علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (4)

د جاسم العلوي

التصنيع النووي في الشمس والضبط الدقيق لأصل الحياة
إن فرضية الانفجار الكوني هي الأكثر قبولًا في الوسط العلمي. وبعد لحظة الانفجار الكوني العظيم بدأ الكون يتمدد وكلما تمدد قلت درجة حرارته. وفي الفترة الأولى للانفجار وقبل عملية التصنيع النووي التي تتم داخل النجوم، تكونت عناصر الهيدروجين والهليوم والليثيوم في الثلاثة دقائق الأولى، حيث كانت درجة حرارة الكون مناسبة لتكون مثل هذه العناصر. وكل العناصر الأثقل من الليثيوم لا يمكن أن تتكون في تلك الفترة. فعنصر البريليوم الذي عدده الذري أربعة وهو يزيد عن العدد الذري لعنصر الليثيوم بواحد هو إلى حد كبير غير مستقر. فما أن يتشكل حتى ينحل إلى عنصر الليثيوم في زمن قدره 16- 10 من الثانية وهو زمن قصير للغاية. وبالتالي فإن جميع عناصر البريليوم التي تكونت في المرحل الأولى للانفجار ستتحول إلى عنصر الليثيوم في ظرف زمن قصير جدًّا. وهنا برزت معضلة تشكل الكربون والأوكسجين وبقية العناصر الثقيلة في الكون. ولقد واجة العلماء هذا السؤال المحير، كيف وأين تكون الكربون الذي هو أصل الحياة في هذا الكون؟ إذا أخذنا بالاعتبار العمر القصير جدًّا للبريليوم.

تتكون العناصر في النجوم نتيجة الاندماج النووي بين أنوية الهيدروجين. الاندماج النووي لا يحدث في الظروف العادية بل يحتاج حرارة عالية جدًّا حتى يمكن لهذه الأنوية من التغلب على قوة التنافر الكهربائي بين أنوية العناصر، توفر النجوم التي هي أشبه بفرن نووي كبير هذه الحرارة الكبيرة وتجبرها على الاندماج لتكون أنوية عناصر أثقل منها. وبهذه الطريقة يتم تصنيع أغلب العناصر الموجودة على الأرض. لكن كيف يتخلصوا من معضلة الزمن القصير جدًّا لعنصر البريليوم حتى يمكن أن يتشكل الكربون؟

في عام 1952 اقترح سال بيتر Salpeter أن الكربون يتشكل في العملاق الأكبر وهو نجم كبير أشد لمعانًا من الشمس ويطلق طاقة ضوئية هائلة ويتكون هذا النجم نتيجة اضمحلال غاز الهيدروجين في النجم مع مرور الزمن حيث تندمج أنوية الهيدروجين مكونة الهيليوم. وعندئذ يكون درجة حرارة مركز النجم إلى 100 مليون درجة كالفين. هذه الدرجة من الحرارة تجعل من تكون البريليوم وثم اندماجه مع الهليوم لتكوين الكربون ممكنًا. حيث معدل تصادم واندماج أنوية الهليوم والبريليوم في مثل هذه الدرجة من الحرارة أكبر منة معدل انحلاله.

تفاعل الرنين
في عام 1957 اكتشف فريد هويلي أن تصنيع الكربون في النجم العملاق ينطوي على ضبط دقيق. الكربون يتكون نتيجة اندماج ثلاثة أنوية من الهليوم ولكن هناك احتمال ضئيل جدًّا أن يتكون الكربون مباشرة نتيجة اندماج ثلاثة أنوية من الهليوم، وإنما يتكون الكربون بتوسط عملية أخرى وهي التي أشرنا إليها حيث تندمج نواتي عنصر الهليوم لتكون البريليوم ثم يندم البريليوم مع نواة الهليوم ليعطي هذا الاندماج الكربون. اكتشف هويلي أن هناك خاصية مميزة لنواة الكربون وهو وجود مستوى من الطاقة محدد يسميها ”الرنين” وهذا المستوى من الطاقة يعزز من فرص اندماج البريليوم والهليوم قبل فترة انحلال البريليوم. إذن حتى يكون إنتاج الكربون ممكنًا يجب أن يكون تفاعل الهليوم والبريليوم يحقق هذا المستوى من الطاقة حتى ينتج الكربون. ومستوى الرنين يتأثر بالقوة النووية، فإذا اختلفت بمقدار أربعة بالمئة فإن الكربون لن يتشكل ولن تتشكل الحياة على الأرض.
كتب هويل «لا اعتقد أن أي عالم يختبر الأدلة سيعجز عن التوصل لاستنتاج أن قوانين الفيزياء النووية قد صممت بشكل متعمد نظرًا للتبعات التي تنتجها داخل النجوم».

ظاهرة الضبط الدقيق والمحتوى المادي للكون
المصير النهائي للكون يمكن أن يحدده كمية وطبيعة المادة التي يحتويها. وأحد أهم النتائج غير المتوقعة في علم الكون الحديث أن معظم كتلة الكون غير مرئية وتختلف عن طبيعة المادة العادية، المادة المظلمة.
معامل الكثافة هو نسبة كثافة الكون الفعلية إلى الكثافة الحرجة.

إذا كان معامل الكثافة مساويًا للواحد فإن الكون يستمر في التوسع وإذا كان أكثر من واحد فإن الكون ينهار، وإذا كان أقل من واحد فإن الكون سيتسارع وتنفصل أجزاءه عن بعضها البعض وثم يبرد وينتهي.

الكثافة الحرجة الحالية للكون:

الأبحاث تميل إلى أن معامل كثافة الكون تقترب جدًّا من الواحد!! هذا يجعل الكون في وضع استثنائي جدًّا. إن المحتوى المادي المختلف للكون يجعل من هذا المعامل يساوي واحدًا تقريبًا. يوجد في هذا الكون المادة العادية المعروفة وهي تشكل أربعة بالمئة من مادة الكون الكلية ويوجد أيضًا المادة المظلمة وهي مادة غير معلومة ونسبتها من المادة الكلية 23 بالمئة وأما الطاقة المظلمة فإنها تسهم ب 73 بالمئة من مادة الكون. وإذا كان معامل الكثافة الحالي يقترب من الواحد هذا يلزم إن كان في السابق وعند لحظة الانفجار الكوني واحدًا أيضًا، وهذا ما يعرف بمشكلة التسطح. لكن المذهل حقًّا والذي تعجز عن وصفة الشعور بالدهشة جميع لغات العالم أن هذا الواحد ليس فقط واحدًا بل هو رقم دقيق للغاية.

الحسابات تعطينا تصورًا دقيقًا لمشكلة التسطح التي رقمها الواحد. إن معامل الكثافة في اللحظة الأولى للانفجار (زمن بلانك) يجب أن يقع في هذا المدى وإلا لن يتشكل الكون .


وقبل أن ننهي من وصف هذه الظاهرة لنستمع إلى ستيفن هوكينغ المنافح عن الإلحاد، يقول في كتابه التصميم العظيم
"فمعظم الثوابت الأساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى أنها لو عدلت بمقادير بسيطة، فإن الكون سيختلف كيفيًّا وسيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطور الحياة".

الاستنتاج: الأدلة التجريبية تشير إلى أن وجود حياة ذكية هو احتمال ضعيف للغاية إلا إذا كان هناك ضبط دقيق إلى الثوابت الأساسية والشروط الابتدائية وميكانيزم للتطور.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة