علمٌ وفكر

ميدان حريّة الإنسان وإرادته


الشهيد مرتضى مطهري ..

1- ما هي العوامل التي تحدّ من حريّة الإنسان؟
2- كيف يتغلّب الإنسان على العامل الوراثي أو الجغرافي؟
3- كيف نفسّر القضاء والقدر في ضوء حرية الإنسان؟
4- ما هي شروط التكليف العامة؟
5- ما هي شروط صحة التكليف؟
6- ما معنى قبح العقاب بلا بيان؟
من الواضح أن للإنسان حدوداً كثيرة، بل إنّ حريته في ذاتها نسبيةٌ، ومع ذلك هو قادرٌ على اختيار مستقبله السعيد أو الشقي في ضمن تلك الدائرة من الحرية.
1- الوراثة
إنّ الإنسان يولد بالجبر إنساناً، وذلك لأنّ أبويه إنسانان، وهما يودعان فيه عدداً من صفاتهم الموروثة جبراً أيضاً، من قبيل لون البشرة والعينين، فهو لم يختر شيئاً من ذلك.
2- الظروف الاجتماعية
إنّ بيئة الإنسان الإجتماعية كثيراً ما تفرض عليه لغةً خاصةً وديناً خاصاً ونظاماً وآداباً وتقاليد خاصةً، فالبيئة تلعب دوراً كبيراً في بناء شخصية الإنسان.
3- الظروف الطبيعية والجغرافية
تضفي على أعضاء الإنسان الجسمية والنفسية وبشكل جبري أيضاً لوناً وطابعاً خاصاً، كسمرة البشرة وخشونة الطبع في المناطق الصحرواية مثلاً، بخلافه في المناطق المعتدلة.
4- التاريخ والعوامل الزمنية
لا شك أن الإنسان يتأثر بالحاضر وما يجري من حوله، كما يتأثر بالماضي والحوادث الواقعة فيه، فما وقع في غابر الزمان يترك أثره وبصورة جبرية على حاضر ومستقبل الإنسان، فالماضي والمستقبل مترابطان ترابطاً وثيقاً، بل إنّ الماضي يشكل نطفة المستقبل ونواته.


تمرّد الإنسان على الحدود
على الرغم من أنّ الإنسان لم ينجُ من تأثير ما مرّ من عوامل ومحدوديات، لكن لا يلجئه ذلك إلى حدّ الجبر، بل يبقى قادراً على محو الكثير من آثارها والتمرّد على عددٍ كبيرٍ من تلك الحدود نفسها، فهو بمعونة قوّة العلم والعقل من جهة، وقدرة الإرادة والإيمان من جهة أخرى يستطيع أن يوجد تغييرات جذرية بحسب ما يتلاءم مع رغباته، وبالتالي يكون هو المقرِّر لمصيره ومستقبله.


القضاء والقدر الإلهيين
لماذا لم يذكر القضاء والقدر من العوامل المحددة لحرية الإنسان كما يعتقد الكثير من الناس؟
والجواب: إنهما ليسا من العوامل المحدّدة لحرية الإنسان، لأنّ القضاء الإلهي عبارة عن الحكم الإلهي القطعي حول الحوادث. والقدر عبارة عن قياس تلك الحوادث.
ومن المسلَّم به في العلوم الإلهية أنّ القضاء الإلهي لا يتعلّق بأيّة حادثة بصورةٍ مباشرةٍ، بل يكون تعلّقه بها بالواسطة، وإنما كلّ حادثةٍ توجبها عللُها وأسبابُها فقط، أما القضاء فإنّه يحكم بأن يكون النظام الحاكم للعالم نظام الأسباب والمسببات والعِلل والمعلولات. والحرية الإنسانية كانت بحكم القضاء الإلهي، كما أنه خضع لحكم القضاء أن يكون الإنسان مزّوداً بالعقل والعلم والقوّة والإرادة، تلك الجهات التي تجعله يسيطر على الرغبات والميول والظروف وكلّ العوامل المؤثرة في تحديد مستقبله، ويخضعها كلّها بحسب ميوله ورغباته، ليصنع مستقبله بيده دون أن يخرج ذلك عن القضاء الإلهي الذي يحكم النظام العام للكون.


الإنسان والتكليف
يستطيع الإنسان دون غيره من الموجودات أن يعيش ضمن دائرة تحيط بها مجموعة من الأنظمة والقوانين، فهو قادر على إلزام نفسه بهذا القانون أو ذاك، وما ذلك إلا لوجود القابلية والإمكانية والقدرة عنده للالتزام بالقانون.
ولا يخلو الالتزام بالقانون من نوعٍ من أنواع المشقّة، وهو ما يعبّر عنه بالتكليف. والمشرّع قبل أن يلقي على الإنسان مسؤولية التكليف عليه أن يراعي عدداً من الشروط يُعبّر عنها بـ:


الشروط العامة للتكليف
ومعنى الشرط العام هو أنه إذا لم يتوفر لم يكن هناك تكليف وواجب، وهي:
1- البلوغ
الطبيعي منه لا يمكن تحديده بصورة دقيقة لجميع الأفراد، لأنّ مميزات الأفراد الفردية والمحيطة لها تأثير في سرعة البلوغ وتأخيره، لكن ما هو متيقن أن البلوغ عند جنس المرأة قبله عند الرجل.
ولا بدّ من تحديد عمر معيّن يعتبر السن المتوسط للجميع بالإضافة إلى شرط الرشد في الفقه الإسلامي ليكون ضابطاً لجميع الأفراد، وقد حدّد البلوغ القانوني وفقاً لرأي أكثرية علماء الشيعة عند الرجل بإتمام الخامسة عشرة قمرية، وعند المرأة بإكمالها التاسعة ودخولها بالعاشرة.
والإنسان غير مكلّف ما لم يصل إلى مرحلة البلوغ القانوني إلا أن يثبت بالدليل أنه وصل إلى مرحلة البلوغ الطبيعي قبل البلوغ القانوني.
2- العقل
فالمجنون لا يكلّف حال الجنون، ويتعامل مع الصبي غير البالغ كما يتعامل مع المجنون من ناحية عدم توجّه التكليف إليه حال صغره أو حال جنونه، فلو كبر أو أفاق من جنونه فلا يطالب بقضاء ما فاته وهو صغير أو وهو مجنون.
3- الإطلاع والوعي
وهو أصل عقلي اصطلح عليه علماء الأصول "بقبح العقاب بلا بيان"، بمعنى أن معاقبة من لا يعلم بالتكليف ولم يكن مقصِّراً في كسب الإطلاع قبيح عقلاً. لكن الإنسان مكلّف بتحصيل العلم والاطلاع ثم ممارسة نشاطه وفقاً لاطلاعه، وهذا ما يسدّ باب الجهل والتذرع أمام المولى بعدم العلم.
4- القدرة والتمكن
لا ريب أن قدرات الإنسان محدودة، وعليه فلابدّ أن تكون التكاليف بحدود القدرة، ومن هنا عبّر علم الأصول عن هذا الشرط "بأنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً"، بمعنى أن الأمر الذي لا يقدر عليه الإنسان يقبح على المشرّع أن يكلّفه به، لأنّه خلاف حكمة وعدله:لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا1.
والتكليف المشروط بالقدرة كالتكليف المشروط بالاطلاع يجب على الإنسان أن يحصل القدرة، ويعاقب على تقصيره بتحصيلها كما يعاقب على تقصيره بطلب المعرفة، ومن هنا قد لا تعاقب الأمّة على عدم مواجهتها العدو الظالم القوي ولكنّها تعاقب لأنها لم تعدّ له العدّة من قبل، وقد قال تعالى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ2.
عليه لا يعدّ العجز عذراً دائماً.


الحرية والاختيار
فلا ينبغي أن يكون الإنسان مجبراً أو مضطراً عندما يكون مكلفاً بإنجاز التكليف، فالجائع المشرف على الموت الذي لا يجد أمامه غير الميتة يسقط عنه تكليف حرمة أكل الميتة، والصائم الذي فوقه جبار يهدّده بالقتل يسقط عنه وجوب الصوم، وما ذلك إلا لهذا الشرط الدال عليه الحديث النبوي:"رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة"3.


فرق الإجبار عن الاضطرار
1- لا تهديد مع الاضطرار، بينما في الإكراه والإجبار هناك تهديد من قوّة أعلى.
2- يبحث الإنسان في مورد الاضطرار عن سبيل لرفع الظروف القاهرة بعد تحققها، بينما في مورد الإجبار يبحث عن سبيل لدفعها قبل تحققها.
كما أنه ينبغي التنبه إلى أنه لا يمكن اعتبار الإجبار والإكراه وكذلك الاضطرار من شروط التكليف العامة، لأنها:
أولاً: لها صلة بمقدار الضرر الذي يجب رفعه أو دفعه.
وثانياً: لها صلة بأهمية التكليف الذي يريد الإنسان إنجازه، فبعض التكاليف توجب تحمل الأذى في سبيل إنجازها، كما أنه لا يجوز إزهاق أرواح الآخرين بحجة الاضطرار أو الإكراه.


شروط صحة التكليف
ومعنى شرط الصحة هو أنه لو لم يتوفر الشرط لم يؤدِّ المكلف تكليفه بشكلٍ صحيحٍ وما قام به خالياً من الشرط يعتبر باطلاً، وهي كثيرة، والملاحظ أنّ بعض شروط الصحة هي شروط تكليف وبعض شروط التكليف هي شروط صحة، فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه كما في اصطلاح المناطقة.
ولما كانت أعمال الإنسان عبادية ومعاملاتية كان من الطبيعي انقسام شروط الصحة والتكليف إلى قسمين، هما:
1- شروط العبادة.
2- شروط المعاملة.
وقد تكون بعض الشروط شرطاً مشتركاً لصحة كلّ من العبادة والمعاملة معاً.
1- العقل
شرط للتكليف وشرط للصحة أيضاً، فالمجنون كما أنه لا تكليف في حقه، كذلك لا تصحّ منه فيما لو صدرت منه اتفاقاً.
2- القدرة
شرط للتكليف والصحة، فكما أنّ المكره لا تكليف في حقه، كذلك لو صدر منه الزواج مثلاً يعتبر باطلاً.
3- البلوغ
شرطٌ للتكليف وليس شرطاً للصحة، فالطفل غير مكلفٍ لكنّه لو صار مميزاً كالبالغ وتمكن من إنجاز العمل بصورة صحيحة فيعتبر العمل منه صحيحاً، لذا يتمكن من النيابة عن الآخرين، نعم يعتقد بعض العلماء أن البلوغ شرط في صحة المعاملات لذا لا يصحّ منه إجراء عقود لنفسه أو عن غيره وإن تمكن.
4- الاطلاع والوعي وعدم الاضطرار
من شروط الصحة لا التكليف، ولذا لو تحقّقت كلّ الشروط في العمل الصادر من المكلف الذي لم يكن عالماً بالتكليف صحّ منه، وكذا لو اضطر لبيع داره مع عدم رغبته في البيع فالعقد صحيح، نعم المعاملة الجبرية غير صحيحة بخلاف الاضطرارية.
5- الرشد
شرط للصحة لا للتكليف، وهو بمعنى اللياقة والقابلية لإدارة العمل الذي يريد القيام به، فلو تحققت كلّ الشروط دون الرشد لم تكن المعاملة صحيحةً كالتصرف بالمال أو الزواج، والولاية تبقى للولي حتى يبلغ الرشد قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ4.
والإنسان من ناحيته عليه أن يدرك ذاته، من أين وفي أين وإلى أين، وعندها يعرفه منزلته وأنه أمين الله في الأرض وأنه يملك القابلية لأن يصبح أفضل من الملائكة، وما ذلك إلا لوجود قابليات فيه دون غيره من المخلوقات لم يتركها الله دون رعاية، فقد شرع له ما ينمّي قابليته الجسمية والروحية بالشكل الذي يوصله إلى الهدف السامي وهو السعادة الأبدية.
ومن هنا كان للإنسان الدور الأساس في بناء مستقبله، وهو وإن تأثر ببعض محدوديات حريته من وراثة وظروف اجتماعية وجغرافية وزمنية، لكن مع ذلك فهو يملك القدرة للتغلب على كل هذه المحدوديات وقولبة نفسه بالطباع التي يريد ويختار لنفسه.


الخلاصة
بعد وجود الفرق الشاسع بين الإنسان والحيوان من قدرات وإمكانيات وحرية واختيار صحّ أن يلقى على عاتقه التكليف، والمقنّن من ناحيته يلاحظ شروطاً في المكلف والتكليف ولا يلقي أي تكليف على المكلف من دون مراعات حاله وظرفه وقدرته وهذا ما يعبر عنه بالشروط العامة للتكليف كشرطية البلوغ، كما أن هناك شروطاً لصحة التكليف كالرشد والاطلاع، وهناك أيضا شروط للتكليف وللصحة معاً كالعقل والقدرة.
وبعد مراعاة هذه الشروط يستطيع المكلف أن يوصل كل القابليات المودعة فيه إلى كمالها وفعليتها، وعندها يصل إلى السعادة الأبدية فلا جبر ولا إكراه في كل ذلك وإنما هو الذي يصنع مستقبله ونهايته بيده.
ــــــــــــ
1- البقرة:233.
2- الأنفال:60.
3- جامع أحاديث الشيعة، أبواب المقدمات، الباب الثامن، الحديث3.
4- النساء: 6.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة