من التاريخ

الثروة بعد الفقر

... كمثال على ذلك نذكر قصة عجيبة من كتاب (الفرح بعد الشدة) عن عبدالله بن محمد بن الحسن الصروري قال :

(حدثني أبي أن رجلاً حج وفي وسطه هميان فيه دنانير وجواهر، قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار، وكان الهميان في ديباج أسود، فلما كان ببعض الطريق نزل ليبول فانحل الهميان من وسطه فسقط، ولم يعلم بذلك إلا بعد أن سار عن الموضع فراسخ، فاتفق أن جاء رجل في أثره، فجلس يبول في مكانه، فرأى الهميان فأخذه، وكان عليه دين فحفظه، قال :

وكان الرجل من أهل بلدنا فأخبرني أنه لم يؤثر في قلبي ذهابه، لأني استخلفته عند الله تعالى، وكنت في طريق الله عز وجل، وكانت تجارتي عظيمة وأموالي كثيرة.

قال : فلما قضيت حجتي وعدت، تتابعت المحن علي، حتى لم أملك شيئاً، فهربت على وجهي من بلدي، فلما كان بعد سنين من فقري، وقد أفضيت إلى أن أتصدق على الطريق وزوجتي معي، وما أملك في تلك الليلة إلا دانقاً ونصفاً، وكانت الليلة مطيرة وقد أويت في بعض القرى إلى خان خراب، فضرب زوجتي الطلق فتحيرت، وولدت، فقالت يا هذا : الساعة تخرج روحي فاخرج وخذ لي شيئاً أتقوى به.

فخرجت أخبط في الظلمة والمطر حتى جئت إلى بقال :

قال : فدققت عليه فكلمني بعد جهد، فشرحت له حالي فرحمني وأعطاني بتلك القطع حلبة وزيتًا وغلاهما، وأعارني غضارة جعلت ذلك فيها، وجئت أريد الموضع، فلما مشيت بعيداً وقربت من الخان زلقت رجلي وانكسرت الغضارة وذهبت جميع ما فيها، فورد على قلبي أمر عظيم ما ورد علي مثله قط، فأقبلت أبكي وألطم وأصيح، فإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك في داره فقال : ويلك مالك تبكي ما تدعنا أن ننام؟

فشرحت له القصة فقال : يا هذا! البكاء كله بسبب دانق ونصف؟! فداخلني من الغم أعظم من الغم الأول فقلت :

يا هذا! والله ما عندي قدر لما ذهبت مني، ولكن بكائي رحمة لزوجتي ولنفسي مما قد وقعت إليه، فإن امرأتي تموت الآن وولدي جوعاً، ووالله العلي الأعلى – وحلفت أيماناً غليظة- لقد حججت في سنة كذا وكذا، وأنا أملك من المال شيئاً كثيراً فذهبت مني هميان فيه دنانير وجواهر تساوي ثلاثة آلاف دينار فما فكرت فيه، وهو ذا تراني الساعة أبكي بسبب دانق ونصف فضة، فاسأل الله تعالى السلامة ولا تعايرني فتبلى بمثل بلواي، قال لي : يا الله يا رجل، ما كان صفة هميانك؟

فأقبلت ألطم وقلت : ما ينفعني ما خاطبتني به وما تراه من جهدي وقيامي في المطر حتى تستهزئ بي أيضاً، وما ينفعني وينفعك من صفة همياني الذي ضاع منذ كذا وكذا سنة؟

قال : فإذا الرجل قد خرج وهو يصيح، فقال لي صف هميانك وقبض علي، فلم أجد للخلاص سبيلاً غير وصفه له فوصفته.

فقال لي : ادخل، فدخلت فقال : أين امرأتك؟

قلت في الخان الفلاني، قال : فأنفذ غلمانه فجاؤوا بها فأدخلت إلى حرمه، فأصلحوا شأنها وأطعموها كل ما تحتاج إليه، وجاءوني بجبة وقميص وعمامة وسراويل، وأدخلني الحمام سحراً، وطرحت ذلك علي فأصبحت في عيشة راضية، فقال : أقم عندي أياماً فأقمت عشرة أيام، فكان يعطيني في كل يوم عشرة دنانير وأنا متحير من عظم بره بعد شدة جفائه، فلما كان بعد ذلك قال لي : في أي شيء تتصرف؟

قلت : كنت تاجراً.

قال : فلي غلات وأنا اعطيك رأس مال تتجر فيه وتشركني، فقلت : أفعل، فأخرج لي مائتي دينار فقال : خذها واتجر فيها ههنا، فقلت : هذا معاش قد أغناني الله يجب أن ألزمه فلزمه، فلما كان بعد شهور ربحنا فجئته وأخذت حقي وأعطيته حقه، فقال لي : اجلس، فجلست، فأخرج إلي همياني بعينه وقال : أتعرف هذا؟ فحين رأيته شهقت وأغمي علي، فما أفقت إلا بعد ساعة، ثم قلت له :

يا هذا : أملك أنت أم نبي؟

فقال : أنا ممتحن بحفظه منذ كذا وكذا سنة، فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته، وطالبتك بالعلامة فأعطيتها، فأردت أن أعطيك للوقت هميانك فخفت أن تنشق مرارتك، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة، وإنما أعطيتكها من هميانك. والدنانير المائتان قرض، فخذ هميانك واجعلني في حل، قال : فشكرته ودعوت له وأخذت الهميان وارتجع دنانيره ورجعت إلى بلدي، فبعت الجواهر، وضممت ثمنها إلى ما معي واتجرت، فما مضت إلا سنتان حتى صرت صاحب عشرة آلاف دينار وصلحت حالي، فأنا أعيش في فضل الله تعالى، وفي فضل تلك الدنانير إلى الآن)  .

ــــــــــــــــــ

الذنوب الكبيرة، السيد عبد الحسين دستغيب

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة