علمٌ وفكر

هل الكوارث والشرور تناقض برهان النظم؟ (2)

 

وجود الشرور اعتباري غير حقيقي

من الواضح أنّ النور موجود والظلّ موجود أيضاً، وحيثما وجد النور وجد الظلّ إلى جانبه، ولكنّ الظلّ ليس سوى فقدان النور الذي يكون له مبدأ معيّن مثل الشمس أو المصباح، فإذا سطعت أشعة النور على مكان ما نوّرته، واذا لم تسطع على مكان معين كان هناك ظلّ، فهل توجد هنا حاجة للبحث عن مبدأ الظلّ؟ الجواب واضح، ولذلك فلا حاجة للبحث عن مصدر وجود الظلال في هذا العالم، ولا معنى للسؤال القائل: إنّ الشمس هي مبدأ النور، فما هو مبدأ الظلال في هذا العالم؟

وهذا المثال يصدق على عالم الخلق عموماً، فالظلمات والشرور هي عدميات هذا العالم، ولذلك فلا حاجة للاعتقاد بوجود مبدأ مستقلّ لها.

بذلك ينحلّ الإشكال الذي تثيره عقيدة الثنوية، ولكن يبقى إشكال تعارض وجود الشرّ مع أصل الحكمة وأصل العدل، إذ يثار هنا الإشكال الآتي: أنتم تقولون: إنّ مبدأ العالم واحد وهو حكيم وعادل، فلماذا خلق العالم بصورة تظهر كلّ هذه الظلمات والشرور ولو بشكل أمور عدمية؟ ألم يكن قادراً على خلق العالم بصورة يكون النور فيها مطلقاً؟ لماذا لم يملأ هذه الفراغات العدمية التي تشكّلها في الواقع هذه الظلمات والأمور العدمية؟

 

إدارة عالم الخلق وفقاً لقانون كلي

إنّ مشاهداتنا لظواهر هذا العالم الدنيوي تدلّنا على حقيقة كونه يدار طبقاً لقانون كلّي، وليس طبقاً لقانون جزئي، بل إنّ هذه الفكرة قد انتشرت بين الجميع ويقرّ بها الموحّدون أيضاً، وهي تعني أنّ حياة كلّ إنسان خاضعة لقانون كلي عام يعبّر عنه القرآن الكريم بكلمة "السنّة"، وهذا ينفي أن أكون أنا محكوماً بقانون جزئي خاصّ بي، يختلف عن القانون الجزئي الذي يحكمك أنت، أو القانون الذي يحكم الشخص الفلاني، أي إنّ الله يدير العالم بإرادة كلية عامّة، وليس بإرادات شخصية وجزئية، حسب المصطلح الفلسفي، فهذا محال، لأنّ الإرادة الجزئية الشخصية من شأن الموجود الحادث الذي يخضع لتأثير عوامل أخرى تجعله يأخذ بهذه الإرادة حيناً وبتلك الإرادة حيناً آخر، أمّا واجب الوجود فذاته عين إرادته، وإرادته عين ذاته، ومحال أن يكون على غير ذلك. ولذلك، فلا يناسب مقام القدوسية سوى أن يدير شؤون العالم طبقاً لنظام كلّي وقانون كلّي مثلما خلق كلّ عالم الوجود بإرادة كلّية شاملة.

ويكفينا لفتح باب الجواب عن الشبهة المتقدّمة إدراك الحقيقتين المتقدّمتين، وهما: الأولى هي أنّ الله يدير شؤون هذا العالم بإرادة كلّية وسنّة وقانون عام، وليس بإرادات شخصية وجزئية. والثانية هي أنّ التغيّر والتأثّر وتبادل التأثير بين علل هذا العالم الدنيوي هي لوازم طبيعية وذاتية فيه. وبعد معرفة هاتين الحقيقتين ينفتح باب الجواب الذي نعرضه فيما يأتي:

 

غلبة الخير على الشرّ في نظام عالم الخلق

لننظر إلى الوضع الموجود فعلاً في عالم الدنيا من زاوية توفّر الحكمة فيه ونحسب مجموع ما فيه من خير وشرّ، لنعرف هل أنّ الغالب عليه هو الخير أم الشرّ الملازم لهذا الخير، انطلاقاً من عدم إمكانية الفصل بينهما؟

نحن نصف السنة التي تهطل فيها الأمطار بالمقدار المطلوب، وتشرق الشمس بالمقدار المتناسب، وتعطي جميع الأشجار ثمارها، بأنّها سنة خير، فيما نصف السنة التي تشهد موجة من البرد الشديد تتلف ثمار الأشجار في بداية ظهورها بأنّها سنة شرّ، ونحن نعلم أنّ وجود البرد الشديد ضروري في نظام العالم مثلما أنّ وجود دفء الشمس ضروري فيه، فهما متلازمان في هذا النظام، ولكن ما ينبغي لنا أن نعرفه هنا هو: هل أنّ الغلبة في هذا النظام للخير أم للشرّ؟ هل أنّ الأصل فيه: هو خير يطرأ عليه شرّ أم شرّ يطرأ عليه خير؟

إذا كان الخير هو حصيلة مجموع ما في نظام العالم، فلا يمكن الاعتراض على خلقه، لأنّ عدم خلقه بسبب وجود هذا الشرّ القليل يعني الحرمان من الخير الكثير، وهذا الحرمان هو - بحدِّ ذاته شر كثير. وقد قاموا هنا بعرض تقسيم خاصّ، فقالوا: إنّ الموجودات إمّا أن تكون خيراً مطلقاً - ومثل ذلك غير موجود في هذا العالم الدنيوي -، وإمّا أن تكون شرّاً مطلقاً - ومثل هذا غير موجود في أيّ عالم من العوالم -، لأنّ الموجود الذي يكون شرّاً إنّما يكون شرّاً لغيره لا لنفسه، فهو خير لذاته، ولذلك فلا وجود للشرّ المطلق.

ومع نفي وجود هذين النوعين من الموجودات تبقى ثلاثة أقسام محتملة:

الأول: يشمل الموجودات التي يغلب فيها الخير على الشرّ.

الثاني: ويشمل الموجودات التي يغلب فيها الشرّ على الخير.

الثالث: ويشمل الموجودات التي يتساوى فيها الخير والشرّ.

والموجود في نظام العالم الدنيوي هو القسم الأول، يضاف إلى ذلك أنّ هذا النظام هو نظام التطوّر والتكامل الوجودي، والشرور أقلّية فيه.

 

هذه نظرية فلسفية لرد الشبهة مورد البحث من الأساس، وهي تثبت توفّر الحكمة في خلق العالم، وتدحض الأساس الذي تنطلق منه أسئلة، من قبيل: لماذا لم تملأ الفراغات الموجودة في هذا العالم؟ ولماذا توجد هذه الأمور العدمية فيه؟ ونظائر هذه الأسئلة التي ترجع في النهاية إلى سؤال محوري هو: لماذا خلق هذا العالم بهذه الصورة؟ إذ إنّ هذه النظرية تبيّن أنّ طبيعة هذا العالم تستلزم وجود الشرّ إلى جانب الخير فيه، ولا يمكن تحقّق الهدف من خلقه إلا بخلقه بهذه الصورة، ولذلك قال الفلاسفة عن خلقه: (ليس في الإمكان أبدع ممّا كان)، أي إنّ تصوّر إمكانية خلقه بصورة أخرى وطبيعة أخرى وتحقّق الهدف من خلقه، لهو مجرّد فرض ووهم، لا واقع له.

 

الشرور لازم ذاتي في عالم الطبيعة

إنّ الموجودات تشبه بالكامل في مراتبها الوجودية الأعداد في مراتبها، فمرتبة كلّ عدد هي قوام ذاته، بمعنى أنّ مرتبته ليست حالة عارضة عليه، بحيث إنّ وجوده مستقلّ عنها، كما هو حال المكان بالنسبة للجالس فيه، إذ إنّ وجود الجالس مستقلّ، عن المكان الذي يجلس فيه، فهويّته الوجودية تبقى محفوظة حيثما جلس، في هذا المكان المعيّن أو غيره، أي إنّ هذه الأماكن والمناصب والحالات عارضة علينا مستقلّة عن أصل وجوداتنا، ولكنّ الحال مع الأعداد يختلف، إذ إنّ مرتبة كلّ عدد هي قوام وجوده وذاته، فمرتبة العدد 5 تقع بين العددين 4 و 6، وإذا فرضنا انتقاله إلى مرتبة تقع بين العددين 15 و17 فإنه لن يفقد مرتبته ومكانه فقط، بل سيفقد هويّته أيضاً، بمعنى أنّه لن يكون العدد 5 بل العدد 16، فكون العدد 16 هو العدد 16 ملازم لوقوعه في مرتبة بين العددين 15 و 17، كذلك الحال مع العدد 5 فهويّته ملازمة لمرتبته الواقعة بين العددين 4 و 6، فلا يمكن الفصل بين العدد ومرتبته، ولا يصحّ القول بأنّ علّة خارجية معينة - أو توافقات اجتماعية معينة - هي التي جعلت العدد 5 بين العددين 4 و 6وكان من الممكن وضعه بين العددين 15 و 17 مثلاً، كلا هذا القول ليس صحيحاً، بل الصحيح هو أنّ مرتبة العدد قوام ذاته. كذالك الحال مع جميع موجودات هذا العالم، فمرتبة كلّ منها قوام ذاته.

وعليه، فإنّ هذه الكيفية من الوجود - أي الوجود المختلط بالعدم - تشكّل المقوّم الذاتي لموجودات عالم الطبيعة. فمن اللوازم الذاتية لذلك وجود الشباب والشيخوخة في هذا العالم الدنيوي، وكذلك تحرّك الإنسان من حالة أوّلية هي - مثلا- الذرة الأولى التي تكون فيما بعد النطفة ثمّ ظهوره بشكل جنين ثمّ وليد ثمّ شاب ثمّ شيخ ثمّ يتبدّل إلى صورة أخرى، عند انتقاله من هذا العالم إلى عالم آخر.

 

* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة