من التاريخ

القرآنيّون تاريخهم نشأتهم وآراؤهم (5)

 

حيدر حب الله ..

نماذج فقهيّة اجتهاديّة وفقاً لأصول الاجتهاد عند القرآنيّين

وفي ضوء هذه الأصول الثلاثة، فرّع القرآنيّون نتائج كثيرة، نذكر بعض نماذجها:

1 ـ الوضوء واجب عند كلّ صلاة، حتى وإن لم يكن المكلّف محدثاً بالحدث الأصغر والأكبر؛ لأنّ الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (المائدة: 6)، فظاهر هذه الآية وجوب الوضوء عند القيام للصلاة بلا ربطٍ لذلك بقضايا الحدث.

2 ـ أكّد القرآن الكريم على عدم وجود الإكراه فيه؛ فكلّ الأحكام التي جاءت بها السنّة نظير: الجهاد الابتدائيّ، فرض الدين على الناس، حدّ الردّة، لا يمكن الالتزام بها؛ لقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29).

فالقرآنيّون يعدّون أنفسهم غير معنيّين بجميع الأحكام والإجماعات ونصوص الفقهاء التي تتحدّث عن بعض الأحكام التي من هذا القبيل؛ لأنّ المبدأ القرآني يثبت الحريّة الدينيّة؛ وقد حاولوا حثيثاً الاقتراب في نتائجهم من الفكر الإنساني الغربي الحديث.

3 ـ حينما تحدث مشكلة بين الزوج والزوجة ينصّ القرآن الكريم على ضرورة وجود حَكَم من أهل الزوج وحَكَم من أهل الزوجة، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35).

وهذا الحكم لا يفتي به الفقهاء، ليكون قرار الحكمين ملزماً قضائيّاً، بل يجعلون ذلك استحبابيّاً لمن يريد الإصلاح بينهما، لكنّ بعض القرآنيّين رأى وجوب هذه الطريقة لفكّ النزاعات، فيجب تشكيل محكمة عائليّة، وتكون لها قدرة النفوذ على الطرفين، وتتشكّل من طرفين أحدهما من عائلة الزوج والثاني من عائلة الزوجة، واتّهموا الفقهاء ـ على حدّ وصفهم ـ بهجران الآية وعدم العمل بها.

4 ـ ذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ عقوبة الزنا قرآنيّاً ليست إلا الجلد، وكلّ هذه التفاصيل من الإحصان وغيره.. إنما جاءت في النصوص الروائيّة المرفوضة، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2).

فلا وجود للرجم ولا وجود لشروط الفقهاء في موضوع حدّ الزنا.

5 ـ الاسترقاق عند بعض القرآنيّين مبدأ يرفضه القرآن الكريم؛ حيث قال عزّ اسمه عن أسرى الحرب: {.. حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ} (محمد: 4). فمع أنّ الاسترقاق كان مشهوراً جدّاً، إلا أنّ القرآنيين يرون أنّ القرآن لم يرَ له شرعيّةً، غاية ما في الأمر أنّه كان في عصر نزول الكتاب الكريم رقيقٌ لم يتعرّض لهم، إلا بالدعوة لتحريرهم في بعض الحالات، ومن ثمّ فليس هناك من حالة يُطلق عليها استرقاقٌ جديد؛ لأنهم اعتبروا أنّ الآية الكريمة في مقام بيان التفاصيل، وهي تذكر تفصيلين غير متعارفين، مع أنّ هناك تفصيلاً متعارفاً وهو الاسترقاق، ومع ذلك لم يُشَر إليه، وهذا دليل حاسم على أنّ القرآن أوقف نظام الاسترقاق، وأمّا نظام الرقيق الذين استُرقّوا من قبل، فعمل على تحريرهم بمجموعة من التكاليف الشرعيّة في باب الكفارات وغيرها.

وهذه النظرة للموضوع تخالف ما يذهب إليه جمهور علماء المسلمين، من أنّ الآية الكريمة وإن لم تدلّ على تشريع الاسترقاق، إلا أنّ الأحاديث وردت في ذلك بكثرة.

6 ـ ذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ المحرّم على المرأة كشفه هو ما كان زينةً فقط، لا جميع بدنها؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 59)، وكذلك آية الزينة التي تأمر بعدم إبدائهنّ لزينتهنّ إلا على أزواجهنّ ومحارمهنّ. بينما ذهب الاتجاه المشهور من الفقهاء إلى أنّ المرأة كلّها زينة، وعليها ستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين؛ تأثّراً بالنصوص الروائيّة؛ لتواترها وشهرتها وتسالم المسلمين عليها، فالمحرّم عند القرآنيّين هو إظهار المرأة للزينة التي تضعها على جسدها، لا لجسدها، والمحرّم هو كشف جسدها عندما يكون في ذلك تعريضها للخطر والعدوان لا مطلقاً.

7 ـ حصر كثير من القرآنيّين محرّمات الحجّ بالرفث والفسوق والجدال فقط؛ وذلك لما جاء في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 192)، وما زاد عن ذلك فليس داخلاً ضمن المحرّمات، على خلاف مشهور الفقهاء الذين حرّموا الكثير من الأشياء على المحرم الحاجّ والمعتمر.

يضاف إلى ذلك أنّ الجدال في لغة العرب يعني المجادلة والمراء، وليس بمعنى لا والله وأي والله، كما هو متداول في الكتب الفقهيّة عند بعض المذاهب، وهذا يعني ضرورة ترك هذا التحريف في تفسير الآية لغويّاً والرجوع لنصّ الكتاب وفقاً لمرجعيّة اللغة.

وحينما تقول لهم: إنّ الأحاديث بين المسلمين بمختلف طوائفهم هي بمجموعها فوق حدّ التواتر في الدلالة على حرمة التظليل، والنظر في المرآة وغير ذلك، فإنّهم سيقولون لك: ليس لنا علاقة بتواترها، بل نحن معنيّون بما قرّره القرآن الكريم فقط.

8 ـ يذهب بعض القرآنيّين إلى أنّ محرّمات الأطعمة والأشربة هي تلك التي جاءت في القرآن الكريم حصراً؛ أمّا المحرّمات الكثيرة التي حملتها النصوص الروائيّة فلا تعنيهم بشيء، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام: 145)؛ وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90).

فغير هذه الأشياء يجوز أكله وشربه مطلقاً ما لم يكن فيه ضرر، وكلّ تلك المنظومة التحريميّة للأطعمة والأشربة في الحديث الشريف لا أساس لها في الإسلام.

9 ـ ذهب بعض القرآنيّين أيضاً إلى أنّ آية المحارم في القرآن الكريم إنّما هي بصدد بيان التفاصيل، وحيث إنّها كذلك ولم تذكر العمّ والخال والصهر، فهذا يعني عدم جواز إبداء الزينة أمامهم، مع أنّ إجماع المسلمين على جواز كشف الحجاب وإبداء الزينة أمام العمّ والخال والصهر، قال تعالى: {.. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ..} (النور: 31)، وبالتالي فهذا البعض من القرآنيّين في حلّ من ذلك الإطباق الإسلامي والتسالم والتوارث جيلاً عن جيل، وهم في حلّ أيضاً من سيرة المتشرّعة، والأحاديث السنيّة والشيعيّة.

10 ـ فهم بعض القرآنيّين من آية الإرث نتائج لم يذهب إليها مشهور فقهاء المسلمين، فالله تعالى يقول: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً} (النساء: 11).

إنّ هذه الآية الشريفة وغيرها تدلّ ـ وفقاً لفهم بعض القرآنيّين ـ على أنّ المسلم يرث الكافر والكافر يرث المسلم؛ لأنّ القرآن لم يقل: في أولادكم المسلمين أو إذا كانوا كافرين لا يرثون منكم، بل هو مطلق من حيث الإسلام والكفر، فينبغي أن يرث المسلم الكافر ويرث الكافر المسلم.

أكتفي بهذه الأمثلة وإلا فهي كثيرة جدّاً.

ومجمل القول: إنّ آليّات استنطاق النصّ القرآني عند القرآنيّين توجب تأسيس فقه يختلف تماماً عن الفقه المتداول، سواء أكان شيعيّاً أم سنيّاً؛ بسبب حذف المراجع الاجتهاديّة المعروفة في هذا الإطار، مثل السنّة والإجماع والشهرة وعمل الصحابة. وإنّما قدّمنا أمثلتهم على مدّعياتهم لكي نوضح أنّ ترك الحديث سيؤدّي إلى مثل هذه النتائج الفقهيّة الكبيرة المختلفة وفقاً لهذه الأساسيّات.

 

أزمة العبادات عند القرآنيّين

ولعلّ أكبر مشكلة واجهت القرآنيين هي العبادات؛ إذ تسالم الجمهور بلا نزاع ولا شكّ ولا شبهة ولا ريب على أنّ الصلاة والصوم والحجّ هي بهذه الطرائق المتداولة رغم وجود اختلاف في بعض التفاصيل، من هنا واجه القرآنيّ أزمةً في كيفية فهم نظام العبادات وكيفيّاتها من خلال القرآن الكريم. فكيف يمكن له أن يستنبط لنا أحكام الصوم من خلال النصوص القرآنيّة؟ وهذا ما دعا بعضهم إلى القول بكفاية ركعة واحدة في تحقّق الصلاة المطلوبة قرآنيّاً.

وفي سياق مشكلة العبادات لدى القرآنيّين حاول بعضهم ـ من أمثال الدكتور قاسم أحمد الماليزي ـ أن يخرّج الموضوع ببيان أنّ الطقوس والعبادات كانت موجودة في الديانة الإبراهيميّة، وقد توارثوها جيلاً بعد جيل، فكانوا يصلّون كصلاتنا، ويصومون كصومنا، ويحجّون كحجّنا، ولم يتدخّل القرآن إلا بإدخال بعض التعديلات، كإدخال الوضوء على الصلاة، والغسل لمن أجنب، ومن هنا أخذنا الصلاة من القرآن لا من السنّة.

ولكي لا نطيل، نحيل مجدّداً إلى كتابنا: حجيّة السنّة في الفكر الإسلاميّ، فقد تمّ فيه استعراض مختلف هذه التفاصيل.

 

كلمة أخيرة

نكتفي بهذا القدر من العرض المختصر، للتعرّف على هذا التيار الفكري الموجود في الحياة الإسلاميّة اليوم، ونترك التفاصيل إلى ما أحلنا عليه وإلى بحوث قادمة إن شاء الله.

ونحن نحثّ الجميع ـ خاصّة علماء الدين وطلاب العلوم الدينيّة ـ على دراسة هذه الحركات الفكريّة والاطلاع عليها، وخوض حوار علمي هادئ وموزون معها، وعدم التعامل بحديّة أو تشنّج مع هذا الفكر، خلافاً لما نشاهده هنا وهناك أحياناً مع الأسف الشديد، والتأمّل في هذه المدارس بوصفها اجتهادات مشروعة ما دامت تسعى للاحتكام للمنطق والدليل، وتتطلّع لخوض ممارسة علميّة بطرق أخلاقيّة وشريفة إن شاء الله.

مواقيت الصلاة