآن الكريم وليس العكس، فما وافق منها الكتاب أُخذ به، وما خالف رُدَّ إلى من صدرت عنه.

إلا أن الذي نراه، أن هذا المعنى وإن كان صحيحا في حدّ نفسه، إلا أنه لا يصلح توجيها وتفسيرا لوصف العترة بالثقل الأصغر في الحديث الشريف؛ وذلك لعدم اتحاد الموضوع بين الدليلين.

فالعترة الموصوفة بالثقل الأصغر شيءٌ، وما أمر بعرضه على الكتاب للأخذ به أو ردّه شيء آخر، وبينهما تباين تامّ, وذلك لأمور إليك بعضاً منها:

1ـ إنّ العترة التي خلّفها النبي صلى الله عليه وآله، هي الذوات الطاهرة لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، حيث إنّهم هم الموجودون بالفعل عند صدور الحديث الشريف، وأما المعصومون من ذريتهم، فهم وجود تنزيلي لهم بخلاف المرويات عنهم، والتي لم تكن موجودة في زمن صدور حديث الثقلين، حتى يصدق عليها أنها مخلّفة بين الأمة كما هو حال القرآن الكريم.

2 ـ ثم إن جعل العترة عِدلاً للكتاب، يقتضي التكافؤ والسنخية من حيث العصمة والحجية، دون توقف أحدهما على الآخر الذي ينافي العِدليّة.

3 ـ  وفي جعل التمسك بهما أمانا من الضلال ما ينافي وجود الغث الذي لابد من عرضه على الكتاب تمييزا له عن السمين.

4 ـ إنَّ وصف العترة بكونها حبلا ممدودا ـ في عرض القرآن الكريم لا في طوله ـ بين الخلق والله تعالى، يُخرج زخرف القول عن دائرته فحبل الله لا يشتمل إلا على الحق الصراح الذي أمرنا بالاعتصام به مطلقا دون قيد أو شرط، نعم الوقوف على مقاصد الكتاب والعترة له آلياته المحدّدة المقرّرة المأخوذه من محكماتهما.

5 ـ لا ريب في التغاير بين العترة وما يروى عنها، فالعترة حجة فعلية لا تنفك عنها الحجية لعصمتها القطعية، بخلاف المروي عنها عليها السلام، ولزوم العرض على الكتاب متعلقه المروي عن العترة لا العترة نفسها، فالمرويّات تعرض على الكتاب كما تعرض  على السنّة القطعية، حتى يعلم أنّها من العترة، أما ما خالف فليس من العترة، بل هو باطل وزخرف كما تدل عليه أخبار العرض على الكتاب حيث جاء فيها: فلم نقله.

6 ـ هناك أحاديث أخرى تأمر بعرض الروايات على الكتاب، لكنّها مختصة بباب التعارض بين الأخبار، فإذا كان لدينا مجموعتان من الروايات المتنافية، فعندها نعرضهما على القرآن الكريم، لنُرجّح المجموعة التي تتوافق مع العموم الوارد في القرآن الكريم.

وخلاصة القول أنّ ما يجب عرضه على الكتاب للأخذ به، أو لطرحه، أو لترجيحه على غيره، هو المروي عن العترة، لا الصادر عنها قطعا، فالمعروض هو المرويات، لا العترة نفسها، وما صدر عنها قطعا من قول أو فعل أو تقرير.

وعليه فالعترة لا تعرض على الكتاب، لا حقيقة ولا مجازا، فكيف يكون وجه اتصافها بالثقل الأصغر هو مفاد أحاديث العرض.

7 ـ إذا كان المدار في الاتصاف بالأكبريّة والأصغرية على وظيفة المسلمين تجاه الثقلين فالمتعين أن تكون العترة هي الثقل الأكبر، كيف والكتاب فيه الإجمال ومن العترة التفصيل، وفيه الإجمال ومن العترة التبيين، وفيه العام ومن العترة التخصيص، وفيه المحكم والمتشابه، ومن العترة التمييز، فهم العالمون به العارفون بمعانيه ومبانيه وإشاراته ولطائفه، بل هو آيات بيّنات في صدورهم صلوات الله عليهم، بل هم الناطقون به، الواقفون على حقائقه، المجسّدون لآياته. إنّما يفهم القرآن من خوطب به، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُّبُر.

 

الوجه الأجدر في تسمية الثقل الأكبر

إنّ الكتاب الكريم هو كلام الله المعجز، الذي جاء به النبي الحبيب صلى الله عليه وآله، كبرهان على صدق نبوّته، وهو المعجزة الخالدة المحفوظة، ولا يختلف في حجيتها من أهل القبلة أحد.

 ومن ثمَّ توقفت حجية العترة ومرجعيتها المعرفية على الكتاب في مقام العلم والإثبات، لذا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يستدلّون بآياته على حقّانيتهم، ويحتجون في مقام إفحام الخصوم على بياناته وبيّناته من آية التطهير والمباهلة والولاية والطاعة وغيرها ويثبتون فضلهم بفضائلهم التي صدع بها.

فمرجعية العترة متوقفة في إثباتها على الكتاب، أما مرجعية الكتاب فغير متوقفة على العترة، وإنما بيانه وترجمته وتفصيله هو المتوقف عليها والموكول إليها. وظهور عظمتها ورفيع شرفها ناشئ من علمها به وكونها معه.

والحاصل إنّ كون الكتاب هو الشاهد والدليل على صدق العترة وولايتها ومرجعيتها والدّال على حقانيتها، يصلح لأن يكون وجها لوصفه بالثقل الأكبر في مقام التعريف والإثبات، خصوصا أنه جاء في سياق الدلالة على ما يوجب عصمة الأمة من الضلال، فالأمر يتعلق بجهة الإثبات لا الثبوت والمعرفة.

إذن هو المثبت لحجيّة العترة، والعترة ليست مثبتة لحجيته.

والمعرِّف ولابد من أن يكون أعرف من المعرَّف، مع عدم استلزام الأفضلية أو المساواة أو المفضوليّة.

فآثار الله تدل عليه، وأهل الخبرة يدلون على الأعلم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة