من التاريخ

أم البنين وارثة الزهراء عليهما السلام (3)

 

الشيخ محمد العبيدان
مع العلامة المقرم:
هذا وقبل التعقيب على ما ذكره(ره)، نشير إلى أن صريح كلامه في كتابه حول العباس بن أمير المؤمنين(ع) في موارد متعددة الالتـزام بكونها على قيد الحياة بعد واقعة الطف، فمن تلك الموارد قوله أن السيدة زينب(ع) قد زارت السيدة أم البنين(ع) بعد وصولهم إلى المدينة تعزيها بأولادها، كما أنها كانت تزورها في أيام العيد[7].
ولا يخفى صراحة العبارة المذكورة في أن وارثة الزهراء(ع) كانت على قيد الحياة بعد واقعة الطف، وإلا فلا معنى لأن تكون السيدة زينب(ع) تزوها.
ومنها: عند مناقشته لبعض من تحدث في وراثة أبي الفضل(ع) لأخوته(ع)، قال معقباً: وما أدري كيف خفي عليهما-أي المؤرخين المذكورين الطبري والأصفهاني- عدم إمكان حيازة العباس ميراث أخوته مع وجود أمهم أم البنين، وهي من الطبقة المتقدمة على الأخ، ولم يجهل العباس شريعة تربى خلالها.
ومنها: في حديثه أيضاً عن عدم إمكان وراثة العباس(ع) لأخوته، قال: وهناك مانع آخر من ميراث العباس لهم وحده، حتى لو قلنا على بعد، ومنه بوفاة أم البنين يوم الطف لوجود الأطرف وعبيد الله بن النهشلية، كما يشاركهم سيد شباب أهل الجنة، وزينب وأم كلثوم، وغيرهن من بنات أمير المؤمنين-إلى أن قال-هذا إن قلنا بوفاة أم البنين يوم الطف، ولكن التاريخ يثبت حياتها يومئذٍ، وأنها بقيت بالمدينة وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.
ومنها: ما ذكره في أن أول من رثى أبا الفضل العباس(ع) هي أمه أم البنين(ع)، قال: وأول من رثى العباس أمه أم البنين كما في مقاتل الطالبيـين، فإنها كانت تخرج إلى البقيع تندب أولادها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس لسماع ندبتها.
ولا يخفى أن مقتضى ما ذكر من الموارد يستكشف منه أن هناك تنافياً بين القولين، فبينما هو يصرح في كتاب العباس بن أمير المؤمنين(ع) بوجودها على قيد الحياة بعد فاجعة الطف، يتأمل، بل ينكر حياتها إلى ما بعد الواقعة المؤلمة، ويشير إلى عدم وجود ما يمكن الاعتماد عليه في مقام إثبات ذلك، وعليه، فأي الرأيـين يمكن التعويل عليه، فلو قلنا بأن كلا الأمرين يعبر عن شهادة منه(ره) فلا مجال للقول بالتعامل معهما معاملة المتقدم والمتأخر والناسخ والمنسوخ، بل يكونا تعارضين، ومع عدم وجود المرجح لأحدهما سوف يسقطا عن الاعتبار والحجية.


أما لو بني كما هو غير بعيد أنه مجرد حدس، ورؤية، وليس شهادة في البين، فعندها سوف يلحظ أي القولين هو الأحدث ليحكم بكونه ناسخاً للقول الأول، مع الالتـزام بكونه(ره) معرضاً عن القول السابق، المبني على كونه ذاكراً له غير ملتفت عنه، وإلا فلو بني على وجود غفلة منه عن قوله السابق، فلا مجال للبناء على الأخذ بأحدثهما، فلاحظ.
والظاهر أنه لم يتضح أي الكتابين هو المتأخر تأليفاً، ما يمنع من ترجيح أحد القولين على الآخر، الموجب للتوقف في مختاره(ره)، فتأمل.
وأما بالنسبة لما أفاده(ره) تأملاً في الأقوال الثلاثة، فإنه يمكن الجواب عما ذكره في القول الأول، بأن العبارة المذكورة وإن لم تكن صريحة في حياتها، فإنها ليست صريحة أيضاً في وفاتها. مضافاً إلى أنه قد جرت العادة غالباً أن يعقد مجلس العزاء في مجلس يكون صاحب الدار والمعزى موجوداً، وعليه فعقد مجلس العزاء في داره، يدل ولو بالدليل الإني على أنها كانت موجودة في تلك الفترة.
وما أجاب به ثانياً فمردود، بأنه ليس المقام مورد استدلال حتى يكون المورد من صغريات الخبر، أو من صغريات الحكاية، بل إن المقام من موارد نقل القضية التاريخية، ومن الطبيعي جداً أن يكون ذلك مأخوذاً على نحو الحكاية، فلاحظ.
وأما جوابه عن القول الثاني، فإن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، كما هو واضح، وسكوت الشيخ السماوي، لا يعني أنه ليس محيطاً بالكتاب، ونسبته، فتأمل جيداً.
وأما القول الثالث، فإن المناقشة تعتمد على أنه يعتبر في الرواية التاريخية ما يعتبر أقلاً في الرواية الفرعية من لزوم إحراز أصالة الصدور إما بالوثوق أو بالوثاقة، ومع عدم توفر ذلك، فلا يمكن الاستناد إليها.
والصحيح أن الرواية التاريخية تختلف عن الرواية الفرعية، فلا يعتبر في حصول إحراز أصالة الصدور ما يعتبر فيها، بل يكتفى في حصول ذلك أن تكون مأخوذة من كتاب محرز النسبة لمؤلفه، ولم يعرف مؤلفه بالكذب والتدليس، ولا تكون مشتملة على ما يكون منافياً لا القواعد العقلائية، ولا القواعد الشرعية، فضلاً عن عدم اشتمالها على ما ينافي مقام الغمامة والعصمة.
ولا إشكال في توفر الأمر المذكور في الرواة محل البحث، خصوصاً وأن المناقشة المذكورة في المتن لن تصلح للمانعية، كما سيتضح فانتظر.
ثم إنه لو لم يقبل بما ذكرنا من الضابطة في الرواية التاريخية، فإنه يمكن دفع المناقشة السندية، إذ قد عرفت أن منشأ التضعيف اشتماله على شخصين، فلو أمكن توثيقهما سواء بالتوثيق الخاص، أم بالتوثيق العام كان ذلك موجباً لعلاج المشكلة السندية، وهذان هما:


الأول: النوفلي، وقد عرفه(ره) بأنه يزيد بن المغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم.
هذا والمسمى بهذا الاسم في النصوص والأخبار عدة أشخاص، منهم: الحسن بن محمد بن سهل، وعبد الله بن الفضل بن عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، والحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك النوفلي، وعلي بن محمد بن سليمان النوفلي.
والمعروف في الفقه لكثرة رواياته هو الحسين بن يزيد، ولا طريق لتوثيق إلا من خلال التوثيق العام، كما أشير لذلك في البحوث الرجالية، فلتلاحظ.
ولا ريب في أنه ليس هذا الذي يروي عنه الأصفهاني في المقاتل، وهل المقصود به ما ذكره السيد المقرم(ره)، الظاهر أيضاً أنه ليس هو، بل هو شخص آخر يظهر من خلال التتبع في مقاتل الأصفهاني، وعند ملاحظة البقية ممن ذكر، نجد أن بعضاً منهم من أصحاب الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) ما يعني أن طبقته تمنع من أن يكون المقصود به في مرويات الأصفهاني في مقاتل الطالبيين، فيتعين أن المقصود به هو علي بن محمد بن سليمان النوفلي، والقرينة على ذلك أمران، ملاحظة الطبقة، وكثرة اعتماد الأصفهاني في المقاتل عليه، إذ أن كثرة التتبع في الكتاب المذكور تفيد أنه أحد الأسماء التي أكثر الاعتماد عليها.
نعم يبقى أن عليًّا هذا ليس له توثيق خاص، لكنه ثبت أنه إمامي، ولم يرد فيه قدح، ما يعني أن خبره على أقل التقادير سوف يكون في الأخبار الحسان، وقد دل الدليل على حجية الخبر الحسن، كحجية الخبر الثقة، فلاحظ.
على أنه يمكن الركون في توثيقه إلى بعض التوثيقات العامة لو قبل بها، مثل عدم استثنائه من كتاب نوادر الحكمة، بناء على أن الاستثناء للرواة وليس للروايات.
ومثل ملاحظة مضمون النصوص التي رواها، فإنه ممن روى في العقائد كما جاء ذلك في أصول الكافي، وكذا روى في الفروع الفقهية أيضاً، إلا أنه ليس مكثراً، فلاحظ.
بل يمكن التعويل على مسلك شيخنا التبريزي(قده) من أنه من المعاريف، فإنه إمامي ممدوح، لم يرد فيه قدح، ولا ذم، وله موارد غير قليلة، فلاحظ.
بل يمكن القول أن مجموع ما ذكر من الوجوه يوجب الاطمئنان عند الفقيه بوثاقته، لأن ضم كل واحد منها على البقية وفقاً لحساب الاحتمال الرياضي يولد ذلك، وإن كان كل منها لا يحقق ذلك على نحو الاستقلال.
الثاني: معاوية بن عمار، وقد عرفت أنه(ره) ردده بين ابن أبي معاوية، وهو مضعف، وبين غيره، فيكون مجهولاً.
والصحيح أن المقصود به في المقام بمقتضى روايته عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) معاوية بن عمار العجلي الدهني، من أصحاب أبي عبد الله الصادق(ع)، وهو الذي سماه بابن أبي معاوية، وقد نص على توثيقه وعلو منـزلته وعظم شأنه من تعرض له من الرجاليـين، فلاحظ ما ذكره فيه النجاشي.


ولم يتضح لي الموجب لبحث السيد(ره) عن توثيقه في كتب القوم، مع أن الرواية عن الإمام الصادق(ع)، وكيف غفل عن أن يكون أحد أصحابه المترجمين في كتبنا الرجالية، والفهارس المعدودة لذكر مصنفات أصحابنا لكن العصمة لأهلها.
وأما ما ذ كره من موانع في متن الخبر يوجب رفع اليد عنه، فيمكن دفعها، إذ يجاب عن الأولى، أنه لم يتضح أن خروجها للبقيع للبكاء على مفقوديها كان منافياً لحجابها وحشمتها وعفتها، إذ لا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى.
ويجاب عن الثانية، بأن مجرد عدم اعتياد ذلك لا يمنع من وقوعه خارجاً، إذ ما أكثر ما يكون خروجاً على المألوف والمعتاد، وأمثلته ونماذجه في الخارج كثيرة جداً.
وجواب الثالثة، إن المحاولة التي سعى لها أبو الفرج لن تحقق له غايته، لأن الجميع يعرف من هو مروان الوزغ بن الوزغ، فإنه الذي شمت بقتل المولى أبي عبد الله(ع)، ومجرد صدور البكاء منه خارجاً وحصول الدمع من عينه، يوجب حمل ذلك على ما يسمى بدموع التماسيح، والبكاء الكاذب، فلاحظ.
وأما الرابعة، فإن حصول المناقضة من أبي الفرج لا تعني سقوط الخبر، فإن أقصى ما يتصور أن أبا الفرج كان له رأيان متناقضان، لكن هذا لا يعني سقوط دليل كل منهما، فتدبر.
على أن في البين احتمالاً ذكره المحقق المتتبع الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه القيم الذريعة، وهو حصول تصحيف وتحريف في العبارة، فعوضاً عن أن تكون العبارة هكذا: أرثيكم، كتبت أرثكم، ومن الواضح جداً تقارب الرسم بين العبارتين، فضلاً عن إمكانية حصول الاجتهاد من النساخ إذ تصوروا أن المقصود هو الوراثة فعمدوا إلى عملية التصحيح، فلاحظ.
هذا ويمكن أن يذكر مؤيداً لما اخترناه من حياتها(ع) بعد واقعة الطف، بل يجعل دليلاً وفقاً لما بنينا عليه في القضية التاريخية، حوارها مع بشر بن حذلم يوم دخل المدينة ناعياً الإمام الحسين(ع)فقد ذكر العلامة المامقاني(قده) في تنقيحه، أن بشراً قال: رأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلما وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين(ع)، فعلمت أنها ذاهلة، لأني أنادي: قتل الحسين، وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين(ع)، فأشفقت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.

فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.
فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين(ع)
قال، فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.
فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين(ع).
قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر.
قالت: ما سألتك عن جعفر، فإن ولدي وما أظلته السماء فداء للحسين(ع)، أخبرني عن الحسين(ع).
قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس.
قال: بشر، لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها، وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين.
قال، فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين(ع)[8].
والمتحصل مما تقدم، تمامية الدليل على كون وارثة الزهراء(ع) كانت على قيد الحياة بعد واقعة الطف، فلاحظ.


وفاتها:
إن المتداول على الألسن أنه ليس لمولاتنا أم البنين(ع) تاريخاً محدداً في وفاتها، وإنما اتخذ يوم الثالث عشر من شهر جمادى الثانية من قبل بعض العلماء(رض)، وتبانى عليه من جاء بعده، حتى صار يوماً تحيى فيه ذكراها(ع).
إلا أن هناك رواية تنقل في غير مصدر نقلاً عن كتاب كنز المطالب للسيد محمد باقر القراباغي الهمداني(ره)، تفيد خلاف ذلك، فقد ورد في الاختيارات عن الأعمش قال: دخلت على الإمام زين العابدين(ع) في الثالث عشر من جمادى الثاني وكان يوم جمعة، فدخل الفضل بن العباس(ع) وهو باك حزين وهو يقول: لقد ماتت جدتي أن البنين.
نعم لم يتضمن الخبر المذكور ذكراً لسنة الوفاة، بل اقتصر على ذكر اليوم والتأريخ والشهر، نعم مقتضى ما قدمنا من وجودها إلى ما بعد فاجعة الطف فمن الطبيعي أن تكون وفاتها بعد ذلك. إلا أنه قد حددت السنة في وقائع الأيام والشهور للبيرجندي، وأن ذلك كان في السنة الرابعة والستين من الهجرة النبوية.
ــــــــــــــــــ
[7] العباس بن أمير المؤمنين ص 72.
[8] تنقيح المقال ج 3 باب الهمزة من فصل النساء ص 70.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة