مقالات

التأسي والاقتداء برسول الله(ص) (1)

 

الشيخ محمد العبيدان
قال تعالى:- (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)[1].
لقد تضمنت الآية الشريفة التي افتتحنا بها المقام حكماً وهو التأسي برسول الله(ص)، ومن المعلوم أن التأسي به(ص) ليس لكونه محمد بن عبد الله(ص)، المخلوق البشري فقط، وإنما يعود التأسي به لكونه نبياً مرسلاً من السماء، وأن جميع ما يصدر منه يمثل الجنبة الشرعية والرؤية الدينية، وهو السنة، فيكون حجة.
وحتى يصح الاستدلال بالآية المباركة، لابد من توفر أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون المقصود من الأسوة في الآية الشريفة بمعنى القدوة، وليس شيئاً آخر.
الثاني: دلالة الآية المباركة على وجوب الاقتداء بالنبي(ص)، وليس جواز ذلك.
الثالث: شمول الاقتداء به لأقواله وأفعاله، وتقريراته، وعدم اختصاص ذلك بالأقوال فقط، وإلا كانت الحجية لها فقط.


حقيقة القدوة:
أما الأمر الأول، فإن المستفاد من كلمات اللغويـين، وجود استعمالين لمفردة الأسوة:
الأول: أنها بمعنى القدوة، وهي تعني المتابعة في ما يصدر عنه، نعم هل يشمل ذلك الاقتداء به في أقواله، كما يقتدى به في أفعاله، أم لا؟ ربما قيل، أن الاقتداء به يختص بالجانب العملي، وهذا يمنع دلالة الآية على حجية السنة، لأنها سوف تكون أخص من المدعى، لأن السنة كما عرفت في تعريفها، تشمل الأقوال والأفعال والتقريرات، وليس خصوص الأقوال كما هو مقتضى مدلول الآية المباركة، كما هو غير بعيد.
الثاني: أنها بمعنى المواساة بالصبر عند حلول المصيبة، كما صبر الآخر عندما حلت عليه تلك المصيبة وأصابته.
ومن الواضح، أنه لو بني على المعنى الثاني للأسوة، سوف تكون الآية الشريفة أجنبية تماماً عن المدعى.
وقد نص اللغويون على كلا الاستعمالين، ما يعني الحاجة إلى ملاحظة القرائن المرتبطة بالآية كي ما يحدد أي المعنيـين المقصود منها.


وقد ذكرت قرينتين لإرادة المعنى الثاني فيها:
الأولى: السياق، بملاحظة ما تقدم عليها من الآيات، قال تعالى:- (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب تودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً)[2]، فإن مفاد الآيات ملاحظة ما جرى على رسول الله(ص)، فقد تألم في الحروب، وكسرت رباعيته، فاصبروا كما صبر رسول الله(ص)، تأسياً به ومواساة، ويساعد على ذلك الآيات التي تلتها مباشرة، قال تعالى:- (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)[3]
الثانية: ما تضمنته بعض النصوص الواردة في تفسيرها:
منها: في كتاب الاحتجاج للطبرسي(ره)، عن أمير المؤمنين(ع)-في حديث طويل-وفيه: ولأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه(ص):- (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)[4]، وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته، بقوله:- (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[5]. فإن المستفاد منه أن الله تعالى قد أوجب الصبر على ولاة الأمر تأسياً برسول الله(ص)، ومن الواضح، أن جعله عليهم إنما يناسب المعنى الثاني للأسوة، دون المعنى الأول.
ومنها: في أصول الكافي، عن أبي عبد الله الحسين بن علي(ع) قال: لما قبضت فاطمة(ع) دفنها أمير المؤمنين(ع) سراً وعفى على موضع قبرها، ثم قال: فحول وجهه إلى قبر رسول الله(ص) فقال: السلام عليك يا رسول الله عني والسلام عليك عن ابنتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفى عن سيدة نساء العالمين تجلدي إلا أن في التأسي لي بسنتك في فرقتك موضع تعز[6]. ومن الواضح أن تأسي أمير المؤمنين(ع) بسنة النبي الكريم محمد(ص) في المقام، تعني التحمل والصبر والتجلد في وقت المصاب، وهو يناسب المعنى الثاني المذكور لكلمة الأسوة.
والظاهر أن الاستعمالين المذكورين للمفردة الواردين في كلمات أهل اللغة ليسا معنيـين للمفردة، وإنما هما مصداقان لها، وهذا ناجم من الخلط بين المعنى ومصاديقه.
وعلى أي حال، إن معنى كلمة أسوة الواردة في الآية الشريفة بحسب الأصل اللغوي لها هو التساوي والتماثل.
نعم يبقى بعد ذلك أنها استعملت في أي المصداقين المذكورين لها، دون الآخر، فهل استعملت في الأول منهما، وهو الاستعمال الأول المذكور في كلمات أهل اللغة، أم الاستعمال الثاني منهما.
والظاهر، أنها قد استعملت في الآية في خصوص المصداق الأول، وهو بمعنى القدوة، وليس المصداق الثاني الذي هو بمعنى ما يتأسى به، بالاعتماد على قرينتين:
الأولى: غلبة الاستعمال في هذا المعنى، فإنه يشكل قرينة صارفة لهذا المعنى متى استعملت فيه، بحيث لو أراد غير هذا المعنى لأشار إليه، بل لو قيل بأن في البين انصرافاً بسبب كثرة الاستعمال، لم يكن ذلك بعيداً، فتأمل جيداً.
الثانية: الوصف الوارد في الآية الشريفة للأسوة، فقد تضمنت الآية المباركة توصيف الأسوة بكونها أسوة حسنة ومن الواضح جداً أن مثل هذا التوصيف لا يكون إلا في خصوص التأسي الذي هو بمعنى الاقتداء، وذلك لأن التأسي الذي بمعنى التصبر والتجلد، لا يوصف بكونه حسناً، كما لا يوصف بكونه قبيحاً، ضرورة أنه لا يكون إلا حسناً، بخلاف الاقتداء والمتابعة، فإنه كما يمكن وصفه بكونه اقتداء حسناً، يمكن وصفه بكونه قبيحاً في بعض الحالات.


ويساعد على ما ذكر، كون التوصيف بالحسنة في الآية الشريفة قيداً احترازياً، ليكون محصوراً في خصوص الاقتداء الحسن، وليس في مطلق الاقتداء.
وأما القرينتان الأوليتان التي ذكرتا للمصداق الثاني، فإنه تمنع القرينة الأولى، لعدم الجزم بتحقق السياق في المقام، لعدم الجزم بنـزول الآيات القرآنية جميعها في آنٍ واحد، ومجرد وقوع الآية محل البحث بينها، لا يوجب ذلك، فتأمل.
وأما القرينة الثانية، فإن الخبرين المستند إليهما ضعيفا السند، والدلالة، لعدم وضوح الظهور في المصداق الثاني من المصداقين، بل يمكن استظهار الأول منهما.
وبعد تمامية المقتضي للمصداق الأول لمعنى الآية الشريفة، لتمامية القرينتين، وفقدان المانع، لعدم تمامية قرينتي المصداق الثاني، يتعين أن المقصود بالأسوة الوارد ذكرها في الآية المباركة، هو القدوة.

ـــــــــــــ
[1] سورة الأحزاب الآية رقم 21.
[2] سورة الأحزاب الآية رقم 20.
[3] سورة الأحزاب الآية رقم 22.
[4] سورة الأحقاف الآية رقم 35.
[5] نور الثقلين ج 6 تفسير سورة الأحزاب ح 36 ص 27.
[6] المصدر السابق ح 41 ص 28.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة