قرآنيات

فروق لغوية في الكتاب المجيد (٣)

 

النموذج الرابع: الفرق بين سارعوا وسابقوا

قال تعالى في سورة آل عمران133: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.

وقال تعالى في سورة الحديد21: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

إن الفرق واضح بين الآيتين، ففي الآية الأولى أتى سبحانه بلفظ "سَارِعُواْ"، أما في الآية الثانية أتى سبحانه بلفظ "سَابِقُوا".

 

فلماذا هذا التنوع في التعبير؟

يمكن أن يقال :

أولاً: إن لفظ "سارعوا" له معنى غير "سابقوا".

"سارعوا: من السرعة ضد البطء، ويستعمل في الأجسام والأفعال، يقال: سَرُعَ فهو سريعٌ، وأسرَع فهو مُسرِعٌ"([28]).

"سابقوا": أصل السبق التقدم في السير"([29]).

إن الآية الأولى تتعلق بالمتقين، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}([30]).

وأما الآية الثانية فإنها تتعلق بالمؤمنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}([31])، ولما كانت التقوى نتاج الإيمان وأعظم درجة وأرقى رتبة، كانت أفضل من مجرد الإيمان، لأنها إيمان وزيادة، وقد بيّن الله واقع المتقين، ولكون التقوى أعلى مرتبة من الإيمان لزم التفرقة بينهما.

لذلك خاطب المتقين بلفظ "سارعوا"، لأن المتقين في تنافس وسباق، فلم يحثهم على التقدم لأنه حاصل منهم، بل حثهم على السرعة في التقدم، بخلاف المؤمنين فإنه لم يحصل منهم التقدم في الرتبة، لذلك حثهم على السباق وهو التقدم في السير، فإذا حصل منهم السباق والتقدم، شملهم خطاب المسارعة.

 

النموذج الخامس: الفرق بين الولد والابن

قال تعالى في سورة آل عمران آية 61 : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، قال سبحانه وتعالى في سورة النساء آية 11: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}، فما الفرق بين الأولاد والأبناء؟

الولد:

"الوَلَدُ: الـمَوْلُودُ. يقال للواحد والجمع والصغير والكبير... ويقال للمتبنى ولد، قال أبو الحسن البصري: الوَلَدُ: الابن والابنة... والأب يقال له والد، والأم والدة، ويقال لهما والدان... والوليد لمن قرب عهده بالولادة، وجمعه وِلْدَانٌ... وجمع الولد أولاد"([32]).

ابن:

قال الراغب في مفرداته: "أصله: بنوٌ، لقولهم في الجمع: أبناء، وفي التصغير، بُنيّ... {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ...}([33]) وسماه بذلك لكونه بناءً للأب، فإن الأب هو الذي بناه وجعله بناءً في إيجاده، ويقال لكل ما يحصل من جهة شيء أو من تربيته، أو بتفقده أو كثرة خدمته له أو قيامه بأمره: هو ابنه، نحو فلانٌ ابن حرب، وابن السبيل للمسافر، وابن الليل، وابن العلم... وابن يومه: إذا لم يتفكر في غده ([34])

يفهم من كتب اللغة: أن الابن يفيد الاختصاص ومداومة الصحبة، ولهذا يقال: "ابن الفلاة" لمن يداوم سلوكها، و"ابن السُرى" لمن يَكْثُر منه السفر ليلاً، وقولنا "هو ابن فلان" يقتضي أنه منسوب إليه، ولهذا يقال: الناس "بنو آدم" لأنهم منسوبون إليه، وكذلك "بنو إسرائيل"، والابن في كل شيء صغير، فيقول الشيخ للشاب: "يا بني"، ويسمّي الملك رعيته "الأبناء"، وكذلك أنبياء من بني إسرائيل كانوا يسمّون أممهم أبناءهم، ولهذا كُنّي الرجل بأبي فلان وإن لم يكن له ولد على التعظيم.

والولد يقتضي الولادة ولا يقتضيها الابن، والابن يقتضي أبًا والولد يقتضي والدًا، ولا يسمى الإنسان والدًا إلا إذا صار له ولد، وليس هو مثل الأب، لأنهم يقولون في التكنية "أبو فلان" وإن لم يلد فلانًا ولا يقولون في هذا والد فلان، كما أن الابن للذكر والابنة للأنثى والولد للذكر والأنثى، والمولود القريب العهد بالولادة([35]).

 

فإذا رجعنا لكتاب الله نجده جرى على هذه المعاني:

أ - الآيات الواردة في "الولد" ومشتقاتها:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ...}([36])، فهنا لفظ "الولد" يشمل الذكر والأنثى، والمولود هو الحديث العهد بالولادة.

قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ...}([37]).

وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا}([38])، فهذا أدل على أن الولد والأولاد يراد بهما الذكر والأنثى.

 

ب - الآيات الواردة في لفظ "الابن"

ذكر سبحانه وتعالى "ابن" أو "أبناء" وأراد الذكور، وقال سبحانه وتعالى: "بنت" أو "بنات" وأراد الإناث، وإذا أضاف للابن "يا" النسبة أراد المنسوبين إلى جماعة أو قبيلة أو شخص معين.

1- "ابن" و "أبناء" و "بنين" و "بنيه"

قال سبحانه وتعالى:

- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ}([39]).

- {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا}([40]).

- {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}([41]).

- {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}([42]).

- {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ... وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ... أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ...}([43]).

- {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ...}([44]).

2- "بنت" و "بنات"

قال تعالى:

- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ}([45]).

- {قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ...}([46]).

- {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ}([47]).

3- "الابن" مع "ياء" النسبة

قال تعالى:

- {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}([48]).

- {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}([49]).

 

هوامش:

8]) انظر مفردات الفاظ القرآن للراغب مادة (سرع)

([29]) نفس المصدر مادة(سبق)

([30]) سورة آل عمران آية 132-136.

([31]) سورة الحديد آية 19-21.

 ([32]) انظر مفردات الفاظ القرآن للراغب الاصفهاني مادة (ولد)

([33]) سورة يوسف آية 5.

([34]) انظر مفردات الفاظ القرآن للراغب الاصفهاني مادة (بنى)

([35]) انظر: الفروق اللغوية ، أبو هلال العسكري (395هـ)، ص13، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1412هـ.

([36]) سورة البقرة آية 233.

([37]) سورة آل عمران آية 47.

([38]) سورة النساء آية 11.

([39]) سورة آل عمران آية 14.

([40]) سورة الإسراء آية 40.

([41]) سورة طه آية 94.

([42]) سورة لقمان آية 13.

([43]) سورة النور آية 31.

([44]) سورة آل عمران آية 61.

([45]) سورة النساء آية 23.

([46]) سورة هود آية 78.

([47]) سورة النحل آية 57.

([48]) سورة المائدة آية 70.

([49]) سورة الإسراء آية 70.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة