مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

أعظم تجليات الحب البشريّ... حول الحياة العاطفيّة للمسلم الواقعيّ

 

السيد عباس نورالدين
الحب خيار وهو ليس بالاختيار!
ألا تتناقض هذه الجملة؟
بالرغم من التناقض الظاهريّ، لكن هذه الجملة تحمل معها الكثير من المعاني العميقة. فنحن الذين نختار أن نعيش الحب، لكنّنا بمجرّد أن نسلك طريقه حتى نفقد زمام أمورنا.. 
لقد جبل الله تعالى فطرة الناس على الحب؛ فإذا حفظنا هذه الطينة واستجبنا لنداء فطرتها، صار الحب قائد مسيرة حياتنا؛ فنصبح من الذين لا يتحرّكون إلّا بدافع الحب.
وبالعودة إلى هذه الفطرة، ينبغي أن نعلم بأنّ الإنسانية إذا استوت وانحفظت وصارت عنوان شخصية المرء، فسوف تنبعث فيها تلك القوّة الإلهيّة الأصيلة التي تكون مسؤولة عن جميع الميول التي توجّه سلوك الإنسان وأفعاله.
وإنّما وصفنا الفطرة بالإلهية لأنّها ليست من بنات أي تربية أو ثقافة ولا تكون صنيعة ظروف يبتدعها البشر. ويكفي أن يسمح أي بشريّ لإنسانيته بالحياة والتأثير، حتى يشعر بقوّة الميول التي تجذبه إلى كل خير وكمال وجمال. وفي الواقع إنّ الخير والكمال يتّصفان بالحسن والجمال؛ ولذلك فإنّهما سببان للانجذاب.
وإذا اشتدّ هذا الانجذاب يصبح حبًّا وعشقًا؛ ولكل حب لوازم وآثار؛ وأشهر آثاره ولوازمه: الشوق والرغبة الشديدة بالوصال والاتّصال وتقديم رضا المحبوب والتضحية من أجل سعادته وخيره. ولهذا كان الحب أعظم سبب لتخلية الإنسان من أنانيته وتعلّقه بذاته. وإذا أراد الله بعبد خيرًا ألقى في قلبه هذا الحب وجعله عنوان حياته.


من الصعب إذا كنت تعيش في بيئة خشنة مقفرة جافّة نفعية أحادية العقلانية أن تختبر معنى الحب وتعيشه. ولهذا، ينطلق المسلم من الوعي بحقيقة الفطرة بحثًا عنها. ويندر أن تجد كتابات معمّقة وجذابة حول هذه القوّة الإلهية الجوهرية في أوساطنا؛ وعليه، فمن الطبيعي أن ينضب الحب في مثل هذه البيئات الدينية؛ فكيف إذا أضفنا هنا عامل العداء للتراث الصوفيّ العشقيّ، ثمّ مزجناه بالتصوّر السطحيّ حول انحصار الحب في الجنس واللهو والنساء!
يحتاج المسلم لكي يختبر الحب الحقيقيّ إلى عبور حقول الألغام هذه، وإلى السير الحذر بين هذه النيران المحرقة، عسى أن يختبر الحب الصافي يومًا. لكن ما يهوّن الخطب هو وجود أسباب قويّة لانبعاث الفطرة؛ وأشهر هذه الأسباب هي وجود أولئك الذين يمثّلون المظهر الأتم للكمال والجمال في هذه البيئة الصحراوية الجافة. 
الرحمة والشفقة والإنسانية ترقّق القلب وتجعله مستعدًّا للحب؛ لكنّ الحب أمرٌ أعمق وأقوى. فكل ما تعرفه عن الاندفاع القويّ والحركة الهادرة والحيوية الشديدة والسعي المحموم لبلوغ الغايات السامية لا يتأتّى إلا في ظلّ الحب. ولهذا، عرّف أهل المعنويات طريقتهم بالمحبة، وقالوا إنّ السلوك الحقيقيّ يبدأ من منزل الحب.
وسرّ ذلك أنّ الله تعالى قد خلق الأشياء كلّها من الجاذبة الحبّية "أحببت أن أُعرف". ولأنّ كل الأشياء ينبغي أن تسير نحو غايتها، ولأنّ كل سير لا بدّ فيه من دافع، ولأنّ سير الإنسان لا بدّ أن يعبر جميع الحدود الذاتية والمصالح الشخصية والتعلّقات النفسية، فلا يوجد سوى هذا الحب الحقيقيّ يمكن أن يحقّق هذا الهدف.
وباختصار، جبل الله طينة البشر بهذا الحب الذي يرتبط به دون سواه؛ ففي وجود كل إنسان حب حقيقي لله تعالى، وما عليه إلا أن يحرّره ويعتقه من تلك القيود التي تكبته، حتى يدرك روعة حب الكامل المطلق وفوق الإطلاق.
أجل، إنّ اختبار الحب في الناس يمثّل مرحلة مهمّة. فمن عشق مخلوقًا أدرك قوّة الحب، لكن ما لم يعِ حقيقته ويفهم سرّه الإلهي، فلا يمكن أن يحفظه، فضلًا عن أن يصل إلى ما هو أعلى منه. وبسبب جهلنا بهذه الحقيقة غالبًا ما نخسر هذا الحب البشريّ، فنخسر معه فرصة الحب الأعلى والأسمى.


يتوقّف المسلم الواقعيّ عند أي خير ونعمة وظاهرة وجوديّة إلهية، ويبحث عن أسبابها وأسرارها. ولا شك بأنّ حبّه لأي إنسان هو أحد هذه الظواهر الكبرى في الحياة؛ فلا يمكن أن يمرّ عليه مرور الكرام.
غالبًا ما نغلّف حبّنا بالمصالح الشخصية والأنانيات، فنخنقه بشحّ الأنفس، قبل أن ينطق لنا بحكاية حقيقة الحب. وقد يتقن البعض منّا هذه الخدعة للذات، فيستمر تجوالهم في عالم الحب لسنوات مديدة، من دون أن يكتشفوا سرّه.. لكنّ الحب الواقعيّ هو الذي يوصلنا بعمق حقيقتنا، ويحقّق لنا ذلك الوعي الذي نحتاج إليه لندرك من نحن ولمَ نحن.
إذا قُدّر للمؤمن توفيق اكتشاف معنى الحب ودوره في عالم الوجود، وحصل له الاتّصال الواعي بفطرته، فإنّه سيصبح إنسانًا آخر. وهذه هي الميزة الكبرى للمسلم الواقعيّ. فهو محبّ، وحبّه عميق وقويّ وهادر وجارف؛ ولأجل ذلك تكون حياته غنية بالمعاني ومليئة بالأحداث الملهمة ومفعمة بالإثارة الشديدة.
فالحب عنده مرتبط بأصل وجوده وسرّ خلقته؛ وهو يعي تمامًا مستوى حضور إرادة الله ومشيئته في الحب؛ ولأجل ذلك فإنّه يبحث عن الحب كما يبحث عن الله. ولا يرضى بأن يكون ذلك الإيمان السطحيّ والتصديق الجدليّ منتهى حظّه من هذه الحياة. وهكذا يصبح الوصول إلى هذا الحبّ الإلهيّ العميق الهدف الأسمى الذي يصبو إليه في الليل والنهار.
ولأنّ الحب فعلٌ إلهيّ قبل أي شيء، ولأنّنا نعلم بأنّ الله خلقنا لنحبّه ونعشقه، فإنّنا متأكّدون بأنّه تعالى قد جعل كل شيء علامة ودليلًا إلى هذا الحب؛ بدءًا من أنفسنا وانتهاءً بأدنى وأحقر شيء في هذا العالم. وهذا ما دفع بعض العارفين أن يقول:
                 أنا للعالم عاشق      إذ العالم كلّه منه 


ولهذا، فإنّ المسلم الواقعيّ ينظر بنظر الحب إلى الكائنات قبل أن ينظر إليها بنظر المصلحة أو الاكتشاف أو التسخير. فما الذي تقتضيه المحبة تجاه أي مخلوق نصادفه؟ وما الذي يمكن أن يفعله المحب في مثل هذه المقابلة؟
كل هذه الشريعة التي تحتوي على مجموع الوظائف والمسؤوليات تتضمّن قضية الحب في جوهرها. وسرعان ما يكتشف العامل التقيّ المتمسّك بحبل الله ورضوانه، أنّ وراء هذه الصلاة وهذا الجهاد وهذا الحج وهذا الصوم وكل فريضة أخرى عشق أو نفخ للهيب الحبّ في القلب.
ولأنّ التشبّه بالمحبوبين يجعلنا مثلهم ويشكّلنا على شاكلتهم في الروح والمعنى، فقد أمرنا الله بحبّ الصالحين وجعل المودّة لذوي القربى من آل البيت عليهم السلام أجر الرسالة نتقرّب بذلك إلى الله فنقترب منه. إنّ الحب لكي ينتج هذه النتائج الطيبة على صعيد الروح والقلب ينبغي أن يكون صافيًا من التعلّقات والأنانيات؛ أي ينبغي أن يكون حبًّا حقيقيًّا وليس حبًّا للنفس؛ وإلا لما كان محرّكًا ولا مبدلًا للجوهر الإنسانيّ. فإذا أحب المرء شخصًا لشهوة ما أو حاجة، أسدل على قلبه حجب القطيعة بدل الوصال. وإذا كانت النساء بالنسبة للرجال عنوان الشهوة والمنفعة والحاجة، فمن الصعب تجاوز كل هذه العقبات وتحقيق تلك المحبة الصافية النقية عند أكثر الرجال. وسوف يكون الكثير من الحب الذي يدّعونه ليس سوى تلك الشهوة والتعلّق. إلا أن يكون هذا الرجل على مشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قال: "حُبّب إلي من دنياكم ثلاث، النساء والطيب وقرّة عيني الصلاة".
إنّ قسمًا كبيرًا من الحياة العاطفية للمسلم الواقعيّ يرتبط بتطهير القلب من كل ما يمكن أن يعيق الحب ويلوّثه، وخصوصًا ما يكون تحت عنوان الحب. ولأنّنا نعيش في ظلّ ثقافات تتلاعب بالحب وتهتكه فعلينا أن نكون واعين جدًّا لكيلا نفقد تلك الجذوة الإلهية إلى الأبد. فإذا حصل هذا ـ والعياذ بالله ـ انتقلنا من هذا العالم خالي الوفاض.
يتجرّأ أصحاب الثقافة المادية المنحطّة على الإجهار بحبّ الطعام والشراب وما هو أرخص وأدنى. ونعيش الكثير من التجارب المرّة في الحب؛ ومعظمنا يفقد الحب الذي خبره ذات يوم؛ وأكثر المحبّين يشاهدون حبّهم يذوي مع الأيام. فمن الذي يقدر على الانتقال من هذا العالم عاشقًا؟! 
إذا كنت تبحث عن أعظم ضامن للبقاء على خط الله فاطلب الحبّ، كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مناجاته: "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلًا؟ ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حِوَلًا؟"

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة