قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

منهج العلاّمة الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن (١-٢).

 

 سماحة آية الله محمّد تقي مصباح اليزديّ ..

مقدّمة

أودّ، قبل كلّ شيء، أن أتقدّم بالشكر والتقدير، باعتباري مجرّد خادم في مؤسّسة، إلى الأساتذة الأكارم والعلماء الأعلام المشاركين في هذا المؤتمر. ولا أراني - في الحقيقة – إلاّ وقد أدّيت واجبي بهذه الكلمات، إذ ليس شأني، إزاء ما تجشّمه الإخوة الأعزّاء من متاعب، بأزيد من ذلك. نسأل الله جلّ وعلا أن يوفّقنا جميعاً إلى الانتفاع أقصى ما يكون الانتفاع من هذه الموهبة الإلهيّة التي تمثّل اليوم – وببركة عنايات الله عزّ وجلّ، وبفضل جهود النبيّ الأعظم وأهل بيته الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومساعي العلماء الأعلام من بعدهم – تراثاً غاية في النفاسة جُعِل في متناول أيدينا (وأقصد القرآن الكريم)، وأن نهتدي بأشّعة أنوار هذا الكتاب السماويّ إلى السبيل المفضية إلى سعادتنا وسعادة البشر أجمعين، ونمضي فيها قُدماً مستعينين بالله ربّ العالمين.

مواجهة التفسير بالرأي كان الدافع من وراء تصنيف تفسير الميزان

 

الحديث عن تفسير الميزان وعن مصنّفه الفذّ، المرحوم العلاّمة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ (رحمه الله) ليس بالمهمّة السهلة. لكن أودّ أن اُشير إجمالاً إلى أنّه ثمّة في أطراف هذين الموضوعين المترابطين مساحة لمزيد من الدراسة والبحث والتحقيق التي آمل، إن شاء الله، أن يخوض فيها الشباب الأعزّاء الذين يمتازون بالحيويّة النابضة والذوق الرفيع لنصل إلى نتائج أفضل وأكثر نفاسة.

 

لكن، ما الذي دفع المرحوم آية الله الطباطبائيّ إلى تأليف هذا التفسير؟ ومن أين نشأت هذه الفكرة أساساً؟ وما هو العامل الذي حثّه على النهوض بهذه المسؤوليّة، وإنفاق جلّ وقته، أو نصفه على الأقلّ، في تأليف هذا التفسير في حينه، على الرغم من امتلاكه ممهّدات النبوغ في الكثير من العلوم الاُخرى؟ ما الذي امتاز به هذا التفسير من خصوصيّات، والتي لا شكّ أنّها وازت الهدف الذي كان يرمي إليه سماحته من كتابته؟ وفي النهاية، ما هي الميزات التي رآها هو نفسه في هذا التفسير؟ والسؤال التالي: هل تحقّقت هذه الأهداف بالكامل يا ترى، أم إنّه لابدّ لتحقّقها من المزيد من الجدّ والاجتهاد؟

 

ليت اجتماعنا هذا كان قد خُصّص بأكمله لكلمة سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الأعرافيّ، إذن لكنّا أفَدنا أكثر من توضيحات سماحته، ولَتعرّفنا أكثر على الأبعاد المختلفة لتفسير الميزان وشخصيّة العلامة الطباطبائيّ. نسأل الله تعالى أن يمدّه وأمثاله بالتوفيق لخدمة أسمى للثقافة الإسلاميّة، وأداء ما في رقبته من دَين للحوزات العلميّة، لاسيّما الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة، على نحو أفضل.

 

إنّ نظرة إلى مقدّمة تفسير الميزان، التي خطّها المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ (رضوان الله تعالى عليه) بقلمه، خليق بها أن تحكي، إلى حدّ ما، مرادَه من وراء تأليفه. فلقد استعرض فيها تاريخ التفسير منذ صدر الإسلام وحتّى عصرنا الحاضر ليبيّن ما برز في علم التفسير من توجّهات، وما طرأ على البحوث التفسيريّة من تحوّلات، وما تبلور من مذاهب تفسيريّة، وما اتّصف به كلّ مذهب من الميزات ونقاط القوّة ونقاط الضعف. إذ يشير سماحته إلى أنّ عوامل شتّى، كان من أهمّها اختلاط الثقافات، قد أسهمت في استحداث مسائل جديدة للمسلمين. ولما كان القرآن الكريم في نظر المسلمين مصدرهم الأساسيّ ومرجعهم الرئيسيّ لحلّ معضلاتهم، فقد سعت كلّ فرقة منهم لسدّ حاجاتها من هذا الكتاب المقدّس، مركّزةً في إفادتها منه على المسائل التي تحظى باهتمامها وتبرع فيها. فعكف المتكلّمون، على سبيل المثال، على الخوض في الآيات التي تجيب على تساؤلاتهم الكلاميّة، وعمد أتباع كلّ مدرسة منهم – بشكل طبيعيّ – إلى تفسير الآيات بالشكل الذي ينسجم مع فهمهم وذوقهم؛ فأكّد المعتزلة، مثلاً، على تلك الآيات التي تتناغم مع مذهبهم، وأصرّ الأشاعرة على آيات اُخرى تدعم عقائدَهم. هذا وقد طرحت الثقافات الاُخرى، التي كانت تفد بين الفينة والاُخرى على المسلمين من الشرق، لاسيّما الثقافة الهنديّة، قضايا حاول المفكّرون المسلمون التفتيش عن حلول لها بين طيّات القرآن الكريم، إلا أنّ نزعاتهم الخاصّة كانت، في الأعمّ الأغلب، تتغلّب على النظرة الحياديّة في عمليّة الانتفاع من هذا الكتاب. ثمّ حلّ العصر الحاضر، وخلال القرنين الأخيرين أسهم التقدّم الذي شهده العالم الغربيّ في العلوم المادّية والإنسانيّة وفي التكنولوجيا، والذي أوجد مذاهب متنوّعة، أسهم – طبعاً - في إثارة استفسارات جوهريّة لدى المسلمين، الأمر الذي قاد إلى محاولة فئات معيّنة منهم، تحت وطأة هذه التحوّلات، وانطلاقاً ممّا تحمل من ميول خاصّة، التماس ما يؤيّد نزعاتها تلك في آيات الذكر الحكيم.

 

ويُلفت العلاّمة الطباطبائيّ إلى وجه مشترك، أو نقطة ضعف مشتركة تقريباً، بين جميع هؤلاء؛ وهي أنّ ضرباً من التفسير بالرأي يلاحَظ في جميع هذه المذاهب؛ بمعنى أن البعض، وقبل أن يستخرج الرأي القرآنيّ القطعيّ من صلب القرآن الكريم ويتبنّاه، فإنّه يقتنع أوّلاً بجواب ما، وتميل نفسه إليه، ثمّ يحاول حمل الآيات عليه، ليدعم تفسيراً أو نظريّة ما وفقاً له. فلقد عدّ العلامة (رحمه الله) ذلك نقطة ضعف، والحقّ إنّها لنقطة ضعف أن يعمد الإنسان، قبل الرجوع إلى نصّ ما، إلى أن يقبل هو بنظريّة أوّلاً، ثمّ يسعى لحمل النصّ المذكور عليها. فهذا، في الحقيقة، ليس بتفسير، بل هو تطبيق، ولعلّ سماحته قد ساق نفس هذا التعبير أيضاً.

 

ولقد سمعتُ شخصيّاً من لسانه (رحمه الله) أنّ ألوان الزيغ والاعوجاج التي حلّت بالمسلمين في حقل التفسير في القرن الأخير هي التي أشعَرته بمسؤوليّة الخوض في البحوث التفسيريّة. ولعلّ ما جرى في مصر يُعدّ النموذج الأبرز لذلك. فعلاقات مصر بالدول الاوروبّية كانت أكثر التصاقاً، كما أنّ تسلّط فرنسا ومن ثمّ أخواتها عليها لفترة من الزمن زاد من ارتباط المصريّين ثقافيّاً بالاوروبّيين؛ فقد كانوا يرسلون الكثير من طلابهم إلى فرنسا للدراسة، وكان أساتذة فرنسيّون يُدرّسون في جامعاتهم أيضاً، الأمر الذي أدّى إلى تمهيد الأرضيّة لظهور الميل إلى العلوم الطبيعيّة المعاصرة والعلوم الإنسانيّة من وجهة النظر الغربيّة. بل وقد ظهر حتّى على بعض أساتذة الأزهر، الذين يُنتظر منهم التصدّي للدفاع عن القرآن والإسلام، نزوعٌ إلى التفسير بالرأي وتطبيق آيات القرآن على معطيات العلوم الغربيّة. ولم تغب أمثال هذه التوجّهات، بشكل أو بآخر، عن تفسير المنار كذلك، الذي دُرِّس من قبل اُستاذ يُفترَض أن يكون من كبار علماء الأزهر. والقدر المشترك لهذه التوجّهات هو الميل إلى تفسير القرآن الكريم وفقاً لمعطيات العلوم التجريبيّة. فمن باب المثال عمد هؤلاء إلى تطبيق حقائق قرآنيّة من قبيل اللوح، والقلم، والعرش، والكرسيّ، والملائكة، وأمثالها على عوامل وموجودات مادّية. ولم يقفوا عند هذا الحدّ، بل قاموا بتفسير الوحي، والكرامات، والمكاشفات، وما هو من هذا القبيل أيضاً تفسيراً مادّياً، نوعاً ما. وعندما وجدت هذه الموجة أتباعاً ومؤيّدين لها في الدول الإسلاميّة والبلدان الشيعيّة، لاسيّما في إيران، وبدأت بالنموّ والانتشار، فقد شعر العلامة (رحمة الله عليه) بالخطر المحدق من أن يواصل هذا النهج طريقَه، فنُبتلى بمرض قبول إنجازات ومعطيات العلوم الغربيّة أوّلاً، ثمّ نحاول جاهدين إسقاط الآيات القرآنيّة عليها، أو نستقي منهم نظريّات العلوم الإنسانيّة، من مسائل حقوقيّة وسياسيّة وغيرها، ومن ثمّ نطيل التفتيش عن آية في القرآن الكريم تنسجم معها لنقول: «القرآن أيضاً يقول ذلك»، وهي إسقاطات طالما حصلت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة