من التاريخ

مسلم بن عقيل (2)

دخول الكوفة وبيعة أهلها لمسلم
وبعد صعوبات واجهت مسلماً وهو في طريق العودة من المدينة قاصداً الكوفة – منها موت الدليلَين اللّذين أُشير إليهما - دخل الكوفة في الخامس من شوّال، ونزل في دار «أوثق أهلها» كما كان الإمام الحسين عليه السلام قد أوصاه، ويبدو أنّه نزل في دار «عوسجة» الذي يغلب على الظنّ أنّه والد الشهيد مسلم بن عوسجة.
وبدأ مسلم يأخذ البيعة من أهل الكوفة للإمام الحسين عليه السلام بأسلوبَين: مباشر، وعبر معتمَدين انتدبهم لذلك؛ ولمّا وجد أنّ الناس مجمعين على الإمام، يلهجون بذكره، مبادرين إلى بيعته، وقد أخذ بيعة اثني عشر ألفاً أو ثمانية عشر ألفاً، كتب إليه عليه السلام يخبره بما رأى في الكوفة: «أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذِب أهلَه، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر الفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».
وقد كتب الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة رسالة يثمّن اجتماعهم على نصرته، ويُعلمهم بقدومه إليهم، ولكنّها لم تصل إلى مسلم لأنّه رضوان الله تعالى عليه استشهد في اليوم التالي لكتابتها، ولا إلى أهل الكوفة، الذين كانت فورتهم قد خمدتْ، وألقى جلاوزة ابن زياد القبض على حامل رسالة الإمام.


الانقلاب المدوّي
أحداث عجيبة وقعت بعد بيعة معظم الكوفيّين لمسلم بن عقيل، فقد بلغ الوالي «النعمان بن بشير» تحرّكات مسلم ومؤيّديه، فحضر المسجد وألقى خطاباً يحذّر فيه من الفتنة والشقاق، ولكن تشوبه بعض الليونة، فلم يعجب بعض أمويّي الهوى من أهل الكوفة، فكتبوا إلى يزيد يشكون الوالي وأنّ موقفه ضعيف في مواجهة انقلابٍ محتوم بقيادة مسلم بن عقيل، فاستشار يزيد «سرجون الرومي» كاتب أبيه معاوية في ما يفعل، فأشار عليه بأن يولّي عبيد الله بن زياد إمارة الكوفة، وكان معروفاً ببطشه ودهائه.
وجدّ ابن زياد السير من البصرة، الذي كان والياً عليها، إلى الكوفة ودخلها متستّراً، فخلع النعمان بن بشير وجمع إليه الأعيان ورؤساء القبائل، فاستمالهم وحذّرهم فانقادوا له، وبلغت الأحداث ذروتها حين استدعى ابن زياد إليه هانئاً بن عروة المراديّ، الذي كان قد انتقل مسلم إلى داره، فضربه وحبسه، عند ذلك اضطرّ مسلم للظهور العلنيّ والتحرّك عسكرياً لإنقاذ هانئ، وهنا فعل الأعيان فِعلَهم بإبعاد الناس عن مسلم بن عقيل، وخذّلوهم عنه، يعضدهم في ذلك حبّ الدنيا الذي تملّك فيهم وأطلّ برأسه ساعة الامتحان.
ولم يأتِ المساء من ذلك اليوم حتّى كان مسلم وحيداً في الكوفة لا يدري إلى أين يتوجّه، فحملته قدماه إلى باب امرأة موالية تدعى طوعة، فاستضافته ريثما يتدبّر أمره، والقصّة معروفة كيف أنّ ابناً لها يدعى بلالاً قد علم بوجود مسلم في الدار، فوشى به عند ابن زياد طمعاً بالجائزة. فما أصبح الصباح إلّا والجند بباب طوعة يطلبون مسلماً، فبرز إليهم يقاتلهم وحيداً مذكّراً بصولات عمّه أمير المؤمنين عليه السلام، ما استدعى من جلاوزة ابن زياد طلب المدد لقتاله.
وبعد ساعات من المواجهات التي تصف كتب السِّيَر بعضاً من صورها، استطاعوا أن يأسروا مسلماً الذي أصابه الإعياء الشديد وأثخنته الجراحات. وقيل إنّهم أعطوه الأمان مراراً فرفضه، ثمّ قبل به أخيراً بعد أن عجز عن مواصلة القتال.    


في الطريق إلى قصـر ابن زياد
كان الشهيد مسلم يحمل همّاً هو عنده أكبر من الحالة التي هو فيها بكثير، ما جعله يبادر فور اعتقاله إلى الحديث مع محمّد بن الأشعث – قائد الفرقة التي واجهها - علَّه يرسل إلى الإمام الحسين عليه السلام مَن يخبره بما جرى، وكيف خذله أهل الكوفة.
جاء في (الإرشاد) للشيخ المفيد: «ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبد الله إنّي أراك والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسيناً؟ فإنّي لا أراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خارج غداً وأهل بيته، ويقول له: إنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أنّه يُمسي حتّى يُقتَل، وهو يقول: إرجع فداك أبي وأمّي بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقَهم بالموت أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذّبوك وليس لمَكذوبٍ رأي. فقال ابن الأشعث: والله لأفعلنّ ولأُعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتُكَ».


الشهادة
دخل مسلم رضوان الله عليه إلى مجلس ابن زياد، وقد أنهكته الجراحات واستبدّ به العطش، إلّا أنّه مع ذلك كان غاية في الصلابة. قال السيّد ابن طاوس في (اللّهوف): «فلمّا أُدخل على عبيد الله لم يسلّم عليه، فقال له الحرسيّ: سلّم على الأمير.
فقال له: أسكت ويحك! واللهِ ما هو لي بأمير.
فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمت أم لم تسلّم فإنك مقتول.
فقال له مسلم: إنْ قتلتني فلقد قتل مَن هو شرٌّ منك مَن هو خير منّي ".." فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام.

فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة، فاقض ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله. فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله، فصعد به وهو يسبِّح الله تعالى ويستغفره ويصلّي على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فضرب عنقه..».
هذا ولم يقف الحقد الدفين الذي هو معدن ابن زياد وأسياده، عند قطع الرأس، ولذلك كان أمر الطاغية صريحاً بما هو أكثر من ذلك: «أتبِعوا جسده رأسه». ولم يكتف اللعين بذلك، بل أمر أن يصلب الشهيد مسلم منكوساً! وكان قد أمر بقتل هانئ بن عروة وسحب الجثّتين في أزقّة الكوفة.
قال ابن أعثم: «بلغ الحسين بن عليّ بأنّ مسلم بن عقيل قد قُتل رحمه الله ".." فاستعبر باكياً، ثمّ قال: ﴿..إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة:156».
ــــــــــ
كتاب (في محراب كربلاء - أحداث الكوفة) الشيخ حسين كوراني.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة