علمٌ وفكر

منهج التثبت في شأن الدين

 

السيد محمد باقر السيستاني ..

أهمية البحث وضرورته:

 تكمن أھمیة ھذا البحث في مساسه بحیاة الإنسان؛ لأن الدین في الحقیقة لیس إلا رؤیة كونیة تشرح أبعاد ھذه الحیاة، وتثبت حقائق كبرى ثلاث ھي: وجود الله سبحانه وتعالى. ورسالته إلى الإنسان. وبقاء الإنسان بعد ھذه الحیاة سعیداً أو شقیاً حسب أعماله وسلوكیاته فیھا.

وھذه الحقائق مما ینبغي لكل إنسان أن يبت في شأنھا، فإنھا لیست ضرباً من الترف الفكري إشباعا لحب الاطلاع، أو طلباً لمزید من السعادة كالبحث عن المجرات وأحوالھا وأسالیب توفیر الراحة ونحوھا، وإنما تقع في صلب حیاة الإنسان؛ لأنھا تعیّن القواعد الأساسیة لحیاته العملیة بما تملیه له من منھج عملي في حال توصله إلى إثبات ھذه الحقائق أو احتمالھا.. وھذا بخلاف ما إذا توصل المرء إلى نفیھا القاطع؛ فإنه سوف یتحرر عن مراعاة خطورتھا.

 

أدوات البحث: إدراكات العقل النظرية والعملية:

 ویعتمد ھذا البحث في أدواته على إدراكات العقل الواضحة التي ھي من بدیھیات الحیاة الإنسانیة العامة، ومرتكزاتھا في كل خطوة من خطواتھا، وكل جزئیة من جزئیاتھا؛ وذلك أن من المعلوم أن الحیاة الإنسانیة تعتمد على ركنین:

أحدھما -ركن نظري-: وھو إدراك الأشیاء من خلال العقل، فنحن كلنا نذعن بوجود أنفسنا، وحواسنا، وأعضائنا، والأشیاء التي بین أیدینا من أشخاص وأدوات وأطعمة وغیرھا، ونتفاعل معھا، وننطلق في كل ذلك من بدیھة قیمة الإدراك الإنساني، مع التثبُّت في مواقع احتمال الخطأ.

وإذا ادّعى امرؤ عدم قیمة الإدراك الإنساني فھو یغالط نفسه؛ لأن كل فعل وردّ فعل من ھذا المدّعي نفسه یبتني على الاعتماد على ھذا الإدراك من حیث یحتسب أولا یحتسب.

الآخر -ركن عملي-: وھو إدراك قواعد العمل في الحیاة، وھذا الجزء ھو أساس القوانین التي تنظم حیاة الإنسان الفردیة والاجتماعیة، وھو في أصله المصدر الأم لجمیع القوانین التي تجري علیھا الدول والحكومات. وإن كانت قد تختلف في تفاصیل ھذا القانون من جھة الاختلاف في دقة الإدراك، أو في آلیات مراعاة القانون، أو تغلیباً لنوازع شخصیة أو غیر ذلك.

ولیس من الممكن لأحد إنكار وجود قواعد لحیاة الإنسان یدركھا بعقله، ویتعیّن الإلزام والالتزام بھا لتأمین حیاته، كیف؟ وإنما وجدت القوانین والآداب الاجتماعیة بأنواعھا من العرفیة والوضعیة والشرعیة، ومن قوانین الأسرة والعشیرة والدولة لھذه الغایة.

ولمّا كان ھذا البحث ینطلق من ھذه البدیھیات العامة، ویستمد قیمة نتائجه من قیمتھا، فھو یمثل إلزاماً عقلیاً لكل إنسان عاقل یعترف بھذه البدیھیات.

ولربما شكّك بعض من بحث في الفلسفة في قیمة الإدراك الإنساني والثقة به وأنكره آخرون، إلا أن إبطال مثل ھذا التشكیك لیس بحاجة بحاجة إلى أزید من تنبیه المنكرِ وإلفات نظره إلى أنه بنفسه یجري على الاعتماد على الإدراك في كل تصرف من تصرفاته، حتى في إنكاره لقیمة مطلق الإدراك؛ لأن ھذا الإنكار بنفسه إدراك وحكم عقلي، كما أنه مبني على مجموعة مدركات، فإنه یرید أن یبلّغ قیمة ھذا الإدراك للآخرین، ففيه بتّ بوجود الآخرین وإدراكھم لما یقوله وسعي إلى إقناعھم وفق الأدوات التي تلائم تفكیرھم وفھمھم، وكل ذلك إنما ھو تعامل مع واقعیات مدركة.

كما شكك بعض من بحث في الأخلاق في قیمتها ورأى أنه لا قواعد أخلاقیة للحیاة، وإنما ینطلق الإنسان في تصرفاته ومشاعره من منطلق القوة والضعف.

إلا أن ذلك تشكیك نظري یتناقض مع ما ھو بنیة حیاة كل إنسان في تعامله مع الآخرین، ولا یتطلّب الرد علیه – كما ھو الحال في سابقه ـ أكثر من تنبیه على أن المنكر بنفسه ینطلق في تعامله مع أسرته وأولاده وأصدقائه وأبویه وجیرانه وأساتذته وأرباب عمله من لیاقات وآداب یراعیھا، ویتوقع مراعاتھا من الآخرین؛ فلو أساء إلیه ابنه لعاتبه بأنه كیف یفعل ذلك وھو أبوه؟! ولو نقض ربُّ عمله الاتفاق معه لاحتج علیه بأنه خلاف الاتفاق.. وكل ذلك احتجاج بمفاهيم أخلاقیة.

فاتضح مما تقدم: أن أصل قیمة الإدراك العقلي ــ بقسمیه النظري والعملي ــ ھي القاعدة الأساس لحیاة الإنسان التي ینطلق  بارتكازه وفطرته منھا، ولا حاجة  إلى بحث إضافي أو أي استدلال.

 

لزوم تثبُّت المرء في أمر الدين:

ونظراً إلى أن أحد بنود ھذا الإدراك العقلي الواضح لزوم تثبت الإنسان في شأن الأمور الخطیرة المحتملة فإنه یصح القول ــ على الإجمال ــ أن لزوم تثبت الإنسان في أمر الدین أو بتعبیر آخر حول ھذه الحقائق الكبرى یعتمد على إدراكات عقلیة بدیھیة تقوم عليها بنیة الحیاة الإنسانیة في كل تصرفاتھا وأن التساھل في ذلك لیس خروجاً عن قواعد العلم فحسب، بل ھو خروج عن قواعد العقل الواضحة، وسیأتي المزيد في توضیح ذلك.

وعلیه: فإن على كل إنسان غیر مخادع لنفسه وطالب للحقیقة بجد أن یكوّن لنفسه الرؤیة الكونیة من خلال البتّ في ھذه الحقائق والاعتبار بھا.. لا سیما بالنظر إلى ما سیأتي من أن الحقائق الخطیرة یكفي في ضرورة الاعتناء بھا احتمال ثبوتھا فقط - وخصوصاً إذا كان ذلك الاحتمال قبل التثبت والفحص-؛ إذ على ھذا لا یسع أحداً أن یعرض عن أمر التثبُّت الكافي في شأن ھذه الحقائق اللائق بأھمیتھا إلا إذا زعم وضوح عدم صحتھا من أساس من دون حاجة إلى بحث وتثبُّت، وھذه مجازفة واضحة لا أظن أن یرتكبھا من یحترم عقله ویعي ما یقول.

ومن ثَمّ یرجى ممن یطلع على ھذا البحث أن لا یتعامل معه كترف أو یتسرع  في اتخاذ موقف حتى یتأمل فیه تأملاً كافیاً، ویكوّن لنفسه بمعونة ھذا البحث انطباعاً ناضجاً في شأن ھذه الحقائق.

 

الاهتمام بالمقارنة مع منطق القرآن في الإقناع:

 ھذا ورغم أننا في ھذا البحث لا ننطلق من بناء مسبق على أحقية الدین ــ فیما جاء به من الحقائق الكبرى ــ إلا أنه حیث أن الدین نفسه ینطلق من المنطق لإقناع الناس به، فسوف نلاحظ النصوص الدینیة لملاحظة مدى تطابق المنطق الذي تتبناه لإقناع الناس مع المنطق العقلي الفطري، وذلك من خلال ملاحظة القرآن الكریم الذي ھو -من الناحیة التاریخیة- أوثق رسالة دینیة من خالق ھذا الكون والحیاة إلى الإنسان مطروحة في أوساط الناس، كما أنه من الناحیة المضمونیة أنسب وأروع في تعالیمه بمجموعها من سائر الكتب الأخرى، حتى أذعن بروعته بعض أھل العلم من الأدیان الأخرى.

ومن ھذا المنطلق ینبغي إلفات النظر إلى أن القرآن الكریم ینطلق في قاعدته الأساسیة لإقناع الناس من خلال الإذعان بالعقل بنوعیه النظري والعملي موافقاً بذلك للبديهة المتقدمة.

أما ارتكازه على العقل النظري: فلأننا نشھد في كثير من آیات القرآن الكریم تركيزاً على العقل ومحاولة إثارة التفكُّر والتعقل والتدبّر بأشكال مختلفة من خلال استنطاق الكون واكتناهه، ودلالات الكائنات على ما ورائھا، ومقایسة مضمون الرسالة الإلھیة المطروحة بمقاییس العقل النظري كما جاء في ذیل كثیر من الآیات بعد ذكر روائع من مشاھد الحیاة: "لِقَوم یَعقِلُون" "لقَوٍم یَتَفكرون".

 ومن المعلوم أن ھذا الأسلوب في الإقناع ینطلق من التحفیز والتحریك للعقل وإثارته، ولذلك جاء في كلام أمیر المؤمنین عليه السلام ما یدل على أن الغایة الأصلیة لبعث الأنبیاء ھي إثارة العقل، وتحفیزه للإدراك.  ففي الخطبة الأولى من نھج البلاغة: وواتَر إِلَیھم أَنبِیَاء لِیَستَأدوھُم میثَاق فِطرتِه، ویُذكِّروھُم منسيّ نعمتِه، ویَحتَجوا علَیهم بِالتبلِیغ، ویُثِیروا لَھُم دفَائِن العقُول ویُروھُم آیات المقدرة ، من سقفٍ فوقھم مرفوع ومھاد تحتھم موضوع ، ومَعایِش تُحیِیِھْم وآَجالٍ تُفنِیِھْم وأوصاب تُھِرُمھُم،وأحداث تَتَابَع عليهم.

وأما ارتكازه على العقل العملي: فلأننا نجد أن القرآن یلزم الإنسان بالإیمان بالله تعالى على أساس شكره ومن المعلوم أن الشكر مفھوم أخلاقي، كما أنه تضمن جعل المعروف والمنكر أساساً لتشریعات الدین، بل احتج على صدق النبي صلى الله عليه وآله فیما أتى به من الرسالة بأن مضمون رسالته ھو الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر، ومن المعلوم أن المعروف ھو ما عرفه الناس بعقولھم واطمئنوا إلیه، والمنكر ما أنكروه ورغبوا عنه بفطرتھم، فھما مفھومان أخلاقیان جامعان للأفعال النبیلة وأضدادھا. قال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ. نعم، لا شك في استعانة الدین بالمعاجز في إقناع الناس، إلا أن التعویل لم یكن على مجرد المعجزة، بل وقع الاحتجاج بھا في القرآن في المرتبة الثانیة؛ ولذلك نجد في مواطن عدیدة منه عدم استجابة الله تعالى لما كان یقترحه الكفار على النبي صلى الله عليه وآله من المعاجز حتى یؤمنوا برسالته صلى الله عليه وآله وربما یظهر من بعض تلك الآیات رغبة النبي صلى الله عليه وآله في الاستزادة منھا، في سیاق مسعاه لتوجیه الناس وحسرته على إصرارھم على الضلالة، قال تعالى: وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ  فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ.

ھذا على أن دلالة المعجز أیضاً مما يعتمد على العقل؛ باعتبار كونھا عملاً خارقاً لا یتأتى من إنسان، فیدل على ارتباط الإنسان بقوة خارقة.

ذلك یظھر: أن ما یتداول في بعض الأوساط من أن منطق الدین ھو الاعتماد على دلالة المعاجز والخوارق لیس صحیحاً، بل جلّ اعتماد الدین ــ خصوصاً الإسلام ــ على تحفیز العقول والتفكر في مضمون الدین وإثارة روح التأمل والتفكیر لدى الإنسان.

وبھذا یتجلّى أن الدین الإلھي المتمثل في دین الإسلام ــ الذي ھو محصّل الأدیان وأوثقھا ــ ینطلق من نفس المنطلق الفكري الذي بینّاه من الإذعان بالعقل النظري في استنباطاته الواضحة، وبالعقل العملي من خلال ما یشھده الإنسان بفطرته الصافیة.

وإذا كان في التعالیم الدینیة ثمة ما یعتقد بعض الناس أنه یخالف العقل فلا بد من التثبّت عما إذا كان للدین مخرجاً وتفسیراً لذلك، بعد إصراره على أن العقل والعقلانیة ھما أساسه ومبنى الإقناع لدیه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة