علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (2)

د جاسم العلوي

النظرية الفيزيائية والتصور الفلسفي للوجود
لقد رافق العلم الحديث اتجاهات عديدة متباينة في الدور والمهام المنوطة بالنظريات الفيزيائية. ويمكن حصر هذه الاتجاهات المتباينة في اتجاهين هما الاتجاه الوضعي والاتجاه العقلاني. ولكل من هذين الاتجاهين أنصار ومؤيدون من فلاسفة وعلماء. قبل أن نفصل القول في هذين الاتجاهين دعونا نستعرض الجذور التاريخية التي تشكل على ضوئها هذين الاتجاهين.
تمتد جذور هذين الاتجاهين الكبيرين إلى بدايات العلم الحديث منذ المحاكمة الشهيرة لجاليلو حيث انقسم الفلاسفة في بداية الأمر ولحقهم بعد ذلك العلماء حول علاقة الفكر بالواقع والدور الوظيفي الذي يقوم به العلم. لقد كان جاليلو كغيره من العلماء يعتقدون بأن مهمة العالم هو الوصول إلى الحقيقة الموضوعية للعالم وهذه الحقيقة هي هدف العلم، ولكن عندما اصطدم العلم بالنص ولنقل بالتفسير الكنسي للنص الديني بدأ يتبلور تفسير جديد للنظرية العلمية. هذا التفسير ولدته حاجة الكنيسة لإنقاذ نفسها من التصادم مع تطورات العلم. هذا التفسير الجديد يقصر مهمة النظرية العلمية في بناء نماذج رياضية للمشاهدات التجريبية والمفيدة من الناحية العملية كما ترى أن النظرية العلمية عاجزة عن الحقيقة الواقعية أي الوصول إلى الواقع كما هو. ويسمي كارل بوبر هذا التفسير بالتفسير الآلي للنظرية العلمية ويقابله التفسير الذي يرى في أن مهمة النظرية العلمية هو في الوصول إلى الحقائق الموضوعية لهذه الظواهر، ويطلق كارل بوبر على هذا التفسير بالتفسير الجوهري للنظرية العلمية حيث أن مهمة النظرية العلمية هو الكشف عن الجواهر المنتجة لهذه الظواهر.
استمر هذان التفسيران يتصارعان على الساحة الأوربية ويتأثران بالتطورات الحاصلة في ميدان الفيزياء ويتفرع عن كل تفسير اتجاهات أخرى متباينة. تشكل من هذا الصراع الفلسفي على امتداد التجربة العلمية في أوروبا اتجاهان كبيران هما:
الاتجاه الوضعي الذي يدعو إلى التقيد بالظواهر ومعطيات التجربة والابتعاد عن كل محاولة تفسيرية تتعدى الظواهر أيمانًا منها بأن العلم لا يستطيع بلوغ حقيقة الواقع. ومن أبرز الذين يصنفون في هذا الاتجاه الفيزيائي بيير دوهيم الذي يرى أن النظرية الفيزيائية تكون صحيحة لا لأنها تقدم تفسيرًا للظواهر الحسية المطابقة للواقع بل لأنها تتوافق مع القوانين التجريبية. وتكون النظرية خاطئة لا لأنها تمتلك فروضًا لا واقع لها بل لأنها لا تتوافق مع القوانين التجريبية. ويرى بيير أن كل محاولة تفسيرية للظواهر الحسية تهدف إلى فهم الواقع الذي ينتجها سيدخلنا في الميتافيزيقا وبالتالي فإن النظرية الفيزيائية ستظل تحت وصايتها. ويلتقي دوهييم مع الفيزيائي أرنست ماخ في مهمة النظرية الفيزيائية، إلا أن أرنست ماخ يتبنى أطروحة باركلي الفيلسوف الإنجليزي في إنكار الواقع الموضوعي للأشياء. فالأجسام لا تتمتع بأي وجود موضوعي بل مجرد مجموعة من الإحساسات البصرية والسمعية واللمسية. وبعبارة أخرى إن الواقع الموضوعي يساوي الواقع المحسوس.
من ضمن الاتجاه الوضعي نزعة يطلق عليها النزعة الإسمية وهذه النزعة ترى أن الحادث العلمي حادث مصطنع أي يخلقه العالم في مختبره، فهو لا يوجد كما في الطبيعة وبالتالي هناك فرق بين القانون كما هو في الطبيعة والقانون الفيزيائي الذي هو انعكاس لحادث علمي مصنوع. من هنا فإن أصحاب هذه النزعة ينظرون إلى الحوادث العلمية والقوانين العلمية بأنها من إنشاء الفكر وليست تمثلًا أو تصورًا للأشياء كما هي في الواقع.
يفترق الاتجاه العقلي في تفسير النظرية العلمية عن الاتجاه الوضعي في أن الاتجاه العقلي يضع هدف النهائي للعلم هو معرفة العالم الخارجي الواقعي، هذا العالم الذي يقف وراء إحساسنا. وبما العالم الفيزيائي لا يتاح له وسائل معرفة هذا الواقع إلا من خلال ما تمده به التجارب فإنه ينشئ لنفسه صورة عن هذا الواقع.
من أنصار هذا الاتجاه المناهض للاتجاهات الوضعية العالم الألماني ماكس بلانك صاحب نظرية الكوانتا. يرى ماكس أن حصر العلم في هذه المعطيات العلمية يؤدي لهدم العلم وإلغاء موضوعية الفيزياء.
يقسم الاتجاه العقلي العالم إلى ثلاثة أقسام:
1- العالم الخارجي الواقعي الموضوعي الذي يجب التسليم بوجوده.
2- عالم الإحاسيس، أي الظواهر الحسية والمعطيات التجريبية.
3- العالم الفيزيائي وهو الصورة التي تقدمها الفيزياء عن العالم. وهذه الصورة هي متغيرة باستمرار وتتحسن باستمرار.

ويمكن النظر إلى مهمة النظرية الفيزيائية من زاويتين: زاوية العالم الخارجي وزاوية عالم الإحساسات والظواهر
فبالنظر إلى الزاوية الأولى تكون مهمة النظرية الفيزيائية هي الحصول على معرفة كاملة عن هذا الواقع الخارجي وبالنظر إلى الزاوية الثانية فإن مهمة النظرية الفيزيائية تقديم وصف بسيط لها من خلال مجموعة من القوانين .
لكن الذي ساد وانتصر في الفكر العلمي الغربي بالتحديد هو الاتجاه الوضعي أو الآلي كما يسميه بوبر. ويعزي بوبر هذا الانتصار إلى بروز النظرية الكمية وصعوبة تفسير هذه النظرية.
بعد عرض هذين الاتجاهين ينبغي أن ندرك أنه من الخطأ بناء تصور فلسفي للوجود بناء على النظريات العلمية
ذلك لأن النظرية الفيزيائية بحسب الاتجاه الوضعي لا تتطابق مع عمل الطبيعة، وبحسب الاتجاه العقلي إن النظرية الفيزيائية هي صورة تحاول أن تقدمها الفيزياء عن الواقع وهذه الصورة تتحسسن باستمرار وليست شكلًا نهائيًّا.
ومادامت النظرية الفيزيائية قاصرة عن معرفة الواقع الطبيعي على دعوى هذين الاتجاهين فإننا لا نملك معرفة يقينية الواقع الطبيعي، فإن الفيزياء وبقية العلوم لا تصلح أن تكون مقدمات في الأدلة الاستقرائية أو مقدمات صغرى في الأدلة القياسية -الاستنباطية وهما طريقتا الاستدلال في الفكر البشري. وبالتالي تعجز الفيزياء بذاتها عن بلورة تصور فلسفي للوجود لأنها تفتقد المقدمات الصحيحة المطابقة للواقع.
ويلح التساؤل الآتي على الأذهان، هل أن المعرفة بالواقع الطبيعي ممكنة أو هي مستحيلة؟
في الحقيقة إن الفلسفة الإسلامية تقدم نسقًا منسجمًا ومتماسكًا ومستقلًّا عن هذه الاتجاهات المتباينة عن طبيعة المعرفة البشرية. وهذه النسق الفلسفي يتبنى نظرية خاصة في المعرفة.
تنظر الفلسفة الإسلامية إلى أن العلم هو مطابقة الفكر للواقع وأن حقيقة العلم هو الكشف عن الخارج. وبالتالي فإنها أي الفلسفة الإسلامية ترى بإمكان المعرفة اليقينية بهذا الواقع. أما لماذا هذا موقفها فهذا يحتاج إلى بيان مفصل لكن ممكن أن نوجزه. إن المعرفة اليقينية بالواقع ترتكز على نقطتين:
1- العلم الحضوري بالأشياء يكفل لنا المعرفة اليقينية.
2- اليقين في القضايا النظرية يتم بالاستنتاج والانتزاع من البديهيات الأولية

وبالتالي حتى نحصل على اليقين في القضايا النظرية يجب أن نعتمد الدليل الاستنباطي الذي يكون فيه خط السير الفكري من الكليات إلى الجزيئات.
تقسم الفلاسفة الإسلامية العلم إلى حضوري وحصولي. والعلم الحضوري هو الاتصال الوجودي بين العالم والمعلوم، بحيث لا تكون حقيقة المعلوم محتجبة عن العالم. أما العلم الحصولي فهو العلم بالأشياء عبر صورها ومفاهيمها. فنحن نعلم بأنفسنا بالعلم الحضوري لأنها حاضرة لذواتنا ونعلم بأحوالها وشؤونها بالعلم الحضوري. ومن خلال هذا لشهود لأنفسنا تمكنا من اكتشاف البديهيات الأولية في الفكر البشري كمبدأ العلية ومبدأ عدم التناقض. فمرد هذه البديهيات الأولية إلى هذا الشهود الباطني للنفس. لكنها تظل هذه البديهيات في حالة مبهمة إلى أن يتمكن العقل من تكوين مفهوما لها. والحقيقة إن نظرية المعرفة في الإسلام تعطي أملًا بإمكان المعرفة اليقينية بالواقع ويمكن لنا أن نفتح من هذه المعرفة نافذة نطل منها ونستكشف مظاهر الوجود المختلفة.
إن إمكان اليقين في المعرفة العلمية في نظرية المعرفة الإسلامية ممكنًا ولكنه مشروط بدقة تطبيق هذه البديهيات الأولية أو المبادئ الضرورية على التجربة العلمية. ولذا يمكن الحصول على نتائج قطعية في الميتافيزيقا والرياضيات لأن تطبيق هذه المبادئ الضرورية يتم بصورة مباشرة، أما في حالة الطبيعيات فإن هذا التطبيق تتوسطه التجربة العلمية التي يتوقف عليها شروط التطبيق. فكلما كانت التجربة العلمية دقيقة وتستوعب كل إمكانيات الظاهرة الطبيعية فإنها تكون ملائمة أكثر لتطبيق المبادئ الضرورية والحصول على نتائج قد تكون في بعضها نهائية وقطعية.

وحتى مع إمكان اليقين في النظرية الفيزيائية فإنها في ذاتها وبناء على منطقها الداخلي تعجز عن نفي السبب المجرد الخارج عن دائرة التجربة العلمية. فالعلم الطبيعي يمكن أن يثبت أو ينفي الأسباب المادية التي تتعلق بالظاهرة الطبيعية، لكنه لا يستطيع أن ينفي على نحو الجزم السبب المجرد. فالتجربة العلمية إنما تستطيع الإحاطة بالسبب المادي، أما السبب المجرد فهو فوق التجربة العلمية ولا يمكنها أن تقطع بنفيه. فإذا ادعى الإلهي أن هناك سببًا مجردًا وراء الطبيعة وما يحدث فيها من تطورات، لم يكن للمادي أن ينفي هذا السبب المجرد باستخدام المنهجية العلمية. وتظل الطبيعيات وفي مقدمتها الفيزياء عاجزة عن قول كلمتها الفصل النافية للسبب المجرد والذي يدعي الإلهي أنه علة الوجود الأولى.
وما دام إمكان اليقين في المعرفة العلمية قائمًا فإن الفيزياء وبقية العلوم تصلح أن تكون مقدمات جزئية في الدليل الاستقرائي أو مقدمات صغرى في الدليل القياسي – الاستنباطي. ومن هنا يمكن أن ندقق النظر في نتائج العلم الحديث لنتمكن من وضع نتائجه كمقدمات في الاستدلالات المنطقية نبني على ضوئها تصورنا الفلسفي للوجود. ومن أهم نتائج الفيزياء الحديثة ظاهرة يطلق عليها ظاهرة الضبط الدقيق، وهي ظاهرة حيرت العلماء كثيرًا وأسست لمناقشات فلسفية علمية طويلة. لقد تراكمت المعلومات بشكل مذهل في القرن العشرين حول الدقة المتناهية ذات المدى الضيق جدًّا لثوابت الفيزيائية والشروط الابتدائية للانفجار الكوني وميكنزمات التطور البشري بحيث أن الانحراف الضئيل جدًّا عنها لن يؤدي إلى تشكل كوننا الحالي ولن يؤدي إلى تطور الحياة فيه. فما هي ظاهرة الضبط الدقيق؟ وماذا يقول العلماء بشأنها؟

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة