من التاريخ

عودة السبايا إلى المدينة

الشيخ علي الرباني الخلخالي

اختلف المؤرخون والكتّاب في مدّة بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام، فذهب كلّ واحد منهم إلى رأي وقول واستقرب كلّ منهم مدّة معيّنة حسب بعض القرائن التي يرتضيها.
ففي «طراز المذهب» نقل عن السيّد الطباطبائي أعلى الله مقامه أنّه قال في حاشية رياض المصائب: أنّ مدّة بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام أربعين يوماً، وذهب الميلاني نقلاً عن الكاشفي أنّهم عليهم السلام بقوا ستّة أشهر ونسب ذلك إلى ابن بابويه قدس سره.
وقال مؤلّف «مفتاح البكاء ومهيّج الأحزان» أنّهم بقوا ثمانية عشر يوماً، وقال البعض: إنّهم لم يبقوا إلّا عشرة أيّام والله العالم.
وعل أيّة حال، فإنّ يزيد اللعين حينما أحسّ بالخطر وتوقّع الفتنة حيث أخذ أهل الشام يلعنونه عمد إلى تخيّر أهل البيت عليهم السلام بين البقاء في الشام والرحيل إلى مدينة جدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله. قالت العقيلة زينب عليها السلام: ردّنا إلى المدينة فإنّها محلّ هجرة جدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله.
فأشار يزيد اللعين على صحابي رسول الله صلى الله عليه وآله النعمان بن بشير ومعه ثلاثة رجال أن يرافقوا قافلة أهل البيت عليهم السلام في مسيرها إلى المدينة، وفي بعض الأخبار أنّه بعث مع النعمان خمسمائة فارس من جنوده وأمرهم أن يوصلوا أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة.
كما هيّأ يزيد وسائل السفر واحتياجاته وأشار على جماعته أن يسمعوا لأهل البيت عليهم السلام في سفرهم ويكونوا تحت اختيارهم، فمتى أرادوا النزول ينزلوا معهم، ومتى أرادوا المسيرة يسيروا، وقد أمر رجاله أن يبتعدوا في مسيرهم عن القافلة كي لا يزاحموا العلويات المخدّرات(1).
من جانب آخر فإنّ يزيد اللعين أمر أن يعطى أهل البيت عليهم السلام الكثير من الأموال والإبل ثمّ خاطب العقيلة زينب عليها السلام وأُمّ كلثوم وقال: هذه الأموال عوض دماء الإمام الحسين عليه السلام فأجابته العقيلة في نفس الوقت وقالت: ويلك يايزيد: ما أقلّ حياءك وأقسى قلبك وأصلب وجهك تقتل أخي وتقول: خذوا عوضه مالاً، لا والله لا يكون ذلك، فخجل يزيد.
وقال أبو مخنف وغيره من المؤرخين: أنّ يزيد طيّب رأس سيّد الشهداء عليه السلام بالمسك والكافور وأعطاه للإمام زين العابدين عليه السلام فأخذه معه إلى كربلاء المقدّسة ودفنه إلى جانب الجسد الشريف.
وفي الأمالي للشيخ الصدوق قدس سره قال: بعد أن قتل الإمام الحسين عليه السلام بقيت الآثار السماوية ولم تذهب هذه الآثار إلى أن خرج أهل البيت عليهم السلام من الشام وأعادوا الرأس الشريف وألحقوه بالجسد الشريف.
وقال أبو إسحاق الاسفرايني في كتاب «نور العين» وغيره من أمثاله من الموالين الخلّص: أنّ الرأس الشريف أُعيد إلى كربلاء وأُلحق بالجسد الطاهر.
وبالجملة: فقد أمر يزيد أن تزيّن محامل أهل البيت عليهم السلام بالديباج بعد أن أوقفهم ثلاثة أيّام على بوّابة قصره تحت حرّ الهجير الحارقة حتّى تساقطت جلودهم ولحومهم من الحرّ والبقاء على المحامل الهزيلة وهم مقيّدين بالقيود والحبال.
فلمّا أحسّ يزيد اللعين بالخطر وشدّة الموقف تظاهر على أنّه يريد تلافي ما صنعه في البداية بأهل البيت عليهم السلام من التعذيب والإيذاء وذلك بعد أن أبرد غليله وأطفأ نار أحقاده الدفينة ضدّ الرسول صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة عليهم السلام.
وفي واقع الأمر أنّ سخط الناس على يزيد بما فيهم المقرّبين من أهل بيته وعياله وغلمانه هو الذي جعله يتظاهر بالمحبّة والعطف لأهل البيت عليهم السلام ويقدّم لهم الأموال الطائلة ويوصي قادة القافلة أن يوصلوهم إلى المدينة معزّزين مكرّمين.
ولذلك فإنّ يزيد أرسل مع أهل البيت عليهم السلام من يرافقهم بعد أن أوصاه أن لا يقصّر لحظة عن خدمتهم واحترامهم في مسيرهم حتّى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله.
ناهيك عن أنّه هيّأ لهم مستلزمات السفر على أحسن وجه وسمح لنساء الشام أن يرتدين السواد ويخرجن مع الرجال لمشايعة القافلة.
وبعد أن خرج الإمام زين العابدين عليه السلام من مجلس يزيد أمر القافلة أن تخرج فخرجت العلويات المخدّرات وخرجت نساء آل أبي سفيان وبنات وزوجاته صارخات باكيات بأعلى أصواتهنّ.
يقول البعض: عندما رأت العقيلة زينب عليها السلام المحامل المزيّنة تأوّهت وجذبت في قلبها حسرة وقالت: ماذا نصنع بالمحامل المزيّنة؟!
فأمروا بالمحامل وضربوا عليها السواد وضجّ الناس لهذا المنظر واعتلى بكاءهم وعويلهم حزناً لمصاب أهل البيت عليهم السلام.
وقيل: إنّ أهل البيت عليهم السلام عندما أرادوا أن يركبوا المحامل تذكّروا يوم خروجهم من المدينة، وبكوا بشدّة وكان الإمام السجّاد عليه السلام يصبّرهم ويسلّيهم.
وحقيقة كان ذلك اليوم صعب على أهل البيت عليهم السلام إذ أنّ كلّ واحد منهم راح يظهر شجونه وآلامه بلسان خاصّ إلى أن خرجوا من دروازة الشام.
أمّا أهل الشام الذين خرجوا لمشايعة أهل البيت عليهم السلام فلم يهدأ ضجيجهم وبكاؤهم إلّا بعد أن غابت أشخاص أهل البيت عليهم السلام عن الشام فعادوا إلى ديارهم باكين مهمومين.
وعلى خلاف مسير أهل البيت عليهم السلام إلى الشام حيث كانوا يسوقونهم بلا هوادة رجعوا إلى مدينة جدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله معزّزين أحراراً، متى أرادوا المسير ساروا، ومتى ما أحبّوا البقاء والمكوث بقوا، بل وفي أي مدينة يريدون الدخول يسمح لهم بكلّ حرّية، فكان أهل البيت عليهم السلام يدخلون المدن ويقيمون العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام وينصبون له المآتم طيلة سفرهم.
وفي طيلة مسيرهم إلى المدينة كان النعمان بن بشير يرافقهم بكلّ احترام وتوقير، ومتى ما نزلت القافلة كان يبتعد وهو وجماعته عن الحرم لتطمئنّ العلويات ويهدأ بالهنّ ولا يضطرب خاطر أحد منهم، وقد استمرّ الوضع على هذا الحال إلى أن قربت القافلة من العراق.
يبقى القول إنّ مسيرة السبايا من أوّلها إلى آخرها حيث عاد أهل البيت عليهم السلام إلى مدينة جدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله ستبقى شاهد صدق على مرّ التاريخ يشهد للأجيال على مرّ الزمان ويشيد ببطولة عقيلة الهاشميين السيّدة زينب عليها السلام التي هدّت عرش الطاغية يزيد، وقلبت عاصمته رأس على عقب حتّى جعلت ذلك الأرعن يسمح لها بإقامة مجلس العزاء في دياره ولا يمنع أحداً من الدخول إلى هذا المجلس علماً أنّه يعلم أنّ العقيلة لم تعقد المجلس إلّا لتشيد بفضائل أهل البيت عليهم السلام وتنال من آل أبي سفيان.
فلولا السيّدة زينب عليها السلام لما افتضح يزيد الطاغية بهذه الكيفية بحيث إنّ أهل الشام ينصبون أعلام السواد حزناً على سيّد الشهداء عليه السلام، وبالطبع فإنّ هذا غير مقتصر على الشام فقط، بل في كلّ مكان نزلت به العقيلة زينب عليها السلام كانت تشيد بفضائل أهل البيت عليهم السلام وتبذل مساعيها الجبّارة من أجل إعلاء كلمة الحقّ خفّاقة.
ولذا فإنّ العالم اليوم مدين في عقيدته لمواقف العقيلة زينب عليها السلام التي حفظت الشريعة من الضياع وأوصلت صوت سيّد الشهداء عليه السلام إلى العالم عبر مرّ التاريخ، وهذا خير شاهد على عظمتها وجلالة شأنها وعلوّ همّتها وشرافة فضلها وارتفاع مقامها الذي حباها الباري تعالى به حيث منحها كلّ هذه الصفات حتّى حقّقت ما حقّقته بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام(2).
ـــــــــــ
(1) ناسخ التواريخ للمؤرخ الشهير عبّاس علي خان سپهر ج 2 ص 473.
(2) رياحين الشريعة ج 3 ص 198.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة