مقالات

في رحاب دعاء أبي حمزة الثمالي (5)

السيد منير الخباز

مما ورد عن أبي حمزة الثمالي عن مولانا زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: ”إلهي أدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ أخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ أناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أوْبَقَهُ جُرْمُهُ، أدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً راغِباً، راجِياً خائِفاً، إذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ، وَإذا رَاَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ، فَإنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم وَإنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم“.

هذه الفقرات النورانية التي تنبض خشوعًا وابتهالًا إذا تأملنا فيها وجدنا الخير الوفير ”إلهي أدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ أخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“ كيف يكون اللسان مذنبًا؟ كيف ينعكس الذنب وتنعكس المعصية على اللسان كي يقال ”بِلِسانٍ قَدْ أخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“؟

إن أهل المعرفة يقولون كل ذنب معه كذب لا ينفك الذنب عن الكذب سواء كانت المعصية غيبة أم عقوق والدين أم شرب المسكر أم أم.. كل معصية فمعها كذب ولأجل ذلك فبمجرد أن يدعو الإنسان ربه يخرس هذا اللسان الكذب الملازم للذنوب، وكيف يكون مع المعصية كذب؟

جاء رجل إلى أحد الأولياء فقال: عظني موعظة تمنعني عن المعصية قال: لا تكذب فخرج من عنده وهو يفكر لماذا نهاه عن خصوص الكذب؟ فقال: له لا تكذب، فبعد فترة لما أراد أن يزاول المعصية ويرتكب الرذيلة خرج يريد المعصية فرآه شخص فقاله له: إلى أين فاضطر إلى أن يكذب من أجل أن يستمر في المعصية فقال: إلى المكان الفلاني مع أنه كان قاصدًا للمعصية فعرف أن الإمعان في المعصية لا يجتمع مع الصدق لا يمكن الاستمرار والإصرار على المعصية إلا بالكذب لأن الإنسان يتستر بمعصيته فيكذب على الناس لأنه يظهر لهم وجهًا وهو يبطن وجهًا آخر يظهر للناس الصلاح والاعتدال وهو يبطن الفساد والانحراف فهو يكذب في فعله ويكذب في قوله أيضاً.

لذا وقف الإنسان أمام ربه في الصلاة وقال ”استغفر الله ربي أتوب إليه“ وهو ملتفت إلى أنه لا يستغفر الله استغفارًا حقيقيًّا لأنه سيعود للذنب مرة أخرى إنما يقول أستغفر الله لتمشية الصلاة هو يرفع يديه في القنوت ويقول ”ربي اغفر ليّ وارحمني“ لكنه يدري في قرارت نفسه أنه سيعود للذنب والمعصية إذن هو يكذب، يكذب عل الناس لأنه مصر على أن يتعامل مع الناس بوجهين وجه الصلاح وهو يبطن وجه الفساد ويكذب في دعائه ويكذب في مناجاته لأنه يطلب المغفرة يطلب الرحمة وهو يعلم أن لا جدوى من هذا لأنه سيعود للذنب مرة أخرى، إذن كيف أدعوك يا إلهي؟

أدعوك بهذا اللسان! بهذه القطعة من اللحم! وهي مملوءة كذبًا. أستغفرك استغفارًا كاذبًا أتوب إليك توبة كاذبة أتوسل وأتذلل إليك تذللًا كاذبًا فأنا مصر أن أعود إلى المعصية مصر أن أعود إلى الذنب ”إلهي أدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ أخْرَسَهُ ذَنْبُهُ“ لا مجال ليّ أن أدعوك بلسان طلق لا مجال ليّ لأن لساني أخسره الكذب أخسره الذنب ذنب التظاهر ذنب أنني أظهر أنني على صلاح وأنا على فساد ”أدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ أخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أَوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ لغة السان هي الدعاء لأنه لغة صوتيه، ولغة القلب هي المناجاة لأنها لغة شعورية فرق بين الفظ والشعور اللسان يفرغ الألفاظ وهذا دعاء لكن القلب يفرغ المشاعر وهذه مناجاة الإنسان إذا وقف بين يدي ربه تحرك قلبه أما أن يتحرك القلب خوفًا فهذه مشاعر الخوف مناجاة، أما أن يتحرك القلب حبًّا فهذه مشاعر الحب مناجاة ”رَبِّ أناجيكَ“ لم يقل أدعوك لأن لغة القلب لغة مشاعر ”رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ القلب يأثم يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾[1]  القلب يعمى ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[2]  القلب يطمئن﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[3]  القلب يمرض﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[4] .

إذن القلب منطقة خطيرة جدًّا أخطر منطقة في شخصية الإنسان القلب منطقة خطرة منطقة تحتاج إلى رقابة دائمة وإلى حيطة مستمرة هو أخطر منطقة هذا القلب إن كان سليمًا سلمت الجوارح سلم السلوك وإن كان مريضًا أصبحت شخصية مريضة لأن قلبي مريض القلب منطلق شخصيتي مفتاح شخصيتي إن سلم سلمت وإن مرض مرضت﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[5] .

إذن قوله "رَبِّ أناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أوْبَقَهُ «ما معنى أوبقه؟ يعني أمرضه» جُرْمُهُ «الجرم يحول القلب من سليم إلى مريض» أوْبَقَهُ جُرْمُهُ «حوله إلى قلب مريض» ما هو المرض؟ ما هو مرض القلب أتدري ما هو مرض القلب؟ مرض القلب اللهث وراء الشهوة اللهث وراء الدنيا هذا هو مرض القلب هناك قسمان من القلوب:

1 - قلب مطمئن: لا يلهث لا يركض هذا القلب المطمئن رضي بقضاء الله رضي بقدر الله فهو في حالة مستقرة.

2 - القلب المريض: هو القلب الذي يجري يجري يجري وراء الشهوة بمجرد أن يرى إثارة في التلفزيون في الطريق تراها يجري وراء الآثاره بمجرد أن يتعرض إلى إغراء تراه يستجيب للأغراء القلب المريض هو المهتز الذي ليس فيه ثقل ليس فيه استقرار ليس فيه ركود قلب متهرئ قلب يسترسل وراء شهوات ووراء غرائزه إنها قلوبنا حتى نعرف أن قلوبنا مريضه أو أن قلوبنا سليمة للنظر اليوم الذي نقطعه من الفجر إلى الفجر كم ساعة مع القلب السليم؟ وكم ساعة مع القلب المريض؟

نحن نعيش أربعًا وعشرين ساعة لو جمعت صلاتي ونافلتي وقراءتي للقرآن ودعائي كم ساعة سيكون؟ ساعتين بقي أثنان وعشرون ساعة كم ساعة مع الشهوات؟ كم ساعة مع الغرائز؟ كم ساعة مع الأكل مع الشرب مع العلاقة العاطفية مع المعاصي مع التلفزيون مع المسلسلات مع الجلسات الفارعة كم ساعة؟

خمس ساعات ثمان ساعات إذن القلب مريض وليس القلب سليمًا لو كان قلبي مستقرًا مطمئنًا لما أنس إلا بذكر الله، لو كان قلبي مستقرًا مطمئنًا لما ضيع فرصة من النهار إلا في ذكر الله لكن قلبي مريض والقلب المريض يلهث ويجري وراء ما تشتهيه النفس أين الشهوة؟ أين الأكل اللذيذ؟ أين مجلس الضحك؟ أين النزهة؟ أين الترفيه؟ أين الراحة؟ أين الأنس؟ هذا هو الذي يبحث عنه قلبي فقلبي مريض ”أوْبَقَهُ جُرْمُهُ“ حوله إلى قلب مريض، فكيف الخلاص من هذا القلب المريض؟ إلهي أريد الخلاص أريد النجاة ”أدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً راغِباً، راجِياً خائِفاً“ أريد الخلاص من مرض القلب.

”إلهي اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“ فالنفكر في ذنوبنا كما نفكر في تجارتنا كما نفكر في أعمالنا كما نفكر في شؤون أسرنا فالنفكر شيئا قليلًا في ذنوبنا، القلب بيت أنا الآن دخلت البيت بيت القلب فلما دخلت البيت وجدت النيران تستعر في كل جدار من البيت وجدت البيت يسقط في لهب النيران تأكل النيران أرضه وسقفه وجدرانه نيران الذنوب ”إذا رَأيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“ لأنه نيران، نيران تأكلني نيران تشتعل في جسمي نيران تستعر في داخل روحي إذا فكرت في الذنوب فزعت ما لذي يخلصني من هذه النيران؟ كم سنة أنا عشت وأنا على هذه الذنوب؟ منذ بلوغي إلى الآن كم سنة؟ هذه السنين كم يوم؟ هذه الأيام كم ذنب؟ إذا مررت على ذنوبي الماضية كم مئة ألف كم ذنب؟ من الذي يخلصني منها؟ نيران تستعر في البيت وتأكل جدرانه وسقفه بيت القلب ”إذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ“.

ولكن من جهة أخرى أنظر من النافدة فأرى نور في الأفق وأرى سحابة تمطر ندى ناعم وأرى غمامة بيضاء تقطر صفاء وطهارة أن تلك الغمامة هي كرمك ورحمتك ”وَإذا رَأيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ، فَإنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم“ أنت أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين وأن تعذبني فبذنوبي بشقائي بإصراري على الذنب والمعصية ”فَغَيْرُ ظالِم“ ما ظلمتني أبداً أنا الذي أصررت على المعصية، أنا الذي تعمدت الرذيلة، أنا الذي أخطأت، أنا الذي جهلت، أنا الذي عملت، أنا الذي تعمدت ”وَإنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم“.

وهل يقوى جسمي الضعيف على العذب؟ هل أستطيع أن أمسك بأصبعي عود كبريت؟ لا أستطيع لو أوتي لي بعود كبريت فيه نار هل أستطيع أن أمسكه بأصبعي هذا؟ أبداً لا أستطيع فكيف أستطيع أن آتي يوم القيامة وكل جسمي يشتعل نارًا كل جسمي تأكله النيران ”يا رَبِّ وَأنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا“ تستطيع أن تتحمل السجن شهر سنة ”وَأنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها وَما يَجْري فيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلى أهْلِها، عَلى أنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَليلٌ مَكْثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الاْخِرَةِ“ ألف سنة مليون سنة لا نهاية للعذاب.

”فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ، وَجَليلِ وُقُوعِ الْمَكارِهِ فيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ، وَيَدُومُ مَقامُهُ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أهْلِهِ، لأنَّهُ لا يَكُونُ إلاّ عَنْ غَضَبِكَ وَانتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَاأرْضُ، يا سَيِّدِي فَكَيْفَ لي وَأنَا عَبْدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الْحَقيرُ الْمِسْكينُ الْمُسْتَكينُ، يا إلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي“ أتعذبني بالنار ”أتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى ألْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً، وَعَلى جَوارِحَ سَعَتْ إلى أوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً، وأشارَتْ بِاسْتِغْفارِكَ مُذْعِنَةً، ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ، وَلا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ“.

”اللهم أجرنا من عذابك وأمطر علينا رحمتك اللهم نبهنا من نومة الغافلين واجعلنا لك من الذاكرين الخاشعين بحق محمد وآل الطيبين الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين“.

ــــــــــــــــــــــ

[1]  سورة البقر، آية 283.
[2]  سورة الحج، آية 46،
[3]  سورة الرعد، آية 28.
[4]  سورة البقرة، آية 10.
[5]  سورة الأحزاب، آية 32.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة