سياحة ثقافية

مقام الإمام الرِّضا عليه السلام (1)


كانت طوس مِن كُبريات مُدُن إيران ومِن أعظم مُدُن خراسان، وكانت تَشتمل على مدينتَيْن إحداهما طابران والأخرى نوقان، فُتِحت زمن عثمان بن عفّان.
أمّا مدينة مشهد، فقد عُرفت قديماً باسم سناباد، وهي قرية صغيرة بالقرب من طوس التّاريخيّة، فيها الكثير من الآثار والمَزارات والمقامات، وسُمِّيت بـ (مشهد المقدّسة) نسبةً إلى مشهد الإمام الرِّضا عليه السلام.
لم تَأمن مدينة طوس من الدَّمار الشَّامل الذي لحق بها جرّاء الحَملات العنيفة المتکرِّرة عليها في عام 617 هجريّة على أيْدي المغول، والأخرى بقيادة ميران شاه ابن تيمورلنك عام 791 هجريّة، ما أجبر النَّاس على الهجرة إلى مشهد، فتَوسَّعَت هذه القرية شيئاً فشيئاً حتّى بلَغت ذُروة ازدهارها في عهد الملك نادر شاه، الذي جعلها عاصمة له.
وتُعدُّ مدينة مشهد اليوم مرکزاً صناعيّاً وتجاريّاً لإقليم خراسان، وهي تبعد عن العاصمة طهران 924 كم، وتبلغ مساحتها 200 كلم2، وارتفاعها عن مستوى سطح البحر 970م، مناخها بارد في الشّتاء ومعتدل في الصّيف، ويبلغ عدد سکّانها مليوني نسمة.

المقام الرَّضوي
لمحة تاريخيّة
 كان المكان الذي أُقيم فيه الضّريح الطّاهر، قبل وفاة الإمام، بناءً يعود إلى حميد بن قطبة الطّائي أحد قادة أبي مسلم الخراساني، وعندما مات هارون العباسي عام 193 هجريّة قُبِر فيه، وحينما استُشهد الإمام الرّضا عليه السلام سنة 203 هجريّة دُفن في الموضع نفسه، وكان عليه قبّة، غير أنَّ هذه القبّة دُمِّرت عام 380 هجريّة على يد الأمير سبكتكين، لكن السُّلطان محمود بن سبكتكين جدَّد بناء تلك الرَّوضة ثمّ قام ابنه مسعود بإضافة بعض الأبنية.
وقد جدّد بناء المقام أبو طاهر، سعد بن عليّ القمّي (ت 515 هجريّة)، وزير السُّلطان السلجوقي سنجر (ت 552 هجريّة) الذي حكم خراسان وغزنة وما وراء النّهر.
ثمّ هُدِّم المقام مرّة أخرى أثناء حملات المَغول حيث لم يبقَ منه إلَّا القبّة، وأُعيد بناؤه هذه المرّة بأمر السُّلطان المَغولي -الذي استبصر- محمّد خدابنده أولجايتو (ت 716 هجريّة) على النمط الذي يَصفه الرَّحالة المعروف ابن بطوطة بعدما زار المشهد سنة 734 هجريّة حيث يقول: «وهناك قبّة رائعة ضخمة، ومدرسة ومسجد كبير، وكانت أرض هذه المباني وجدرانها تزدان بالقاشاني البديع، وكان يقوم فوق القبر ضريح من الفضّة، وكانت الأبواب المُفضَّضة، والقناديل الذّهبيّة والفضّيّة المُدلّاة من السُّقوف والسَّتائر الحريريّة المُسدلة على جوانب المكان، تزيد الوضع أبَّهةً وجلالاً».
 ومنذ ذلك الحين لم يُواجه هذا المرقد خطراً، بل ازدادت عناية الأمراء والملوك به خاصّة الصَّفويِّين، لا سيّما الشّاه عبّاس الكبير، الذي أمر بترصيع القبّة بالذهب سنة 1010 هجريّة، وازدادت هدايا الزوّار والأعيان.

بناء الضّريح
لا يُعلم متى بُني سرداب للقبر وضريح لمزار الإمام الرِّضا عليه السلام على الصُّورة التي نراها اليوم. ولكن من المسلَّم به أنّه لم يكن فوق القبر المطهَّر أيّ شبابيك أو محجّرات حتّى القرن الثامن الهجريّ، والمشهور أنَّ العصر الصفوي هو الذي شَهِد وَضع الضَّريح الطّاهر الذي تعرّض للتّغيير خمس مرّات:
الضَّريح الأوّل: ضريح خشبيّ، تُحيط به أحزمة فلزيّة، وهو مزيّن برقائق ذهبيّة وفضّيّة مُطعّمة، ويرجع زمن صناعته إلى عصر الشّاه طهماسب الصفوي (ت 984 هجريّة).
 الضَّريح الثّاني: هو ضريح حديدي مُرصَّع غير مسقوف يعُرف بضريح الزُّمرّد ، نُصِب عام 1160 هجريّة بأمر شاهرخ بن رضا ميرزا ابن السُّلطان نادر شاه الأفشاري. وكان يحتوي على قباب صغيرة مربّعة ومتشابکة (عددها حوالي 2000 قبة)، وُضعت على كلٍّ منها سبيکة من الذَّهب زُيِّنت بأربع قطع من الياقوت وقطعة من الزُّمرّد.
الضَّريح الثّالث: في عهد السُّلطان فتح علي شاه ملك القاجاريين (ت 1250 هجريّة) صُنع ضريح من الفولاذ ونُصِب فوق ضريح الزُّمرّد، وصُنِع سقفه من ورق الذَّهب، وطُلِيَ من الخارج بالذَّهب، ثمّ نُصِب عليه باب مُرصَّع.
الضَّريح الرّابع: نُصب هذا الضَّريح بإشراف المرحوم السيّد أبي الحسن حافظيان عام 1380 هجريّة/1959م. وهو مصنوع من الذَّهب والفضّة والحديد والخشب، ويَبلغ وزنه سبعة أطنان.‏
وتحتوي أضلاعه على 14 شبّاكاً تُتَوِّجُها 18 صفيحةً مُحدّبة مَطْليّة بالذَّهب، كُتب عليها عدد من الآيات الكريمة، وأسماء الله الحسنى، والأحاديث الشَّريفة، وجملة من الأشعار باللُّغتَين الفارسيّة والعربيّة، وبخطوط متعدّدة.
وعلى مدى التّاريخ، أُهديت إلى العتبة الرّضويّة المقدّسة آلاف الأغطية القماشيّة البديعة للضَّريح، نُذرت أو أُوقفت، فثُبِّتت في سجلَّات العتبة المقدَّسة، ووُضع عدد منها في المتحف أو خزانة الإمام عليه السلام.
الضَّريح الخامس: بدأ العمل به عام 1993م وتمّ نصبه عام 2000م، وحَضر مراسم افتتاحه وليُّ أمر المسلمين الإمام السيّد عليّ الخامنئي دام ظلّه.

وهو يشتمل على (14) محراباً رائعاً تيمّناً بعدد المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، ترتبط عُقودُها من فوق بِقَوس محراب أصلي كبير، يحتضنها على نحوٍ مليء بالمعاني الرّوحيّة والدلالات التّعبّديّة. وينتهي القوس العُلوي للمحراب الكبير بلفظة الجلالة «الله».
وعلى الضَّريح كتاباتٍ فنيّة قيّمة نُقِشَت عليها أسماء الله الحسنى، واسم النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وأسماء الأئمّة الإثني عشر عليهم السلام. أمّا ما في الضَّريح الشَّريف من الزَّخارف التّوريقيّة والزّهريّة، فإنّها صُمِّمت لِيكون المحوَر في إبداعها وهيئتها: العددان (5) و(8). فالعدد (5) يشير إلى أصحاب الكساء الخمسة، في حين يشير العدد (8) إلى الإمام الرِّضا ثامن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وهذا الضَّريح المبارك الذي استغرق تصميمه حوالَي سبع سنوات هو من تصميم الفنّان الشهير الأستاذ محمود فرشچيان، أمّا الخطوط الفنّية، فهي من إبداع الخطّاط المعروف الأستاذ موحِّد.
ويقع مقرّ الضّريح الطّاهر حاليّاً في وسط الأبنية التّابعة، وهي عبارة عن صحن الدّار القديمة، والجديدة ومسجد گوهرشاد والأروقة.
 أمّا مساحة الأراضي التي يقوم عليها مقرّ الضّريح والمباني التي تحيط به فتبلغ مساحتها حوالي 40000 م2، يقوم على 5040 م2 منها الضّريح وأروقته، و5211 م2 خُصِّصت للشّرفات المواجهة للشّوارع الجانبيّة، و4950 م2 يحتلّها الصّحن الجديد، و7150 م2 الصّحن القديم، و8798 م2 يقوم عليها مسجد كوهرشاد، و8000 م2 يستقرّ عليها مبنى وصحن دار المتحف الرّضوي.
ــــــــــــ
أحمد الموسوي، مجلة شعائر العدد 18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة