لقاءات

أحمد الماجد: لا أصطنع القصيدة بقدر ما أغامر في كتابتها

 

نظمية الدرويش .. 

دين ونهج حياة، الاعتقاد فيه هبة، والانتماء إليه نعمة والسير في سبيله رفعة. الدين الأرحب الذي ينظم مختلف أوجه الحياة وأدقها ليس هو إلا الإسلام. إسلام محمد صلى الله عليه وآله وإسلام القرآن معجزة اللغة وإسلام الجمال المطلق (فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين).
الإسلام والشعر؛ جوهر حديثنا مع الشاعر أحمد الماجد ابن أرض الوحي والتنزيل والناهل من أصل نبع لغة القرآن وآياته المعجزة. الأديب والشاعر الذي سخر صوته لتلاوة القرآن استلهم من معدن كلام الله لغته على شاكلة أدب وشعر. 

الإسلام جذور وانفجارات
يبدأ الماجد حديثه من جذور الموضوع فالإسلام بجذوره التاريخية وبفروعه المعاصرة متداخل مع اللغة بشكل أساسي ولقد انسكب منذ القرآن على مصابيح اللغة المطفأة الجافة فتوهجت واكتسبت ظهورًا جديدًا أشبه بالمبعث اللغوي الموازي للمبعث النبوي. وقال: "ليس جديدًا أن أشير إلى أثر القرآن الكريم في تطور الكائن الشعري والذي ظهر في سلمه الجمالي والبلاغي بشكل لافت وتدريجي وصولًا للقاطرة الشعرية الأخيرة". الإسلام بما أنه منهاج للحركة فإنه مصدر انفعال وتفاعل والشاعر مفاعل عاطفي بامتياز يتأثر بكل ما يطرأ على الساحة، هذه الساحة المليئة بالأحداث القيمية غير المنفصلة عن الماضي، ولذلك يجد الماجد أنه قلّما نجد حدثًا مستقلًا عن جذر قديم في واقعنا المعاصر الملغوم بالانفعالات. والجدير بالإضاءة عدم اقتصار الإحالات الدينية على النصوص الدينية بل إلى ما عداها. مع ذلك فإن قيم الشاعر وقالبه الثقافي يحكمان عمق الأثر ويديران بوصلة قلمه.
هذا وإن الإسلام أحدث نقلات على امتداد أدواره ولم يحدث نقلة واحدة في الحياة العربية. على مر العصور كانت الأحداث حبلى بحراء جديد ومبعث جديد يستعيد به الإسلام عافيته ويعيد غربلة الواقع. في هذا السياق يعلق الماجد بأنه يمكننا مثلًا استعادة تعريف أنموذج الحركة الحسينية من صفحات المقاتل إلى انفجارات متصاعدة متعاقبة تلاحق أجفان الغبار وتعري الزمن عن أثواب الرتم والرتابة. يضيف الشاعر: "كل حركة إسلامية صافية نابعة من الحراء الأول هي نقلة أخرى تعيد هدم الصنم بشكله المعاصر. والشعر بطبيعته يحتاج لطاقة حركية أو لنقُلْ يحتاج لانفجار مقلق يقض مضاجع المعاني من شكلها المتثائب، الشعر يحتاج إلى ضجة في الواقع إلى انتفاضة في الزمن لكي لا تتيبس مفاصله الإبداعية".


ولأن الإسلام بما يحمله من مواريث حماسية وثورية وقيمية وحركية متمردة ضد كافة أشكال الاستعباد والاستغلال كان يملك الباعث الداخلي والخارجي والمخزون العاطفي على أن لا يكون حقنة عابرة في جسد الأمة بل انفعالات مستمرة يؤمن الماجد أن الحسين عليه السلام من أبرز مفاتيحها. الشعر النابع من الحدث أو ما قد يسمى بالشعر المناسباتي بقدر ما يحمل الإطار الموضوعي يحمل الدينمو الفلسفي والعرفاني والقيمي في داخله ويحمل القدرة على التجدد والابتكار رغم تجذره وهذا ما نلمسه في النصوص الشعرية المغايرة حتى الآن. 

الشعر والإسلام ضدان متعاديا!! 
يرفض الأستاذ أحمد النظرية التي تتكلم زورًا عن تعارض الإسلام والشعر ويفند ذلك بعدة عناصر منطقية فالدين نفسه يحمل مكامن شاعرية تحرض على الشعر والإبداع والانفعال. القيم الدينية الغنية بالتمرد والجرأة والتحرر الإيجابي والمساواة والتراحم تعد منطلقات للانفعال الشاعري وتحفز على الانطلاق خارج الإطارات. يشدد الماجد على حقيقة أن الشعر كابتكار للكلام بشكل ذكي ومدهش لا تقيده ماهية الموضوع فقد ينفعل الشاعر مع موضوع دون آخر فيبدع فيه حسب تكوينه الثقافي. الشاعر المتدين المتمكن من أدواته الشعرية، كحال شاعرنا، لن يشعر بأي تقييد معيق قياسًا مع رشاقة اللغة وسهولة تشكيلها وسعة مدلولاتها وطاقة مفرداتها لديه. الشاعر الرشيق في لغته يمتلك مساحات أعرض من أن يعيقه فيها المحظور الديني.

وهل يحتاج الإبداع إلا إلى انفعال ومفردة وفكرة؟ يجيب الشاعر أحمد الماجد نفسه فيقول: "نعم يمكنني القول إن بعض الدين وتحديدًا بعض الاتجاهات الإسلامية تميزت عن غيرها بإلغاء أو تقييد التأويل مع أنه ركيزة أساسية من جماليات اللغة". هنا يتفق الماجد أن ثمة قراءة دينية للنص تعمد إلى تجميد النص بظاهره متجاهلة بذلك كون اللغة مادة سائلة لا صلبة ويمكن تقليبها مجازيًّا. وفي حين أن الماجد لا يحبذ الدخول إلى الجدل التفسيري للنصوص القرآنية والدينية عمومًا ولكنه يشير إلى أنه ثمة قراءة تشكل مأزقًا لإحدى ضروريات اللغة الجمالية وتكبل المجاز. "نعلم جيدًا أن القرآن نفسه استخدم المجاز في مواطن كثيرة إذ كيف يكون إعجازا بلاغيًّا محيَّدًا عن توظيف المجاز وهو أس اللغة. تقع القراءة النقدية في أزمة إشكالية إذا كانت لا تملك السعة الأفقية للتعدد التأويلي وتتكاسل عن فك الحيل المجازية المحبوكة بالذكاء التأويلي". وبحسب الماجد فالتأويل لب البلاغة وهو الإشكال الذي أدى لانقسام القراءات حول النصوص الدينية نفسها ونتج عنه تعدد المذاهب. هذا الانقسام الذي لم يكن محببًا في تعدد قراءاتِ النص الديني يمثل بالمقابل ميزة جمالية ضرورية للنص الشعري. يضيف الماجد "حسب فهمي للإسلام فإنه يقبل هذه الميزة التأويلية المجازية لكونها موجودة في القرآن نفسه والتي تجعل تفسيره ضروريًّا. نعم لا يجدر بالنص أن يكون هلاميًّا بحيث تنعدم فيه الخرائط ولكن يجب أن يكون ممكن الاحتمالات متعدد الطرق دون أن يصطدم النص ببعضه أو أن يكون مناقضًا لذاته. تعدد القراءات المتوازية يزيد من تشويق النص وإثارته ولعلها شرط من شروط النص الحديث ذي الصور الخيالية المموهة. بالمقابل أوافق على أن بعض الاستخدامات الجريئة في النص الديني ليست مقبولة وتحديدًا تلك التي تصطنع الدهشة بخداع المتلقي من خلال اللعب بالثوابت من قبيل نسبة الذات الإلهية للمخلوق وغيرها، بل إنها قد تحيلنا لإفلاس خيالي آني عانى منه الشاعر أثناء الكتابة فنتجت عنه شيخوخة النص المتعكز على مفاجأة المتلقي بمداعبة الثوابت، الشاعر المتمكن من أدواته لا يحتاج لجرح المقدس بل لخلق الفكرة الجديدة".

هل "الشعر بمعزل عن الدين"؟
يحدثنا الشاعر أحمد الماجد في هذا الباب بأسلوبه الواضح فيقول: "عندما أحاكم النص الشعري في الموضوع الديني وأجد فيه كل الشروط الإبداعية من فكرة ودهشة ورؤية وعمق ولغة مجازية متماسكة".  ويمثل لنا الماجد بنصوص حسن السنيد/ جواد جميل مثلًا، فبحسب شاعرنا فسيكون من التجني تجاهل النص الديني كأنموذج متكامل من نماذج الشعر التي تؤكد ليس على تصالح الدين والشعر بل على بعث الدين للشعر موضوعًا وأسلوبًا. النص الديني فرض نفسه بالفن الواقع على الساحة الإبداعية.

وبحسب الماجد فإن جواد جميل يؤكد على ذلك بحساسية إبداعية طافحة في ديوانه الحسين لغة ثانية فيقول:
«صمتُهُ مئذنَهْ
والجراحُ قناديلُ من وهج،
والسيوفُ انطفاءْ»
هكذا قالت الريحُ،
ثمّ رَمَتْ وجهها في العراءْ
هكذا تخشعُ الأزمنَة،
فوق أقدامِهِ،
وتؤدّي الفصولُ طقوسَ البكاءْ
* * *
صمتُهُ مئذنَهْ
كلَّما فَرشَت ظلَّها،
هوَّمت فيه عصفورةٌ،
وغَفَت سوسنَهْ!

الشعر إعلام العصور الإسلامية
في ظل كل ما سبق من كلام يؤكد الشاعر أحمد الماجد أهمية دور الشعر في الحقبات الإسلامية فالشعر، على حد تعبير شاعرنا، مؤثر ومتأثر في كل شيء، الشعر يجري في عروق الروح مجرى الدماء في عروق الجسد. كان للشعر دوره الإعلامي البارز في تخليد الكثير من الأحداث، الشعر كاميرا الماضي وسينما التاريخ. القصائد كانت شرائط الفيديو التي تصف المشهد كالصورة والصوت. وهكذا كان الشعر مادة الصحافة التي واكبت انفعالات الشاعر مع الأحداث. 
تلويحتانِ وهذي البقعةُ الحمرا
مَيْتٌ يسُلُّ سيوفَ اللحظةِ الأخرى   
يقول للوقت للمعنى لمصرعِهِ
جرحٌ يبارزُ لا يحتاجُ أن يبرا
جرحٌ أبيٌّ تحبُّ الشمسُ عتْبتَهُ
تقاطَرَ الدَّمُ من شريانِهِ صَخْرا
ضلوعهُ أم مناراتٌ مبضعةٌ
أذانُها يستمدُّ الكسرَ فالكسْرا   
مذ خرَّ جرَّتْ خيولَ الوقتِ لحظتُهُ
وساعةُ الفحمِ دارتْ حوله جمْرا
السهمُ أفلتَ جرحًا فاقشعرَّ مدىً
وأطلقَ المُهْرَ من أحلامِهِ الكبرى .

دور اليوم
الإسلام يعاني من آفة تأويلية أكلت الكثير من ملامحه الأصيلة وأدت لانقسامات وصراعات نشهدها بكامل تفاصيلها. لذلك يؤمن الماجد أن الشعر يمكن أن يساهم في تنقية الصورة المشوهة للدين ويمحو الكثير من التراكمات التي تكدست على الوجه الأجمل للرسول الأكرم وأهل بيته وعلى ذلك يجنح للكتابة النقدية في نصوصي وأحاكم الواقع الديني تحيزًا للتأصيل الحقيقي. وكتب شاعرنا في النبي محمد صلى الله عليه وآله وفي الإمام الحسين عليه السلام.

يعلق الماجد في هذا السياق بالقول: "حاولت أن أبين فهمي للنبي وللحسين محيدًا كل التراكمات التي صنعها الزمن بشكل اعتيادي نتيجة التقادم. نعم يستطيع الشعر أن يضع الضوء على القضايا الإسلامية الأساسية وينتصر للحقيقة بأدواته الخيالية وأن يخمش وجه العتمة. الشعر فطرة ذوقية يميل لها الإنسان ومن الجدير اغتنامه واستثماره وتوظيفه".

في النص: نبيٌّ تحت القصف يقول الماجد: 
يا آيةً سقطَتْ في القصفِ،
مُصْحَفُها ضمدْتُهُ بالصدى الباقي لأنشُرَهُ
قالت قصيدتيَ التعبى التي خرجَتْ من الركامِ:
انتشلْ غيبًا لتشعُرَهُ
خرَّت منَ الوحيِ مِرآةٌ مقدسةٌ
هاكَ الزجاجَ الذي التأويلُ كسَّرَهُ!
بحثتُ عنكَ وأنقاضٌ على شفتي
سأرفعُ اسمكَ يا شوقي وسُكَّرَهُ
على الرياحِ أذانات مكسَّرَةٌ
والصوتُ يلفظُ من رجْعين جَوْهَرَهُ
والفجرُ دَنَّسَهُ ليلٌ بلا شَرَفٍ
ولا بلالَ يعيرُ الطهرَ أَسْمَرَهُ
واجبي هويتي :مسلم ثم شاعر

"أعتقد أني معني بتقديم الإسلام بصورته السمحاء والانتصار للقضايا الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين التي أعتبرها القضية الأنصع على مستوى العالم والتي تمتلك الإكسير السحري لتوحيد الأمة الإسلامية والعالم الحر. هذه هي انفعالاتي على الأقل وبذلك أزعم أنني لا أصطنع القصيدة بقدر ما أغامر في كتابتها". بهذه الكلمات يختصر الأستاذ أحمد الماجد واجباته التي يعتبرها في ركن هويته الإنسانية وبالتالي الشعرية. 

في النص: بالدم تتوضأ الفرشاة يختم الماجد بمسك ختام لحديثنا الغني معه. 
"في جعبة الراوي نصوصٌ حرةٌ تقتحمُ السياجْ 
أعرفُ أني حجرٌ وأنهم زجاجْ وكل شيء في البلادِ قبضةٌ وكل تلٍّ كتفٌ 
وكل عشبٍ للغد القادمِ بندقية الصبح في تأهبٍ بطلقةِ النهارْ مدينتي عروسةُ الثوارْ 
ترابطُ الأزهارُ منذ عطرها بجانب الأسوارْ 
أطفالها تذوذ عن تأريخها بمدفعِ الأعمارْ 
مدينتي على طفولة اسمها قنابلٌ تشيخْ 
مدينتي تشبثت بخصلتيَّ واقتفت مشطي إلى أواخر الدمارْ 
سأنهش الحصارَ بالحصارْ سأخمشُ الرصاصَ بالزيتونِ 
سأطلقُ البارودَ من عروقي أذوذ عن يافطة القدسِ على الطريقِ 
فزرقة البحارِ 
وصفرة الصحاري 
وخضرة الأشجارِ 
وحمرة الأزهارِ 
والنقشُ في سواري 
صكوك أرضٍ لم تزل تناورُ الشظيةْ 
فانتظري يا شمسُ 
فانتظري يا شمسُ إنّ الفجر لن يطلع إلا أن تعودَ القدس

مواقيت الصلاة