مقالات

شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام


إنّ المعتمد العباسي كان قلقاً من شعبية الإمام الحسن العسكري عليه السلام ونفوذه ومحبوبيته بين الناس، واهتمام الناس به وانجذابهم إليه، وقد عرف أن الاعتقال والاضطهاد له مردوداته عكسية، فعندئذ لجأ إلى سمّ الإمام عليه السلام وقتله، وكان ذلك في سنة 260 هجرية في 8 ربيع الأول1.
وبهذه المناسبة سنستعرض بإختصار الوضع السياسي العام في عصر الإمام عليه السلام وكيفية مواجهة السلطة الحاكمة آنذاك من قبل الإمام وأهم نشاطاته وقصة ولادة ولده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ثم نختم الحديث بمقتطفات من كلامه الشريف.


الوضع السياسي العام في عصر الإمام عليه السلام:
يطلق على فترة خلافة المتوكل العباسي وما بعده العصر العباسي الثاني، لما لهذه الفترة من خصائص امتازت بها عن خصائص العصر العباسي الأول الذي بدأ بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132ه) ـ
لقد عاصر الإمام العسكري عليه السلام في هذا العصر أعواماً عصيبة منه مع خلفاء مستبدين علوا عرش الدولة منذ أن أقدم سامراء مع أبيه الإمام الهادي عليه السلام أيام المتوكل سنة (234هـ)، واستمر مقيماً فيها إقامة جبرية حتى استشهد سنة (260هـ) في خلافة المعتمد العباسي.
وأهم ظواهر هذا العصر هو النفوذ الذي تمتع به الأتراك الذين غلبوا الخلفاء، في سلب زمام إدارة الدولة، وما اتصفوا به من سلوك شائن في التعامل مع الأهالي.


ويمكن إبراز أهم مظاهر هذا العصر فيما يلي:
1- تدهور الوضع السياسي للدولة العباسية، حيث استولى الموالي الذين كانوا في الأغلب من الأتراك، وكانت سيطرتهم على مقاليد السلطة في العاصمة والأمصار، حيث ساهموا في خلع المتوكل، والمهتدي وقتلهما، ونصب غيرهما2.
2- ظهور اللهو والمجون وحياة الترف التي كان يحياها الخليفة وأتباعه، والتي كانت عاملاً مهماً في سيطرة الأتراك، وسقوط هيبة الخليفة عند عامة الناس.
3- حوادث الشغب والفتن التي حدثت في بغداد، وكانت نتيجتها أن بويع لخليفتين في آن واحد، حيث بويع (المستعين) في بغداد، وكان الأتراك في نفس الوقت قد بايعوا المعتز في سامراء، وقد جهز الأخير جيشاً بقيادة أخيه لقتال المستعين في بغداد3.
4- ظهور الحركات الإنفصالية في أطراف الدولة، ونشأت دويلات صغيرة من هنا وهناك لا تخضع لمركزية الدولة في سامراء، وكل ذلك لضعف سلطان الخليفة، كما نشأت الحروب الدامية بين الأمراء على الأمصار، فشهدت الدولة العباسية مسرحاً لحروب دامية، ولأعمال التخريب من حرق ونهب للأموال والغلات وغيرها4.
ولكن على الرغم من الضعف الذي أحاط بالدولة العباسية في عصر الإمام عليه السلام إلا أن السلطة القائمة ضاعفت إجراءاتها التعسفية في مواجهة الإمام الحسن العسكري عليه السلام والجماعة الصالحة المنقادة لتعاليمه وإرشاداته، فلم تضعف في مراقبته، ولم تترك الشدة في التعامل معه، بسجنه أو محاولة تسفيره إلى الكوفة خشية منه، ومن حركته الفاعلة في الأمة.


نشاطات الإمام العسكري عليه السلام:
قام الإمام العسكري عليه السلام - على الرغم من حرجية المرحلة التي عاصرها، والمراقبة الشديدة له وللشخصيات الشيعية البارزة - بخطة للقيام بمهام إمامته، ويمكن سردها في النقاط التالية:
النقطة الأولى: أنه حيث اتسعت رقعة التشيع في عهده، وامتدت إلى مدن ومناطق مختلفة، وتمركز الشيعة في عدة مدن، كالكوفة وبغداد ونيشابور وقم، والمدائن واليمن والري وآذربايجان وسامراء وجرجان والبصرة، فقد أوجد الإمام عليه السلام شبكة اتصالات منظمة تؤمن اتصال الشيعة بالإمامة من جهة، واتصالهم ببعضهم من جهة أخرى، ويتم من خلال ذلك توجيههم دينياً وسياسياً ومعنوياً، فنصب الإمام العسكري عليه السلام الوكلاء، والنواب في مختلف المناطق، وبذلك كان يراقب الأوضاع، فنصب إبراهيم بن عبده في نيشابور5، وأحمد بن إسحاق في قم، وإبراهيم بن مهزيار الأهوازي، وغيرهم.
وكان على رأس وكلاء الإمام عليه السلام محمد بن عثمان العمري الذي كان حلقة الوصل بينهم وبين الإمام عليه السلام، فكانوا يأتون بالأموال والأسئلة والشبهات إليه، ويقوم هو بدوره ليدفعها إلى الإمام عليه السلام.

النقطة الثانية: كان يتصل بشيعته أيضاً عبر إرسال الرسل والمبعوثين، فكان يعالج مشاكلهم بهذا الطريق، وعلى سبيل المثال، كان عليه السلام يرسل أبا الأديان - أحد أصحابه المقربين - برسائله وخطاباته إلى شيعته، كما كان يحمل منهم أيضاً الرسائل والأسئلة والأخماس والحقوق الأخرى إلى الإمام في سامراء6.

النقطة الثالثة: كان عليه السلام يدعم ويساند الشيعة مالياً، لا سيما أصحابه المقربين، مما يمنع الكثير من أن تلجئهم الحاجة والفاقة والضغط المالي إلى الحكم العباسي الظالم، وكانت طريقة الإمام عليه السلام أن يدفع المبالغ الطائلة إلى أحد مقربيه لينفقها بدوره على شيعته ومواليه، كما فعل مع علي بن جعفر صاحبه وصاحب أبيه عليه السلام7.

النقطة الرابعة: تجهيز الشيعة وإعدادهم لعصر الغيبة، فكانت الشيعة ولعدة عقود من الزمن قد ألفت الاتصال المباشر بالإمام عليه السلام، ولم تألف غيابه عنها إلا في حالات خاصة كالسجن، بل حتى في حالة سجن الإمام عليه السلام كان هناك من يتمكن من الاتصال به، أما بعد عصر العسكري عليه السلام فستدخل الشيعة مرحلة جديدة في علاقتها وارتباطها مع الإمام عليه السلام لم تألفها بعد، وهي غياب الإمام وعدم اتصاله بشيعته، وهي مرحلة خطيرة جداً من الصعب تحملها أو الاعتقاد بها إلاّ لمن امتحن الله قلبه للإيمان، فكان دور الإمام الحسن العسكري عليه السلام أن يستخدم الأساليب التي تساعد الشيعة على التعايش والتأقلم على تلك المرحلة، فقام عليه السلام - كما ذكرنا - بالاتصال بشيعته عبر الوكلاء والنواب لتعتاد الشيعة على هذا النمط من التعامل مع الإمامة.
كما أنه أرسل إلى الخلّص من أصحابه في الأمصار يدعوهم إلى انتظار الفرج بخروج ولده الموعود المنتظر، فقد كتب إلى علي بن الحسين بن بابويه القمي جاء فيها: "... عليك بالصبر وانتظار الفرج، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج"، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإنّ ﴿الأرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ﴾، والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته"8.


اطلاعه عليه السلام على ولادة ولده الموعود:
بعد ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف أرسل الإمام العسكري إلى خلّص أصحابه يعرّفهم بولادته، كما أنه اطّلع البعض منهم عليه، فقد دخل عليه أحمد بن إسحاق - وكان من أصحابه المقربين إليه - لكي يسأله عن الخلف من بعده، فقال له الإمام مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق إن الله لم يخل الأرض منذ خلق آدم ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث وبه تخرج بركات الأرض.
قال: فقلت: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟
فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين، فقال عليه السلام: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه، والذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، مثله في هذه الأمة مثل الخضر ومثل ذي القرنين، والله ليغيبن غيبة لا ينجو من الهلكة فيها إلاّ من ثبّته الله على القول بإمامته ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه9.


مقتطفات من كلام الإمام عليه السلام:
قال عليه السلام لجماعة من شيعته: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، صلّوا في عشائركم، واشهدوا جنائزكم، وعودوا مرضاكم، وأدوا للنّاس حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى للناس الأمانة، وحسّن خلقه معهم، وقيل هذا شيعي، يسرّني ذلك. اتقوا الله وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودّةٍ، وادفعوا عنّا كل قبيحٍ، فما قيل فينا من خيرٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فنحن منه بُراء، لنا حقٌّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وولادة طيّبة لا يدّعي ذلك غيرنا إلاّ كذّاب"10.
وقال أيضاً: "ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنّما هي كثرة التفكّر في أمر الله، بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أُعطي حسده، وإن ابتلي خذله"11.
وقال أيضاً: "من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه"12.
ــــ
*المركز الإسلامي للتبليغ
1- إعلام الورى: 367، ودلائل الإمامة: 223، والأنوار البهية: 162.
2- الكامل في التاريخ 4: 301.
3- الكامل في التاريخ 4: 390.
4- تاريخ الطبري 8: 7.
5- اختيار معرفة الرجال: 575 – 580، وبحار الأنوار 50: 321 – 323.
6- المناقب لابن شهر آشوب 4: 425، وريحانة الأدب 7: 570.
7- الغيبة للطوسي: 212.
8- المناقب لابن أبي شهر آشوب 4: 425، والأنوار البهية: 161.
9- إكمال الدين 2: 384.
10- بحار الأنوار 75: 372.
11- بحار الأنوار 75: 373.
12- بحار الأنوار 75: 374.