علمٌ وفكر

الفيزياء تقود إلى التوحيد (6)

د جاسم العلوي

فرضية القانون الفائق
إن فرضية القانون الفائق تفترض أن يكون للطبيعة قانون فائق بحيث يجبر كل الثوابت الأساسية باتجاه المنطقة التي تسمح بالحياة. ويمثل هذا الاتجاه الفيزيائي إدورد وتن أحد أكابر الفيزيائيين المعاصرين. ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه بأن نظرية الأوتار الفائقة هي الواعدة في فهم ظاهرة الضبط الدقيق. ولكن لماذا نظرية الأوتار الفائقة هي المؤهلة لفهم هذه الظاهرة، فذلك يحتاج إلى بيان مطول لا يسعى المجال هنا لتطرق اليه. ولكننا سنعطي تصورًا للفكرة التي يرتكز عليها أصحاب هذا الاتجاه دون الدخول في تفاصيل دقيقة.
إن ما يميز نظرية الأوتار الفائقة هي كونها نظرية ذات عشرة أبعاد. أربعة أبعاد زمكانية مفتوحة وممتدة وستة أبعاد مكانية مدمجة ومنغلقة. ويمكن وصف هذه الأبعاد الستة رياضيًّا بـ فضاء يسمى كلابي ياو Calabi –Yau وهو فضاء صغير جدًّا لا يمكن مشاهدته وربما لن يكون لنا القدرة على مشاهدته. وعند لف أو دمج هذا الفضاء بطرق مختلفة نحصل على ملايين ملايين الحلول لمعادلات الأوتار وكل حل لهذه المعادلات يمثل كون بموصفات خاصة. parallel world

دحض فرضية القانون الفائق
إن نظرية الأوتار الفائقة ليست ثابتة علميًّا، حيث تم بناء هذه النظرية على التناظر الفائق. وهذا التناظر الفائق يفترض وجود جسيمات رفيقة للجسيمات الحالية. وهذه الجسيمات الرفيقة لم نتمكن بالمسارعات النووية أن نكتشفها.
وحتى لو افترضنا صحة النظرية، وأنها قادرة على تفسير هذه الظاهرة فإننا لا زلنا بحاجة أن نسأل لماذا لدينا هذا القانون الذي يضبط هذه الثوابت الأساسية ضبطًا دقيقًا؟ ومن أين جاء؟
إن نظرية الأوتار الفائقة مبنية على فضاء كلابي ياو وهو فضاء يمكن دمجه بطريق مختلفة، وكل طريقة نتبعها تعطينا حلًّا لمعادلات النظرية وهذا الحل يمثل كونًا خاصًّا. إذن إن هذه النظرية به محتوى رياضي عبارة عن هذا الفضاء الذي يمكنه ضبطه بدقة حتى نتمكن من الحصول على هذه الثوابت ذات ضبط دقيق والتي تمثل الكون الذي نعيش فيه. وهنا نقلنا موضوع الضبط الدقيق إلى النظرية نفسها وهذا لا يفسر الضبط الدقيق بل يعيدنا إلى المربع الأول. فإذا كان لهذه النظرية احتمال قبلي معين، فإن هذا الاحتمال لا يتقوى مع وجود ظاهرة الضبط الدقيق بل هو مساو لها في أحسن الأحوال. والنتيجة أننا نقلنا الحاجة إلى تفسير هذه الظاهرة إلى القانون الفائق، ولم نصل بعد إلى تفسير نهائي للظاهرة.

فرضية المبدأ الانساني
وضع الفيزيائي براندن كارتر مبدأ إنسانيًّا للكون في عام 1974. ولهذا المبدأ صورتان، أحدهما تسمى المبدأ الإنساني القوي والأخرى تسمى المبدأ الإنساني الضعيف. الصورة الضعيفة من هذا المبدأ: أن الحوادث المشهودة تستلزم وجود المراقب الذكي. بمعنى أن الملاحظة تستلزم وجود الملاحظ الذكي. أما الصورة القوية من هذا المبدأ تنص على أن قوانين الطبيعة والثوابت يجب أن تكون مناسبة لظهور الحياة. تقول لنا هذه الفرضية أننا لا يجب أن نتفاجأ بظاهرة الضبط الدقيق، لآنه إذا كانت هذه الثوابت الأساسية لا تقع في المدى الذي يحقق الحياة، فإننا لن نكون موجودين لرصدها. والنتيجة المتحصلة من هذه الفرضية وهي إذا لم تتوفر الشروط التي تسمح بالحياة، فلن نكون موجودين ولكننا موجودون إذن يجب أن تتحقق الشروط التي تسمح بالحياة. هذه الفرضية تقول لنا إن احتمال ظاهرة الضبط الدقيق بناء على وجودنا هو احتمال مؤكد، ولذلك لا ينبغي أن نتعجب من هذه الظاهرة. وبتعبير آخر إن ذات وجودنا يضمن أن تقع هذه الثوابت الأساسية والشروط الابتدائية في النطاق الذي يسمح بالحياة.

السجين وفرقة إطلاق النار
يقدم جون ليزلي الفيلسوف الكندي مثالًا يحاول به أن يهدم فرضية المبدأ الإنساني. يقول لنا ليزلي في هذا المثال لنفترض أن سجينًا يتعرض لفرقة إطلاق النار تتكون من 12 راميًا يطلقون عليه 144 رصاصة، لكن كل هذه الرصاصات تخطئ السجين. فهل سيعتبر هذا السجين أن الأمر طبيعي وأن عليه أن لا يتعجب وليس له أن يفهم ما الذي جعل هؤلاء الذين أطلقوا عليه 144 رصاصة لا يصيبونه في مقتل؟ فعلى ضوء التفسير الذي تقدمه لنا فرضية المبدأ الإنساني، ليس على السجين أن يصاب بالذهول عندما تتخطاه 144 رصاصة، لأنه لو أصابته هذه الرصاصات لن يكون موجودًا ليشاهد هذا الخطأ الغير متوقع، ولكنها لم تصبه ولذلك هو موجود ليشهد هذه الحادثة.
ويستنتج ليزلي من هذا المثال أن هناك احتمالًا لتفسير هذا الخطأ، أحدهما الصدفة وهذا احتمال ضعيف للغاية، وثانيهما أن هذا الخطأ كان متعمدًا ومخططًا له مسبقًا. والنتيجة التي يخلص إليها ليزلي عن التفسير الذي يقدمه المبدأ الإنساني خاطئ تمامًا وإن نجاة هذا السجين تعتمد على الضبط الدقيق وليس الضبط الدقيق يعتمد على نجاة السجين.

تأثير الاختيار الرصدي
إيليت سوبر فيلسوف العلوم يقترح تأثيرًا يسميه التأثير الانتقائي للمراقب أو الراصد يعني أن وجودنا كمراقبين يضفي نوع من الانحياز في تفسير ظاهرة الضبط الدقيق، بمعنى أن خصائص الشيء تتأثر بنا كمراقبين. وهذا يقودنا إلى النسبية الذاتية للمعرفة، فجميع معارفنا هي نوع من الانحياز البشري ولا تتمثل الحقيقة كما هي في الواقع. إن ايليت سوبر يقول لنا إن هناك انحيازًا معرفيًّا بشريًّا في رصد هذه الثوابت التي تسمح بوجود الحياة. ويشرح سوبر هذا التأثير من خلال التشبيه التالي.

تشبيه سوبر Sober Analogy
يوضح سوبر هذا التأثير بهذا التشبيه:
لنفترض اصطدت خمسين سمكة من بحيرة وكانت جميع هذه الأسماك طولها يزيد على عشرة بوصات (المشاهدة). ربما سوف تستنتج أن جميع السمك في هذه البحيرة يزيد طولها على عشرة بوصات. ولكنك اكتشفت بعد ذلك أن شبك الصيد لا يمكن لها أن تصيد أقل من عشرة بوصات بسبب حجم الثقوب. إذن إن احتمال الحصول على سمكة عشرة بوصات هو احتمال مؤكد.

فكذلك هذه الثوابت التي نراها في غاية الدقة هي متأثرة بنا كمراقبين وبالتالي فإن احتمال الظاهرة المبني على وجودنا يكون مؤكدًا. والنتيجة إن طبيعة وجودنا كمراقبين يدخل نوع من الانحياز في الدليل.

سوبر ونقض مثال السجين

وعلى ضوء هذا التأثير الرصدي يحاول سوبر أن ينقض الفكرة التي يقوم عليها مثال السجين. فلو أضفنا متفرجًا (شاهدًا) على فرقة إطلاق النار، ماذا ستكون وجهة نظره بالقياس إلى السجين؟
المتفرج: من المنطقي جدًّا إن هذا الشاهد سيتوصل إلى أن احتمال نجاة السجين بفعل متعمد الخطأ أكبر من احتمال نجاته بالمصادفة. بينما السجين يخضع لتأثير الانتقاء الرصدي وسيتوصل إلى أن هذين الاحتمالين متساويان وهما مؤكدان.
رصد ظاهرة الضبط الدقيق هي ليست حيادية ولذلك لا يجب أن نكون منبهرين بهذه الظاهر وبالتالي لا تحتاج إلى تفسير خاص.

ويزنبرغ وفرقة إطلاق النار
يرى جونثان ويزبيرغ أنه لا توجد لدينا حالتان معرفيتان مختلفتان تؤدي إلى نتيجة منحازة، بل كلاهما السجين والمتفرج هما في الإطار المعرفي نفسه. لماذا؟
لأن كليهما لديهما نفس المعرفة والخبرة وكليهما لا يخضعان لهذا التأثير الانتقائي.
فمثلًا نحن نفهم نظرية التطور ونحقق فيها ولا نقول إنه بسبب هذا التأثير الانتقائي أن التطور البشري ليس خاصًّا ولا نحتاج إلى تفسير.
الخلاصة: إن المبدأ الإنساني يمكن أن يدل على التناسق بين الكون والوجود البشري ولكنه لا يفسر ظاهرة الضبط الدقيق.

المبدأ الإنساني وموافقته للوجود الإنساني
يقوم المبدأ الانساني على فكرة أن الكون يملك احتمالًا ضعيفًا جدًّا على إيواء الحياة الذكية. والسبب يعود إلى الدقة المتناهية التي تتأسس عليها الحياة. فالكون يتقوم بمجموعة من الثوابت الطبيعية بحيث لو اختلفت اختلافًا طفيفًا فمن المؤكد أنه سينتج كون لا حياة فيه. وليس من سبب يمنع من أن تختلف هذه الثوابت الطبيعية.
فإذا لم يكن هناك مبدأ يعمل عن سابق قصد وتصميم، فإن الحياة ستكون لسلسة من المصادفات الاستثنائية مما يجعل احتمال وجود كون به حياة ضئيلًا جدًّا جدًّا.

الفيزيائي فري مان دايسن يقول :
It is as if the universe knew that we are coming
وكأن الكون يعلم بأننا قادمون.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة