علمٌ وفكر

هل الكوارث والشرور تناقض برهان النظم؟ (1)

 

نقض الشّرور لبرهان النّظم

صحيح أنّنا نرى أشكالا من النظم في عالم الخلق، لكنّنا نرى إلى جانبها أشكالاً متنوّعة من انعدام النظم والشرور لا تنسجم مع عقيدة الإلهيين بوجود إله يدبّر شؤون العالم، وأوضح دليل على ذلك أن الجميع- حتى الموحدين وأتباع الأديان الإلهية - يتذمّرون باستمرار من الوضع الموجود ويطالبون بتغييره إمّا بالعمل أو الدعاء.

 

المراد من الشرور والأسئلة المثارة بشأن وجودها

إنّنا نرى كثيراً من الشرور وأشكال انعدام النظم والتدبير في العالم، سواء في الشؤون المرتبطة بحياة الإنسان أو غيره من الموجودات، مثل الحيوانات التي لا تقع ضمن دائرة مسؤولية الإنسان، فلماذا تقع الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية؟ إذا كان ثمّة تدبير ونظم يحكم عالم الوجود، فلماذا تقع الزلازل بصورة مفاجئة فتدمّر المدن وتدفن الآلاف من الأبرياء تحت الأنقاض؟ لماذا يتفشى أحد الأوبئة فجأة ويحصد الصغار والكبار والأبرياء والمذنبين دون تمييز؟ بل وكسؤال عام نقول: لماذا خلقت كلّ هذه الكائنات الحيّة التي تحتاج الى طعام دون توفير ما تحتاجه من غذاء؟ إنّ النظام القائم هو نظام شريعة الغاب والتنازع من أجل البقاء، فالحيوانات يأكل بعضها بعضا بسبب عدم توفر ما يكفيها جميعا من الغذاء، ولو كان المقدار اللازم من الغذاء متوفّراً لكان عدد المخلوقات أكثر بكثير من العدد الفعلي.

 

الجواب الإجمالي على شبهة الشرور

عادة ما يجيب المتديّن على الأسئلة المتفرّعة من الشبهة المتقدّمة بجواب مجمل، فإذا سألته: لماذا تنزل بنا كل هذه المصائب والشدائد، ولماذا تصيبنا الأمراض؟ ولماذا... ولماذا...؟ تسمع منه هذا الجواب المجمل: توجد - ولا ريب - مصلحة في كلّ ذلك... فالله أعلم بما يصلح خلقه، ولا بدّ من وجود حكم ومصالح من خلقه للموت والفقر والجهل والمرض.

ولا يخفى أن هذا الجواب المجمل يقنع المؤمنين فقط، ومرادي من وصف المؤمنين هنا ليس المتعبّدين، بل الذين بلغ بهم الإيمان بعظمة نظم هذا العالم درجة من الرسوخ والقوّة تجعلهم يشعرون بالجهل - قبل كلّ شيء - عندما يواجهون مثل هذه الأسئلة، وهذه حالة طبيعية في الإنسان، إذ إنّ كلّ من يشعر بعظمة شخص معيّن ولا يرى في أفعاله سوى حسن النظم والحكمة والعدالة لا يعترض على ما لا يعرف أو لا يفهم وجه الحكمة فيه من أعماله، بل يقرّ بجهله، ويقول: لا شكّ في وجود حكمة في هذا العمل، وجهلي بها لا ينفي وجودها.

فحاله هي كحال الذي يدخل في مصنع مبني على درجة عاليه للغاية من النظم والترتيب والدقّة، ثمّ يرى في إحدى زواياه أشياء يتصوّر أولاً أنّها زائدة ولا فائدة منها للمصنع، ثمّ يتراجع عن هذا التصوّر، ويقول: إن من أنشأ هذا المصنع بكلّ هذه العظمة والدقّة والنظم المتقن لا يمكن أن يغفل عن هذه الأشياء، لا بدّ أنّه قد وضعها هنا لحكمة معيّنة لا ينفي وجودها جهلي أنا بها.

إذاً، مثل هذا الجواب المجمل مقنع لمن بلغوا هذه المرتبة من الإيمان، أمّا الذين لم يبلغوا هذه المرتبة من الإيمان، فهم بحاجة ماسّة الى جواب تفصيلي، وهو الجواب الذي نعرضه فيما يأتي:

 

الجواب التفصيلي، تحليل ماهية الشرور

إنّ جميع الشرور أمور عدمية وليست أموراً وجودية، فالوجود هو خير محض، وكلّ ما ترونه شرًّا فهو عدم.

وهذا القول يعني أنّ العالم لا يتكّون من نوعين من الوجودات: وجودات خير ووجودات شرّ، ولذلك فلا يبقى ثمّة مجال للاعتراض القائل: لماذا خلق مبدأ الوجود، وجودات الشرّ الى جانب وجودات الخير؟ لأنّ جميع الشرور هي عدم وأمور عدمية، فالموت ليس سوى "عدم الحياة" وخالق الحياة لم يخلق الموت كوجود مستقلّ، بل إنّ خالق الحياة هو خالق الحياة، وغاية الأمر هو أنّ الحياة ما دامت محدودة بحدّ، فإنّ ما بعد هذا الحدّ هو العدم، كما هو الحال إذا خططت خطاً بطول متر واحد، فأنت هنا خالق لهذا الخط، لكنّك إذا وضعت هذا الخطّ إلى جانب خط طوله متران وجدته فاقداً لخطّ طوله متر واحد دون أن يعني ذلك أن خلقت "عدم" وجود هذا المقدار المفقود، بل الصحيح أنّك لم تخلق هذا المقدار من الخطّ.

 

الشرّ عدم أو منشأ للعدم

وهكذا الحال مع كلّ ما ترونه شراً في هذا العالم، فإذا تتبّعتم ماهيّته وجدتموه عدماً وفقداناً بنفسه، أو وجودا لكنه ليس شراً بما هو وجود، بل بما هو منشأ للعدم والفقدان، وهنا أيضاً يكون شراً من جهة كونه يؤدّي إلى العدم والفقدان.

فالعمى شرّ لأنّه عدم وفقدان. أمّا العمل الذي يؤدّي الى العمى، فهو وجود بما هو عمل، لكنه يكتسب صفة الظلم، والظلم شر، إذا قام شخص به وسلب بصر شخص آخر. صحيح أنّ الظلم شرّ، ولكن لماذا هو شر؟ هل أن وجود القوّة لدى من يأخذ سكيناً ويقلع بها عين شخص آخر هو شرّ بما هي قوّة؟ وهل أنّ وجود الإرادة فيه شرّ؟ وهل أنّ قدرته على تحريك يده شرّ؟ وهل أن وجود صفة القطع في السكين شرّ؟ وهل أنّ كلّ هذه الأمور تكون شراً إذا لم تؤدّ إلى العدم وفقدان البصر؟ وهل سيكون وجودها ظلماً؟ كلا. إنّ كلّ هذه الأمور الوجودية هي خير، ولا تكتسب صفة الشرّ إلا إذا أدّت إلى نوع من العدم، وهو العمى.

 

معنى عدميّة الشرور

كذلك الحال مع الفقر والضعف والجهل فهي شرور، لأنّها مصاديق للعدم والفقدان، كما أنّ جميع الأمور الوجودية التي تؤدّي إلى العدميات تكتسب صفة الشرّ لارتباطها بتلك العدميات، أي تكون شروراً بالعرض، أي بواسطة شيء آخر، وليست شروراً بحدِّ ذاتها. ولكنّ بعض الأشخاص فهموا هذه الحقيقة بصورة مغلوطة، فقالوا: إنّ قولكم بأنّ الشرور أمور عدمية يعني عدم وجود العقرب والفقر والظلم التي هي من مصاديق الشرور؟! كلا، هذا الفهم ليس صحيحاً. فالفلاسفة لا يريدون نفي وجود الفقر والفقير أو العقرب، بل إنهم يقولون: إنّ الشرور الموجودة في العالم، إمّا أن تكون - بحدّ ذاتها - أموراً عدمية، وإمّا أن تكون وجودات فيها صفات عدم شيء ما.

* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة