علمٌ وفكر

المؤاخذات على الشيوعية

 

السيد محمد باقر الصدر ..

الواقع : أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب ، هذا من ناحية . ومن ناحية أُخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه ؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية ، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي . وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحلّ الحاسم لمشكلتها الكبرى ، ولم تحصل على الدواء الذي يطبّب أدواءها ، ويستأصل أعراضها الخبيثة .

أمّا مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدّاً : فإنّ من شأنه القضاء على حرّيات الأفراد لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيّات الخاصّة ؛ وذلك لأنّ هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامّة إلى حدّ الآن على الأقلّ ـ كما يعترف بذلك زعماؤه ـ باعتبار أنّ الإنسان المادّي لا يزال يفكّر تفكيراً ذاتيّاً ، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود . ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الأفراد نهائيّاً ويقضي على الدوافع الذاتية قضاءً تاماً موضعَ التنفيذِ ، يتطلّب قوّة حازمة تمسك زمام المجتمع بيدٍ حديدية ، وتحبس كلّ صوتٍ يعلو فيه ، وتخنق كلّ نفس يتردّد في أوساطه ، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر ، وتضرب على الأُمّة نطاقاً لا يجوز أن تتعدّاه بحال ، وتعاقب على التهمة والظنّة ؛ لئلاّ يفلت الزمام من يدها فجأة . وهذا أمر طبيعيٌّ في كلّ نظامٍ يراد فرضه على الأُمّة قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعمَّ روحيّته .

نعم ، لو أخذ الإنسان المادّي يفكّر تفكيراً اجتماعياً ، ويعقل مصالحه بعقليّة جماعية ، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصّة والأهواء الذاتية والانبعاثات النفسية ؛ لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الأفراد ، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير . ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادّي الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ، ولا يعرف معنىً لها إلاّ اللذّة المادّية ، يحتاج إلى معجزة تخلق الجنّة في الدنيا ، وتنزل بها من السماء إلى الأرض . والشيوعيّون يعِدوننا بهذه الجنّة ، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعملُ على طبيعة الإنسان ، ويخلقه من جديد إنساناً مثاليّاً في أفكاره وأعماله ، وإن لم يكن يؤمن بذرّة من القيم المثالية والأخلاقية . ولو تحقّقت هذه المعجزة ، فلنا معهم  حينئذٍ ، كلام .

وأمّا الآن فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم ، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته ، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية ، ومنعها عن الانطلاق بكلّ أُسلوب من الأساليب . والفرد في ظلّ هذا النظام وإن كسب تأميناً كاملاً ، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته ؛ لأنّ الثروة الجماعية تمدُّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة ، ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرّية المهذّبة ، ويضطرّ إلى إذابة شخصه في النار ، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم ؟!

وكيف يمكن أن يطمع بالحرّية ـ في ميدان من الميادين ـ إنسان حُرِمَ من الحرّية في معيشته ، ورُبِطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معيّنة ، مع أنّ الحرّية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحرّيات جميعاً ؟

ويعتذر عن ذلك المعتذرون ، فيتساءلون : ماذا يصنع الإنسان بالحرّية والاستمتاع بحقّ النقد والإعلان عن آرائه ، وهو يرزح تحت عبءٍ اجتماعيٍّ فظيع ؟! وماذا يجديه أن يناقش ويعترض ، وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرّية ؟ !

وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية ، كأنّها القضيّة الاجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيّتهم في الميدان ، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها ؛ لأنّهم رأوا فيها خطراً على التيّار الاجتماعيّ العامّ  ولكن من حقّ الإنسانية أن لا تضحّي بشيء من مقوّماتها وحقوقها ما دامت غير مضطرّة إلى ذلك ، وإنّها إنّما وقفت موقف التخيير بين كرامة هي من الحقّ المعنويّ للإنسانية ، وبين حاجة هي من الحقّ المادّي لها ، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ، ويوفَّق إلى حلّ المشكلتين .

إنّ إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته ، ولا يطمئنُّ إلى حياة طيّبة ، وأجر عادل ، وتأمين في أوقات الحاجة ، لهو إنسان قد حُرِمَ من التمتّع بالحياة ، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرّة . كما أنّ إنساناً يعيش مهدَّداً في كلّ لحظة ، مُحاسَباً على كلّ حركة ، ومُعرَّضاً للاعتقال بدون محاكمة ، وللسجن والنفي والقتل لأدنى بادرة ، لهو إنسان مروّع مرعوب ، يسلبه الخوف حلاوة العيش ، وينغّص الرعب عليه ملاذّ الحياة .

والإنسان الثالث المطمئنّ إلى معيشته ، الواثق بكرامته وسلامته ، هو حلم الإنسانية العذب . فكيف يتحقّق هذا الحلم ؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة ؟

وقد قلنا : إنّ العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقصٌ ، مضافاً إلى ما أشرنا إليه من مضاعفات . فهو وإن كان تتمثّل فيه عواطف ومشاعر إنسانية أثارها الطغيان الاجتماعيّ العامّ ، فأهاب بجملة من المفكّرين إلى الحلّ الجديد ، غير أنّهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه ، وإنّما قضوا على شيء آخر ، فلم يُوفَّقوا في العلاج ، ولم ينجحوا في التطبيب .

إنّ مبدأ الملكية الخاصّة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة التي زعزعت سعادة العالم وهناءه ، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من الأعمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم ، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ، ولا هو الذي يفرض لتحكّم في أُجور الأجير وجهوده بلا حساب ، ولا هو الذي يفرض على الرأسماليّ أن يتلف كمّيات كبيرة من منتوجاته ؛ تحفّظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها ، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا وامتصاص جهود المدينين بلا إنتاج ولا عمل ، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق ؛ ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها ، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواق جديدة وإنْ انتُهكت بذلك حرّيات الأُمم وحقوقها ، وضاعت كرامتها وحرّيتها .

كلّ هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكيّة الخاصّة ، وإنّما هي وليدة المصلحة المادّية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي ، والمبرّر المطلق لجميع التصرّفات والمعاملات . فالمجتمع حين تقام أسسه على هذا المقياس الفردي والمبرِّر الذاتي ، لا يمكن أن يُنتظَر منه غير ما وقع ؛ فإنّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلّها ، لا من مبدأ الملكية الخاصّة ، فلو أُبدل المقياس ، ووضعت للحياة غاية جديدة مهذّبة تنسجم مع طبيعة الإنسان ، لتحقَّق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة