من التاريخ

قافلة الشرف باتجاه كربلاء

سليمان كتاني

أخذت قافلة الحسين الطريق مِن مَكّة وبقيت تخطُّ حتَّى توقَّفت في كربلاء، مِن عشرين ذي الحَجَّة مِن السنة الحادية والستِّين هجريَّة، وتوقَّفت في كربلاء في اليوم الأوَّل أو الثاني مِن الشهر التالي مُحرَّم، إنَّنا الآن نُرافقه كمُشاهدين ومُصغين، إنَّ في المُشاهدة عِبرة سخيَّة، ولكنَّ الإصغاء إليه في المُناسبات اللجوجة كان وفير التأمُّل، لأنَّه كان تظهيراً أصيلاً لكلِّ ما في نفسه مِن لواعج، ولك ما في رؤياه مِن مدى وصدى.

أدرك الحسين ـ وهو لا يزال في المَحطَّة الأُولى ـ التنعيم عبد الله بن عمر، فلنُصغ إلى هذا النوع مِن الحوار، الذي دار بين الاثنين في مُخيَّم الحسين .

عبد الله: يا سبط الرسول، ما كدت أعرف أنَّك تركت مَكَّة حتَّى هببتُ ألحق بك . حمداً لله، إنِّي توقَّفت ولمَّا تقطع بعد أكثر مِن المحطَّة الأُولى مِن الطريق.

الحسين: ألا تراني أُرحِّب بك، هات ما عندك .

عبد الله: ما أكرمك! تكسر قليلاً مِن شوقي ـ يا ابن علي ـ لقد رأيت جَدَّك الرسول يكشف عن سِرَّتك وأنت طفل، ويُقبِّلك بها وهو مُغمض العينين، ألا تكشف لي سِرَّتك ولو كنت لم تفعل ذلك مُنذ أكثر مِن خمسين سنة؟

الحسين: لقد ذكرتني ـ يا رجل ـ بنعيمي الذي حكت منه ثوب أحلامي، فها أنِّي أمامك على ظهري، ولن أتحرَّك ولو ضربتني بألف خَنجر.

وانحنى ابن عمر يُقبِّل سِرَّة الحسين ثلاثاً، وفي كلِّ واحدة منها كان يبدو وكأنَّه ينتهل مِن الكوثر، ثمَّ نهض وهو يشكر ويقول:

عبد الله: أتُريدني أشكرك على نعمة أُسبغت عليَّ ـ يا ابن بنت الرسول ـ ؟ ولكنْ ... هل تُصغي إلى رجاء لي؟

الحسين: اجلس وأفصِح يا ابن عمر.

عبد الله: أيُّ إفصاح لي وأنا استعطفك بالرجوع إلى محارم الكعبة ؟! ألا تسمعني أقول لك: إنَّ نجاتك مِن القتل؟! لا يشفع فيها واحد بألآلف إنْ تابعت طريقك!!!

الحسين: إنَّ خمسين سنة مَرَّت علينا بعد ابن الخطَّاب قد صاغت قَدَري، فلا تحزن عليَّ يا ابن عمر!!! رعاك الله مِن مُشفق تأخَّر كثيراً إشفاقه.

ونهض الحسين يتمشَّى تحت بِلاس الخيمة، فهم ابن عمر أنَّه المصدوم برجائه، فقام حزيناً وانسحب، بينما كان يدخل بوَّابه أسعد الهجرى.

الهجري: يحيى أخو عمرو بن سعيد!

الحسين: أيُلاحقُني أمير الحِجاز بعد أنْ تركت له الحجاز وكلَّ أهل الحِجاز؟! ألا خَسىء الرجل، وخسىء مروان بن الحَكم والوليد بن عتبة!! أدخله يا أسعد ولا تَخف عليَّ.

بعد قليل كان أخو الوالي في حضرة الحسين على بوَّابة المُخيَّم، فعاجله الحسين قبل أنْ يرمي (عليه السلام): الحسين: مِن قِبَل الأمير، أليس كذلك؟

يحيى: أجل، أخي عمرو، وهو أمير الحِجاز كما تعلم، يعتب عليك لا تودِّعه قبل أنْ ترحل.

الحسين: طرق القوافل مفتوحة، قُلْ للأمير يا أخا الأمير: فمتى كان على مُسافر أنْ يودِّع الأمير؟

يحيى: ولكنَّ الحسين يعلم ـ كما يعلم عبد الله بن الزبير ـ أنَّ المُبايعة للخليفة يزيد هي التي تفكُّ مِن المُراقبة والمُلاحقة.

الحسين: قُلْ للأمير: أنْ لا شيء يحجزني في أرض أُريد أنْ أتركها إلى حيث يطيب لي.

يحيى: إنَّه عصيان على ما يبدو، سريعاً ما سأُبلِغ الأمير، نحن على خيل لا تُلحَق، غداً أو بعد غدٍ يكون لنا ما نتدبَّر به أمرك.

لم يجهد الحسين نفسه بالجواب، بلْ تبسَّم وارتدَّ إلى الداخل، ولم يَعُدْ يرى كيف انصرف الرجل، إلاَّ أنَّه أمر سريعاً بالرحيل، وقبل أنْ يبلغ المَحطَّة كان قد لحق به ابنا عبد الله بن جعفر ـ عون ومحمد ـ فنزلا معه في الصفاح، حيث دار الحوار التالي:

الحسين: وما عند ابني العَمِّ عون ومحمد؟

عون: لقد هلع أبي عليك ـ يا عَمُّ ـ لا سِيَّما وقد عرف أنَّ الأمير ابن العاص قد أرسل في أثرك أخاه سعيداً، فقصده وبقي يُلحُّ عليه حتَّى استحصل على أمان لك تعود به إلى مَكَّة، وهذا هو صَكُّ الأمان.

الحسين: لا أمان لنا يا عون في ظِلِّ بني حرب، الأُمَّة كلُّها ـ يا ابن العم ـ تضيع عن التلقُّط بحبال أمنها!!!

محمد: ولكنَّ الكتاب بين يدينا يا عَمُّ.

الحسين: إنَّها كذبة قِرد ـ يا محمد ـ ألم يُخبرك أبوك ـ عبد الله بن جعفر ـ أنَّ صكوك الأمان قد بُدئ بتمزيقها مُنذ العهد الأوَّل على يدي أبي بكر؟!! فيكف نُصدِّق أماناً يُقهقه به قرد جديد في عهد يزيد؟ ارجعا وفتِّشا عن أمان آخر ـ يا حبيبيَّ ـ علَّني سأشتريه لكما مِن يَقظة جديدة مزروعة في دمي الأحمر!!!

عون: وما تقصد يا عمَّاه؟!

الحسين: ألا تخاف إنْ فسَّرت لك؟

عون: ولكنِّي أخاف أنْ لا أراك يا عمُّ!! لقد التقينا مُنذ ساعة بشاعرنا الفرزدق ذاهباً إلى الحَجِّ، سألناه عن الناس في العراق تجاهك، فأجاب: قلوب الناس معك ـ يا عمُّ ـ وأسيافهم عليك!!!

الحسين: أتظنُّني لا أعرف ذلك؟!

عون: وكيف تذهب إليهم؟!

الحسين: حتَّى أبلوهم بالحقِّ، حتَّى أستشهدهم على نفوسهم الضائعة بين الصدق والكذب، حتَّى أُوكِّد لهم أنَّ الوعي لا يذلُّ وأنَّ الذِّلَّ لا يعى، حتَّى أُرشدهم إلى حقيقة هاجعة فيهم يجلونها بالصدق، والإباء وعِزَّة النفس.

إنَّها القيمة التي يعيش بها الإنسان الصحيح الكريم، وهي التي تبني المُجتمع الصحيح بقلبه وعقله وعفافه، حتَّى أُبيِّن لهم أنَّ الحاكم الذي يرهب الناس ويشتريهم، هو ذاته الذي يجعلهم أبقاراً تحلب وقطعاناً تسمن، إنَّ الحليب والدسم ليُهرق فوق موائد الأمير!!!

محمد: وكيف يُمكنك ـ يا عمُّ ـ أنْ تُفهمهم ذلك؟

الحسين: أُقدِّم لهم القُدوة، أُعلِّمهم كيف يكون الرفض يشترون به صَكَّ الأمان، لو أنَّ الأُمَّة تعلمت الرفض ـ يا محمد ـ لما كان ليزيد بين يديها رقصة تهريج مع دَنٍّ ودَفٍّ ووترٍ!!!

محمد: وكيف تُقابله وهو لابس هكذا نعله؟

الحسين: سأُقابله بالرفض، وسأُمكِّنه مِن الرقص على بدني حتَّى ترى الأُمَّة ـ بأُمِّ العين ـ أنَّ ثأرها لي هو الذي يُحييني فيها رافضة ـ فيما بعد ـ تسليم حاكمها حينما يُذلِّلها به!! فليكن إيمانك بالأُمَّة يا ابني، وليكن لي أنْ أُريها أنَّ الحقَّ يبنيها، وأنَّ العُنفوان يحميها ويُزهيها.

ما توصَّل الحسين إلى مثل هذه الحرارة في البحث، حتَّى سكت كأنَّه المُنهك، ثمَّ نهض مِن مكانه وخرج يستكشف وطأة الليل في الخارج، بعد لحظات لحق به عون ومحمد، فاستفهم الحسين:

الحسين: أتعودان الآن إلى مَكَّة؟

عون: أبداً ـ يا عَمُّ ـ ها أنَّنا نُمزِّق تحت قدميك كتاب أمان عمرو بن سعيد، ولن نترُكك وحدك في مُواجهة القَدر!!!

بينما كان الحسين يُراقب الورقة المفتوتة كيف راحت تَجثم بين قدميه، كان يتناول بين ذِراعيه الرجلين ويلفُّهما بجُبَّته الوسيعة!!! مع الصباح قطعت القافلة وادي العقيق، وتجاوزتها إلى الحاجز مِن بطن الرُّمَّة. 

توقَّف الحسين قليلاً في هذه المَحطَّة، لتحضير كُتبٍ وإرسالها بسرعة إلى البصرة، ولقد استدعى إليه قيس بن مُسهر الصيداوي، وهو مُرافق لهم في القافلة التي لا يتجاوز عددها مِئة وثمانين نفراً بما فيهم النساء والأبناء والأخصَّاء، لقد دار الحوار بالشكل التالي:

الحسين: إنِّي أُدرك ـ تماماً ـ أنَّ المُهمَّة صعبة يا قيس، ولكنَّك أنت الأصلب، تعهَّدها، هذه رسائل اجتهد في الحِرص عليها، وإيصالها إلى سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، معناها؛ حتَّى يكونوا على علم بقُدومنا تتميماً لكلِّ ما مهَّد له مسلم بن عقيل.

قيس: سأسلُك أقرب الطُّرق، وسأكون ـ يا سيِّدي ـ مِن نوع الثعالب في التخفِّي والظهور، أليست الحالة تقضي مثل ذلك؟!

الحسين: صدقت، وأرجو أنْ لا يكون قد وصل إلى يزيد خبر تَرْكي مَكَّة إلى البصرة، ولكنَّ أمير الحِجاز ثعلب آخر يا قيس، وليس أخوه يحيى أقلَّ مِن قِرد على ظهر برذون، عليك أنْ تتحسَّب كثيراً ـ ياقيس ـ أتوقَّع أنَّ ما مِن مَخرم مِن مَخارم الدروب إلاَّ وأصبح ليزيد عين عليها، فماذا تُراك تصنع بالكتب معك إذا وقعت بمصيدة؟!

قيس: لا تَخَفْ يا سيِّدي، أُمزِّقها وأزدردها، ولنْ أعدم وسيلة أبلغ بها البصرة، إنِّي كنت رسولك إليهم فيتمُّ لنا بذلك إبلاغ الغرض.

الحسين: تزوَّد بالحقِّ وامشِ يا قيس، وانتظرني ألحِق بك، ألا ترانا أبداً على موعد؟!!

التفت إليه قيس وقد التهبت حَدقتاه بما لا يُفسَّر أنَّه حِلم أو عزم، أو وحي مِن قرار، ولكنَّه سريعاً ما انسحب وامتطى الليل كأنَّه الخفَّاش، ولكنَّه عَلِمَ في ما بعد أنَّ ما توقَّعه الحسين كان ترجمة صحيحة لما قد حصل، فأمير الحجاز ما وجَّه أخاه في أثر الحسين وأدركه في المُحطَّة الأُولى مِن الطريق ( لتنعيم) ألاَ وكان قد وجَّه رسولاً آخر خطف الطريق خطفاً إلى يزيد في الشام، يُطلعه على ما حصل، وفي الساعة ذاتها كان صاحب الشرطة عند يزيد ـ الحُصين بن تميم ـ يربط الخطوط بالمُراقبة: مِن القادسية، إلى خَفَّان، إلى القطقطانة، إلى جبل لَعْلَع، وكلُّها مراكز ومحطَّات لابُدَّ للمُتوجِّهين صوب العراق والشام أنْ يمرُّوا بها، ولقد خدع الناس على هذه الخُطوط برجال شرطة يزيد، وظنُّوهم طلائع جيش يخصُّ الحسين، لأنَّ شائعات ـ ولو مُتكتِّمة ـ كانت تتردَّد هنا وهناك بأنَّ الحسين سيُبايع له، أمَّا حامل الكُتب قيس فإنَّه لم ينج مِن خيوط الشراك، فمزَّق الكُتب وازدرَدَهَا قبل أنْ يُساق إلى والي الكوفة عبيد اللّه بن زياد، الذي أمره ـ حتَّى ينجو ـ بأنْ يعتلي منبراً في الكوفة ويَلعن مِن فوقه الحسين، فأطاع قيس، ولكنَّه هتف بصوته المُرعد مِن فوق المنبر بلعن يزيد وابن زياد، ولمَّا رُمي مِن فوق السطح وتحطَّم رأسه، كان الخبر قد دخل كلَّ بيت مِن بيوت الكوفة، وهكذا تمَّ تمزيق الكُتب، ولكنَّ التكهُّن بأنَّ الحسين قريب مِن الأبواب كان حِصَّة الألبَّاء.

لم يتوقَّف الحسين إلاَّ قليلاً في مَحطَّة ماء للعرب، وبينما كان رجال يملأون القِرب لعطش الطريق، كان الحسين يُصغي لرجل مشهور هناك بحٍكمته وحُسن رأيه، عبد الله بن مطيع العدوي:

عبد الله: مَن أنا ـ يا ابن بنت الرسول ـ حتَّى تُصغي إليَّ؟ ولكنِّي أربأ بك وأنت الحكيم البصير، ويغلبُني حُبِّي لك ولأهل البيت؛ فأجرؤ وأقول لك: بالله عليك ـ يا سيدى ـ لا تُكمل الطريق، لن يكون لك مِن مَحبَّة القوم درع تَقيك، إنَّهم يَعِدون ولا يفون، تظنُّهم صادقين وهُمْ مُقدمون ... ثمَّ ـ والله أعلم ـ لماذا يلوون على أعقابهم ويهربون!!!

الحسين: وأنا أعلم أنَّك الصادق ـ يا ابن مطيع ـ ولكنِّي لا أتمكَّن مِن الهروب مثلهم مِمَّا كلَّفني جَدِّى القيام به. إنَّ الأُمَّة أيُّها العدوي ـ ولا شك انك تعرف أنَّها أُمَّة جَدِّي ـ تُطالبني بأنْ أقرأ عليها فصلاً مِن فصول الكتاب الذي خَطَّه جَدِّي، وقرأ منه أبي عليٌّ فصلاً كبيراً عليها ما تذوَّقت منه إلاَّ القليل، وقرأ منه أخي الحسن فصلاً آخر لم تفهم إلاَّ قليلاً مغزاه... أمَّا أنا فحصَّتي مِن القراءة شاقَّة كما يبدو لك، ولكنِّي سأتذوَّقها وأُعلِّم الأُمَّة كيف يستحلبون منها حَلاوة هي وحدها التي تُعمِّر بها خليَّة النحل .

عبد الله: سيِّدي ... هل هذه هي العظمة؟

أخذ الحسين السؤال، وهو يلتفت صوب الرجال وفي أيديهم القِرب الملأى مِن الماء، ففهم أنَّ الوقت قد حان لترك المكان، فعاد إلى جليسه ليُردَّ عليه جواب السؤال:

الحسين: وإنَّها في الشهادة إذ يحين وقت الشهادة، على رسلك يا بن مطيع!!!

وأقلع الركب وابن مطيع يُشيِّعهم، وفي عينيه لهب جديد تركه يهبط إلى العميق مِن وجدانه، والله أعلم كيف تحوَّل في نفسه بعدما وصله خبر استشهاد الحسين في كربلاء !!!

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة