علمٌ وفكر

التفكير النقديّ محمد باقر الصدر أنموذجاً (3)

 

بعد إيضاح مستوى التفكير النقديّ أو بصيرة النقد، لا بُدَّ من الحديث عن المستويات والدرجات التي تكون فيه؛ إذ تُطرح مستويات ثلاثة للتفكير النقدي، لا بُدَّ من استعراضها؛ لملاحظة أنّ السيد الصدر في أيِّ درجةٍ منها:

 

المستوى الأوّل: النقد السطحيّ

المستوى السطحيّ في التفكير النقديّ ـ ولا نقصد بكلمة (السطحيّ) التقليل من شأنه، بقدر ما نريد توصيفه فقط ـ هو النظر الشكلانيّ للقضيّة. وإذا أردتُ أن أعطي مثالاً قريباً منّا يمكن الحديث عن بعض المناقشات الجامعيّة للبحوث، فمع احترامي لكلّ المناقشين في بحوث تخرُّج الماجستير والدكتوراه، نجد بعضهم أحياناً يقدِّمون اعتراضات سطحيّة وشكليّة هي جزءٌ من وظيفتهم، كاعتراضهم على استخدام هذه المفردة أو تلك، وعلى عدد الكلمات الموظَّفة في هذا العنوان أو ذاك، وعلى الشؤون الصياغيّة والشكليّة والأسلوبيّة والطباعيّة ونحو ذلك. فالطابع العامّ على الاعتراضات والنقديّات التي تقدَّم في أمثال هذه البحوث هو السطحيّة، ومعالجة الشكل والظاهر.

ومن هذا النوع من النقد ما نسمِّيه بالنقد الجُملي، وهو نقدٌ شاع في الفترة الأخيرة، حيث يتمّ أخذ جملةٍ من نصٍّ طويل أو من مشروع فكري، ثمّ تقديم المشروع الفكري على أنّه هذه الجملة، وحصر العملية البحثيّة والتحليليّة فيه بهذه الجملة أو تلك!

 

المستوى الثاني: النقد الموضعيّ

تدخل العمليّة النقديّة في بعض الأحيان في مرحلةٍ أعمق، سنطلق عليها: «مرحلة النقد الموضعي»، أي تأخذ جزءاً من الفكرة أو النظريّة، وتبدأ بتسليط الضوء عليه، وكأنَّما تشرِّحه، كما يمارس الطبيب الجرّاح ذلك، أو تأتي بجزءٍ من نظريّةٍ في علم أصول الفقه أو الفلسفة أو علم الكلام الجديد مثلاً، ثمّ يُصار إلى تسليط الضوء عليه بطريقةٍ ممتازة، ونقده.

 

المستوى الثالث: النقد البنيويّ

نعني بالنقد البنيويّ أنّ الباحث يأخذ جسم النظريّة والفكرة بشكلٍ عامّ بعين الاعتبار، وبعد ذلك يوجِّه سهام النقد إليه، فيدَّعي أن هناك مشكلةً تعتري هذه النظريّة أو الفكرة من أقصاها إلى أقصاها. ففي بداية الأمر يتمّ تلقّي الرؤية بشكلٍ كامل، ليتحوَّل بعد ذلك إلى عمليّة نقدها، أو يتمّ تلقّي مدرسةٍ فكريّة كاملة ومن ثمّ يقدِّم النقد لمجموعها، لا أنّه يمارس النقد لجزئيّة هنا أو جزئيّة هناك فقط، بل النقد يوجَّه إلى الخارطة والهيكليّة العامّة، والنسيج الحاكم، والبنية التحتيّة، والمسار العامّ، لهذه المدرسة أو هذا الاتجاه والرؤية.

وإذا حلَّلنا نمط النقد ومستواه عند السيد الصدر فسنراه يتراوح في الغالب ويتأرجح تارةً بين النقد الموضعي والنقد البنيويّ. فحين كان يناقش كان يناقش مدارس فكريّة، وهو أمرٌ ليس بالسهل على الإطلاق، فقد يكون في متناول الإنسان مناقشة فكرة معيّنة أو نظريّة خاصّة، لكنّ مناقشة مدرسة فكريّة تتألَّف من مجموعة هائلة من الأضلاع ليس بالأمر الهيِّن، بل يحتاج إلى جهدٍ أكبر في العمليّة النقديّة؛ حتّى يتمكَّن الباحث من النجاح في ذلك.

وأعتقد أنّ السقف الذي عالجه السيد الصدر في تفكيره النقديّ كان انطلاقاً من النقد السطحيّ، مروراً بالموضعيّ، ووصولاً إلى النقد البنيويّ، وذلك حين نقد الاتجاهات الماركسيّة في الاقتصاد، والمادِّيين في الفلسفة، والمدارس المنطقيّة في علم المنطق. فنحن أمام رجل لا تقف انتقاداته أو نقديّاته عند أفكار داخل أطرٍ، كما هو الحال الغالب عندنا حين ننتقد فكرةً لنصير الدين الطوسي أو المحقِّق النائيني مثلاً، حيث تعجّ بهذا الحال المنظومة الإسلاميّة، وإنَّما قدَّم الصدر نقداً للمدارس والرؤى بشكلٍ كامل، وهذا الأمر ليس بالشيء الهيِّن، بصرف النظر عن مدى نجاحه في نقديّاته.

إنَّنا بحاجةٍ إلى استلهام عمليّات النقد عنده، وتخطّي الجانب السطحيّ إلى الجانب الموضعيّ، وتخطّي الجانب الموضعيّ أيضاً إلى الجانب البنيويّ، فنقرأ المدارس قراءةً بنيويّة.

في بعض الأحيان يطالع الإنسان مقالاتٍ أو بحوثاً متعلِّقة بنقد مدارس فكريّة أخرى، لكنّه يكاد الشعور بشيءٍ من الإحباط؛ وذلك لأنّ هذا الشخص الذي يقوم بعمليّة النقد يمارس نقداً موضعيّاً لمدرسةٍ، وهذا الشيء غير منطقيٍّ، كما أشرنا قبل قليل. فنقد الرأي الفقهي في مسألةٍ تفصيليّة في باب الطهارة أو في باب العقوبات الجزائيّة، أو نقد آليّة اعتمدوها في فقه النكاح والطلاق، لا يعني صحّة تسميته بالنقد البنيويّ، أو نقد المدرسة وأصول التفكير. والخلط بينهما أدّى ببعض كُتَّابنا إلى أنَّهم حين يكتبون في نقد المدارس يستخدمون هذه الطريقة، بحيث ينظر إليهم الآخرون بنظرةٍ سطحيّة؛ لأنّ هذا لا يشكِّل نقداً مدرسيّاً، بقَدْر ما هو نقدٌ محدود الدائرة.

 

مجالات التفكير النقديّ، من الآخر إلى الذات

وإذا تجاوزنا مستويات النقد، التي نستلهم من السيد الشهيد مستوياتٍ عميقةً فيها، ندخل في مجالاته. فغالباً ما نقدِّم النقد للآخرين، بمعنى أن يكون نقدُنا لغيرنا، وهو أمرٌ سهل. ولو أردتُ أن أحفر قليلاً فإنّ نقد الآخرين يعزِّز الذات، ومنسجمٌ مع الأنانيّة والذاتيّة، ولا أقول: هي ذاتيّةٌ، بل أقول: إنها تصلح للانسجام مع الذاتيّة؛ لأنّ من طبع الإنسان ورغبته أن يُسقط الآخر، لكنْ من الصعب أن يرغب في نقد ذاته، فنقدُ الذات فيه جهاد مع النفس، وفيه محاربة للأنا في هذا الإطار.

وإذا رصدنا السيد الصدر سنجده اشتغل على الملفَّيْن معاً (نقد الآخر؛ ونقد الذات). والقسم الثاني يحتاج إلى محاربة للأنا؛ لأنَّك تقوم في نقد الذات بمحاربة ذاتك للوَهْلة الأولى. فحين يقوم السيد الصدر بنقد الأمّة الإسلاميّة فهو ينتقد ذاته الجماعيّة، وحين ينتقد المؤسَّسة الدينيّة فهو ينتقد ذاته أيضاً، وحين ينتقد الحركة الإسلاميّة فهو ينتقد نفسه أيضاً، وحين ينتقد الحوزات العلميّة فهو ينتقد نفسه أيضاً، وكذا البرامج التعليميّة.

إنّ عمليّة نقد الذات تحتاج في بعض الأحيان إلى جهاد. فمن السهل عليَّ أن أنتقد الآخر، لكنّ من الصعوبة بمكانٍ أن أنتقد ذاتي؛ بل أحياناً نجد أنّ نفس هذا النقّاد حينما يصرف نظره تلقاء نفسه تتعطَّل آليّاته العقليّة النقديّة، فيكون الأمر صعباً عليه، وكأنَّما وضعت القيود في يدَيْه، فعقلُه لا يقدر على ممارسة عمليّة النقد الرائعة التي كان يمارسها ضدّ الآخرين؛ لأنّ الأنا هنا تدخل بقوّةٍ، من حيث شعر أم لم يشعر، ونقد الأمّة والحوزة والمرجعيّة ومناهج التعليم والحركة الإسلاميّة وغير ذلك هو جزءٌ من عمليّة نقد الذات.

وكما استخدم هذا الشهيد الكبير هذا المزدوج من نقد الآخر ونقد الذات، نحن اليوم أيضاً مطالبون باستلهام هذا المنهج، في أن لا نجمد على نقد الآخر، فلا نرى هذه الذوات التي ربما تكون خاطئةً، كما لا نجمد على نقد الذات؛ كي لا نغرق أيضاً في عمليّة إحباطٍ غير سليمة.

مواقيت الصلاة