من التاريخ

القرآنيّون تاريخهم نشأتهم وآراؤهم (1)

 

أفرز الاهتمام بالقرآن الكريم ـ بوصفه مرجعيّةً حصريّة للأحكام الدينيّة ـ اتّجاهاً فكريّاً معاصراً له أنصاره ومتابعوه، يطلق عليه اسم (القرآنيّون).

وفي حدود المتابعة، بغية التفتيش عن جذورٍ تاريخيّة لهذه الظاهرة، يلاحظ أنّ هناك تهمةً بالقرآنيّة وجّهت إلى بعض المعتزلة وبعض الخوارج وبعض الشيعة، مثل ما جاء ـ دون تسمية ـ في كتاب الأمّ للشافعي، عند حديثه عن ردّ مقالة الفرقة التي ردّت الأخبار كلّها، ممّا يوحي بوجود حالة إنكار للحديث والسنّة.

لكنّ هذه التهمة لا تحمل ما يؤكّد وجود تيّار أنكر السنّة تاريخيّاً، بل كانت المناقشات مركّزةً في حجم الأحاديث المعتبرة، فبعضهم كان يوسّعها وبعضهم يضيّقها، فلا يمكن القول: إنّ ظاهرة القرآنيّين لها عمقٌ تاريخي واضح. نعم من الممكن أن تجد أفراداً لها من هنا وهناك، لكنّها ليست ظاهرة واسعة على الإطلاق.

أمّا شعار (حسبنا كتاب الله) فلا يرى فيه كثيرون أنّه يراد منه ترك السنّة، بقدر ما يعبّر عن حالة خاصّة وواقعة جزئيّة، وإلا فإنّ من أطلق هذه الكلمة قد أخذ بالسنّة في حياته مراراً، كما تفيد الشواهد التاريخيّة والحديثيّة.

 

القرآنيون، المعنى والاستخدامات

وبغية الاطّلاع على هذا الاتجاه، يحسن بنا التوقّف قليلاً مع اصطلاح (القرآنيّون) لمعرفة حقيقته واستخداماته، فقد وجد له استخدامان أساسيّان هما:

1 ـ القرآنيّون بالحدّ الأعلى.

2 ـ والقرآنيّون بالحدّ الأدنى.

 

وسنلقي بعض الضوء على كلا هذين الاستخدامين:

1 ـ القرآنيّون بالحدّ الأعلى

لهذا الاستخدام أنصارٌ في داخل المدرسة السنّية فقط، وليس له أنصار داخل المدرسة الشيعيّة، وتقوم نظريّة الاستخدام الأوّل على مفهوم الحصر؛ فهم يقولون: إنّ القرآن الكريم هو المرجعيّة المعرفيّة الحصريّة التي يمكن من خلالها فهم الإسلام، أي أنّه لا يمكن فهم الإسلام في نظامه العقائدي والتشريعي والأخلاقي.. إلا من خلاله، وكلّ المرجعيّات المعرفيّة الأخرى المفترضة لا أساس لها في الإسلام، بما في ذلك: السنّة بكلّ معانيها؛ والإجماع، والشهرة، والسيرة، وسنّة السلف..؛ فكلّ هذه المفاهيم ليست أساساً في الاجتهاد الدينيّ، ولا هي بمصدرٍ يمكن الرجوع إليه في فهم الإسلام، وليس أمامنا بغية فهم الإسلام سوى القرآن الموجود بين أيدينا، دون غيره من المصادر.

وما حدا بهؤلاء لاختيار ذلك منطلقان اثنان:

المنطلق الأوّل: إنكار حجيّة (السنّة الواقعيّة)

فالقرآن الكريم هو المصدر الوحيد لفهم الدين؛ لأنّ السنّة الواقعيّة ليست بحجّة، فحتى لو حصل لنا توفيق التشرّف برؤية الرسول الأكرم (ص)، وسمعناً منه قولاً أو رأينا منه فعلاً دون أن يكون لهما أثر في القرآن، فلا يمكن لنا أن نعتبرهما جزءاً من الدين، نعم؛ قد يجب على سامع هذا القول أو رآئي هذا الفعل الالتزام به إذا حمل دلالة إلزاميّة، لكنّ هذا ليس من باب كونهما جزءاً من الدين في حالة خلوّ القرآن منهما، وإنما لكونهما أحكاماً ولائيّة حكوميّة صدرت من النبيّ الأكرم (ص) الذي هو ولي أمر المسلمين في تلك الفترة الزمنيّة.

إذن؛ فهؤلاء يؤمنون بمرجعيّة القرآن الكريم في مقابل إنكار حجيّة (السنّة الواقعيّة)؛ فحتى لو ثبتت السنّة بطريق علميّ كالتواتر، فلا دليل لدى هؤلاء على وجود إلزام في مثل هذه السنّة، ولا دليل على وجوب إطاعة ما جاء في هذه السنّة على فرض ثبوتها، إلا من باب إطاعة وليّ الأمر والحاكم، ومن ثم فلا معنى للحديث عن حجية السنّة النبويّة بعد وفاة النبيّ عندهم. وسنتعرّض إلى بعض مستنداتهم وطريقة فهمهم للأمور قريباً.

 

المنطلق الثاني: إنكار حجيّة (السنّة المحكيّة)

يذهب هؤلاء إلى أنّه لو لم نحصر المرجعيّة المعرفيّة بالقرآن الكريم، بل أضفنا إليه السنّة الواقعيّة أيضاً، أي ما صدر عن النبيّ الأكرم (ص) حقيقةً وواقعاً، فلو قُدّر لنا الحضور في مجلس الرسول الأكرم وأمرنا حينها بأمرٍ ما، فينبغي علينا الالتزام به، وعدّه جزءاً من منظومة الفكر الإسلاميّ ومفاهيمه، وهذا هو الذي نصطلح عليه بـ (السنّة الواقعيّة).

لكنّ خيبتنا تكمن في ابتعادنا عن عصر سنّته الواقعيّة، وانسداد الطُرق التي بتوسّطها نكتشف سنّته؛ فلا يوجد لدينا أيّ طريق جازم وقطعيّ يؤكّد لنا أنّ النبي قال كذا أو كذا، بل عموم سنّته المحكيّة والمنقولة في كتب التراث الإسلامي من الظنون التي لا ينبغي الركون إليها، وهي ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، ولا يتوافر طريقٌ للتأكّد من سلامتها.

إذن؛ يعتقد القرآنيّون بالحدّ الأعلى ـ وهم من ينصرف إليهم إطلاق مفردة: (القرآنيّون) عادةً ـ أنّ القرآن الكريم هو المرجعيّة الوحيدة في فهم الإسلام دون غيرها، ولا حجيّة لسائر المرجعيّات الأخرى وعلى رأسها السنّة؛ وذلك إمّا لكونها لا حجيّة لها من الأساس حتى وإن بلغتنا بالتواتر، أو لعدم توفّر آليّة للوصول إلى السنّة الواقعيّة القطعيّة في عصرنا؛ لأنّ التواتر الذي يُدّعى من هنا وهناك ليس إلا وهماً من وجهة نظرهم، ولا يوجد مصداقٌ خارجي له، فهو وإن كان يمتلك قيمته نظريّاً ـ بغض النظر عن التفسير الذي نختاره لذلك، سواء وفقاً لأصول المنطق الأرسطي أم لأصول المنطق الاستقرائي والاحتمالي ـ لكنّه لا يمتلك أيّ قيمة عمليّة؛ حيث لا يمكننا الوصول إلى نصّ متواتر في هذا الإطار؛ لأنّ الشروط التي يلزم توافرها في التواتر لا تتوافر في أحاديث التراث الإسلامي.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة