قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

القرآن ، دستور الحياة الأفضل

 

السيد محمد حسين الطباطبائي .. 
الدين الإسلامي الذي يشتمل على أكمل المناهج للحياة الإنسانية ويحتوي على ما يسوق البشرية إلى السعادة والرفاه، هذا الدين عرفت أسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم ، وهو ينبوعه الأول ومعينه الذي يترشح منه.
والقوانين الإسلامية التي تتضمن سلسلة من المعارف الاعتقادية والأصول الإخلاقية والعملية ، نجد منابعها الأصيلة في آيات القرآن العظيم.
قال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ).
وقال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ).
وواضح كل الوضوح أن في القرآن كثيراً من الآيات التي نجد فيها أصول العقائد الدينية والفضائل الأخلاقية وكليات القوانين العملية ، ولا نرانا بحاجة إلى سرد كل هاتيك الآيات في هذا المجال الذي لا نجد سعة لإطالة القول فيه.
وبشيء من التفصيل نقول : دقة النظر في النقاط التالية توضح لنا مدى اشتمال القرآن الكريم على المناهج الحياتية التي لا بد من توفرها للإنسان :
١ ـ لا يهدف الإنسان من حياته إلا السعادة والهناء والوصول إلى الأماني التي يتمناها. السعادة والهناء لون خاص من ألوان الحياة ، يتمناها الإنسان ليدرك في ظلها الحرية والرفاه وسعة العيش وما أشبه هذا.
والذي نراه في حالات شاذة أن أناساً يديرون وجوههم عن السعادة والرغد بما يفعلون بأنفسهم ، كالانتحار وجرح الأبدان وبتر الأعضاء وبعض الرياضات الشاقة غير المشروعة بحجة الأعراض عن الدنيا ، وما أشبه هذه الأشياء مما يسبب حرمان النفس عن كثير من وسائل الرفاه والعيش الهانىء .. هكذا إنسان مبتلى بعقد نفسية يرى ـ نتيجة لتأصلها في نفسه ـ إن السعادة تتحقق فيما يقوم به من الأعمال المضادة للسعادة.
فمثلاً يصيب البعض أنواع من متاعب الحياة ولا يتمكن من حملها فيلجأ إلى الانتحار لأنه يرى الراحة في الموت ، أو يتزهد بعضهم ويجرب أنواع الرياضات البدنية ويحرم على نفسه اللذائذ المادية لأنه يرى السعادة في هكذا حياة نكدة.
إذاً ، الجهد الذي يبذله الإنسان ليس إلا لدرك تلك السعادة المنشودة التي يسعى في تحقيقها ونيلها.
نعم ، تختلف الطرق المتبعة للوصول إلى الهدف المذكور ، فبعضهم يسلك السبيل المعقول الذي تقره الإنسانية وتجوزه الشريعة ، وبعضهم يخطأ المسالك الصحيحة فيقع في متاهات الضلال والانحراف عن صراط الحق.
٢ ـ الأعمال التي تصدر من الإنسان لا تكون إلا في إطار خاص من الأنظمة والقوانين. هذا بديهي لا يقبل الإنكار، ولو ذلك في بعض الحالات فليس إلا لشدة الوضوح والظهور.
ذلك لأن الإنسان الذي له نصيب من العقل لا يعمل شيئاً إلا بعد أن يريده ، فعمله صادر عن إرداة نفسية يعملها هو ولا تخفى عليه. ومن جهة أخرى إنما يعمل ما يعمل لأجل نفسه ، ونعني أنه يحس بضرورات حياتية لا بد من توفرها ، فيعمل ليوفر تلك الضرورات على نفسه. فبين أعماله كلها ربط وثيق يربط بعضها ببعض.
إن الأكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والذهاب والمجيء .. هذه الأعمال وغيرها من الأعمال الكثيرة التي تصدر من الإنسان ، هي ضرورية له في بعض الحالات وغير ضرورية في حالات أخرى ، نافعة له حيناً وتضره في أحيان أخرى. فكل ما يعلمه الإنسان نابع من قانون يدرك كلياته في نفسه ويطبق جزئياته على أعماله وأفعاله.
إن أي شخص في أعماله الفردية يشبه حكومة كاملة لها قوانيها وسننها آدابها ، والقوى الفعالة في تلك الحكومة عليها أن تقيس أعمالها مع تلك القوانين أولاً ثم تعمل.
والأعمال الاجتماعية الجارية في مجتمع ما تشبه الأعمال الفردية ، فتحكم فيها مجموعة من القوانين والآداب التي تواضع عليها أكثر أفراد ذلك المجتمع ، وإلا فسوف يسود الفوضى في أقرب وقت وينفصم عراهم الاجتماعي.
نعم تختلف صبغة المجتمعات في قوانينها السارية فيها والحاكمة عليها ، فلو كان المجتمع مذهبيًّا جرت فيه أحكام المذاهب وقوانينه ، ولو كان غير مذهبي إلا أنه يتمتع بالمدنية أخذت أفعاله لون القانون المدني ، أما إذا كان المجتمع متوحشاً ليس له نصيب من المدنية حكمت عليه الآداب والقوانين الفردية المستبدة أو القوانين التي وجدت من جراء احتكاك مختلف العقائد والآداب بصورة فوضى غير منظمة.
فاذاً ، لا بد للإنسان من هدف خاص في أفعاله الفردية والاجتماعية ، للوصول إلى ذلك الهدف المنشود لا محيص فيه من تطبيق أعماله بقوانين وآداب خاصة موضوعة من قبل دين أو مجتمع أو غيرهما.
والقرآن الكريم نفسه يؤيد هذه النظرية حيث يقول : ( ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ).
والدين في عرف القرآن يطلق على الآداب والقوانين بصورة عامة ، فإن المؤمنين والكافرين ـ وحتى المنكرين لله تعالى ـ لا يخلون من دين ما ، لأن كل إنسان يتبع قوانين خاصة في أعماله ، كانت تلك القوانين مستندة إلى نبي ووحي أو موضوعة من قبل شخص أو جماعة ما ، يقول تعالى في أعداء الدين : (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً).

٣ ـ إن أحسن وأثبت الآداب التي يليق بالإنسان متابعتها هي الآداب التي توحيها إليه الفطرة السليمة ، لا النابعة من العواطف والاندفاعات الفردية أو الاجتماعية.
ولو أمعنا النظر في كل جزء من أجزاء الكون ، نرى أن له هدفاً خاصاً وجهته من أول يوم خلقته تحقيق ذلك الهدف من أقرب الطرق وأحسنها ، وهو يشتمل على ما لا بد منه لتحقيق هدفه من الوسائل والآلات. هذا شأن كل مخلوق في الكون ذي روح أم غير ذي روح.
مثلاً حبة الحنطة من أول يوم توضع في بطن الأرض تسير في طريق التكامل فتخضر وتنمو حتى تكون لها سنابل تحمل طياتها حبات كثيرة من الحنطة ، وهي مجهزة بوسائل خاصة تستفيد بواسطتها من العناصر التي لا بد من توفرها في سيرها التكاملي ، فتجذب إلى نفسها من أجزاء الأرض والهواء وغيرهما بنسب معلومة ، فتنشق عنها الأرض وتخضر وتنمو يوماً فيوماً وتتحول من شكل إلى آخر حتى يكون لها سنابل في كل سنبلة حبات ، وحينئذ تكون الحبة الأولى المزروعة في الأرض قد وصلت إلى هدفها المنشود وكمالها الذي كانت تسير نحوه.
وهكذا شجرة الجوز لو دققنا النظر فيها لنرى أنها تسير أيضاً نحو هدف خاص من أول خلقتها ، وللوصول إلى ذلك الهدف جهزت بآلات خاصة تناسب سيرها التكاملي وقوتها وضخامتها ، وهي في مسيرتها لا تتبع الطريقة التي اتبعتها الحنطة ، كما أن الحنطة في مدارجها التكاملية لم تسر سير الجوزة ، ولكل منهما تطوره الخاص به لا يتعداه في طول الخط.
إن جميع ما نشاهده في الكون يتبع هذه القاعدة المطردة ، وليس لدينا دليل ثابت على أن الإنسان شاذ عنها في مسيرته الطبيعية إلى هدفه الذي جهز بآلالات اللازمة للوصول إليه. بل الأجهزة المودعة فيه أحسن دليل على أنه مثل بقية ما في الكون ، له هدف خاص يضمن سعادته وقد توفرت فيه الوسائل للوصول إليه.
وعليه فخلقة الإنسان ـ بل خلقة الكون الذي ليس الإنسان إلا جزءاً منه ـ تسوقه إلى السعادة الحقيقية ، وهي توحي إليه أهم وأحسن وأثبت القوانين التي تضمن سعادته.
يقول الله تعالى : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ).
ويقول : ( الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ).
ويقول : ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ).
ويقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ).
ويقول : ( إن الدين عند الله الإسلام ).
ويقول : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ).
ومحصل هذه الآيات وآيات اخرى بهذا المضمون لم نذكرها ـ اختصاراً ـ أن الله تعالى يسوق كل واحد من مخلوقاته ـ بما فيهم الإنسان ـ إلى الهدف والسعادة الأسمى التي خلقهم لأجلها ، والطريقة الصحيحة للإنسان هي التي تدعوه إليه خلقته الخاصة. فيجب أن يتقيد في أعماله بقوانين فردية واجتماعية نابعة من فطرته السليمة ، ولا يتبع مكتوف اليد هواه وعواطفه وما تمليه عليه ميوله وشهواته. ومقتضى الدين الفطري ( الطبيعي ) أن لا يهمل الإنسان الأجهزة المودعة في وجوده ، بل يستعمل كل واحد منها في حدوده وفيما وضع له لتتعادل القوى الكامنة في ذاته ولا تغلب قوة على قوة.
وبالتالي يجب أن يحكم على الإنسان العقل السليم البعيد عن الشوائب ، لا مطاليب النفس النابعة من العواطف المخالفة للعقل ، كما يجب أن يكون الحاكم على المجتمع هو الحق وما هو الصالح له حقيقة ، لا إنسان قوي مستبد يتبع هواه وشهواته ، ولا الأكثرية التي تخالف الحق والمصالح العامة.
ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجة أخرى ، هي : أن تشريع الأحكام ووضع القوانين راجع إلى الله تعالى وحده ، وليس يحق لأحد أن يشرع القوانين ويضع المقررات ويتحكم في الشؤون ، لأننا عرفنا من البحث السابق أن الآداب والقوانين التي تفيد الإنسان في حياته العملية هي المستوحاة من خلقته الطبيعية ، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو إليها العلل والعوامل الداخلية والخارجية الكامنة في خلقته. وهذا يعني أن الله تعالى يريدها ، ومعنى «يريدها» أنه عز شأنه أودع في الإنسان العلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.
نعم ، الإرادة تنقسم إلى قسمين : منها ما يجبر على إيجاد الشيء كالحوادث الطبيعية التي تقع كل يوم ، وهي المسماة بـ « الإرادة التكوينية » ، ومنها ما يقتضي إيجاد الشيء من طريق الاختيار لا الجبر كالأكل والشرب وأمثالهما ، وهي التي تعارفوا على تسميتها بـ « الإرادة التشريعية ».
يقول تعالى : ( إن الحكم إلا لله ).
القرآن وضع مناهج الحياة للإنسان
وبعد وضوح هذه المقدمات يجب أن يعلم : أن القرآن الكريم مع رعايته للمقدمات الثلاث المذكورة ـ وهي أن للانسان هدفاً يجب أن يصل اليه في مسيرة حياته بجهوده وأعماله ، ولا يمكن الوصول إلى هدفه المنشود إلا باتباع قوانين وآداب خاصة ، ولا بد من تعلم تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة الذي نعني به التعليم الإلهي  مع رعاية القرآن الكريم هذه المقدمات الثلاث وضع مناهج الحياة للإنسان كما يلي :

جعل أساس المنهج على معرفة الله تعالى ، كما جعل الاعتقاد بوحدانيته أول الأصول الدينية ومن طريق معرفة الله دله على الميعاد والاعتقاد بيوم القيامة ، اليوم الذي يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وجعل المعاد أصلاً ثانياً ثم من طريق الاعتقاد بالمعاد دله على معرفة النبي ، لأن الجزاء على الأعمال لا يمكن إلا بعد معرفة الطاعة والمعصية وما هو حسن وما هو سيء ، ولا تتأتى هذه المعرفة إلا من طريق الوحي والنبوة ـ كما سنفصله فيما بعد ـ وجعل هذا أصلا ثالثاً.
واعتبر القرآن الكريم هذه الأصول الثلاثة ـ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد ـ أصول الدين الإسلامي.
وبعد هذا بين أصول الأخلاق المرضية والصفات الحسنة التي تناسب الأصول الثلاثة والتي لا بد أن يتحلى بها كل إنسان مؤمن ، ثم شرع له القوانين العملية التي تضمن سعادته الحقيقية وتنمي فيه الأخلاق الفاضلة والعوامل التي توصله إلى العقائد الحقة والأصول الأولية.
وهذا لأننا لا يمكن أن نصدق أن إنسانا يتصف بعفة النفس ثم ينهمك في المسائل الجنسية المحرمة ويسرق ويخون الأمانة ويختلس في معاملاته ، كما أننا لا يمكن أن نعترف بسخاء شخص يفرط في حب المال وجمعه وادخاره ويمنع حقوق الآخرين أو يبخسهم فيها ، وكذلك لا نعتبر رجلا مؤمناً بالله تعالى واليوم الآخر وهو لا يعبد الله ولا يذكره في أيامه ولياليه. فالأخلاق الفاضلة لا تبقى حية في الإنسان إلا إذا قورنت بأعمال تناسبها.
ومثل هذه النسبة التي ذكرناها بين الأعمال والأخلاق توجد أيضا بين الأخلاق والعقائد ، فإن أي إنسان مغمور بالكبر والغرور وحب الذات لا يمكن أن يعتقد بالله تعالى ويخضع لعظمته ، ومن لم يعلم طول حياته معنى الإنصاف والمروءة والعطف على الضعفاء لا يدخل في قلبه الإيمان بيوم القيامة والحساب والجزاء.
يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقة بالأخلاق المرضية : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ).
ويقول تعالى في ربط الاعتقاد بالعمل : (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون).
ونتيجة القول : إن القرآن الكريم يحتوي على منابع أصول الإسلام الثلاثة التي هي :
١ ـ أصول العقائد. وهي تنقسم إلى اصول الدين الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقائد متفرعة عنها كاللوح والقلم والقضاء والقدر والملائكة والعرض والكرسي وخلق السماوات والأرضين وأشباهها.
٢ ـ الأخلاق المرضية.
٣ ـ الأحكام الشرعية والقوانين العملية التي بين القرآن أسسها وأوكل بيان تفاصيلها إلى النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ، وجعل النبي بيان أهل بيته عليهم ‌السلام بمنزلة بيانه ، كما يعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عن السنة والشيعة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة