علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

معـاني الحرّيّة (1)

توطئة:

 

لمّا كانت الحرّيّات الفرديّة تكوّن المحور الإسلامي للإعلان العالمي لحقوق الإنساني، يُعدّ البحث عن معاني الحرّيّة من المباحث الهامّة في العلوم الإنسانيّة لا سيّما حقوق الإنسان. وفي الواقع أنّ كلمة الحرّيّة اليوم تحمل معنًى قيميًّا، وتتلقّاها جميع المجتمعات كقيمةٍ ثابتةٍ ومطلقة. كما يُبحث في فلسفة الحقوق أيضًا عن الحرّيّة وتأثيرها في القوانين والأحكام الاجتماعيّة والحقوقيّة. ومع قطع النظر عن هذا فإنّ جميع العلوم الإسلاميّة لها ارتباط بهذا المفهوم؛ لذا كثرت البحوث والدراسات حول هذه الكلمة ومعانيها الاصطلاحيّة، وتمّ تأليف كتب كثيرةٍ في تاريخ الثقافة والمعرفة البشريّة حول هذا الموضوع.

 

ولكن مع هذا ما زالت هناك أمورٌ غير مذكورةٍ، ومشاكل مغلقةٍ وإبهامات؛ لذا ولأجل حلّ بعض المسائل من قبيل: منشأ الحرّيّة، وهل للحرّيّة قيمة مطلقة أم محدودة؟ نعتقد في البداية بلزوم تشخيص المعاني الاصطلاحيّة المختلفة لهذه الكلمة في الأدبيّات والثقافة قبل كلّ شيء، كي لا يحصل أيّ خطأ، وتصان النقود والآراء من الفوضى والخطأ.

 

 تكشف الدراسات المختلفة أنّ لكلمة الحرّيّة اثني عشر معنى مختلفًا، بعضها فلسفي، وبعضها يرتبط بالأخلاق والتعليم والتربية، ويدخل بعضها الآخر في نطاق العلم أو فلسفة الحقوق. علمًا بأنّ بعض هذه المعاني مقبولةٌ من وجهة نظرٍ إسلاميّة. وسنشير إليها فيما يلي:

 

الاختيار

 

قد يراد من (حرّيّة الإنسان) أنّ الإنسان موجودٌ مختارٌ تكوينًا، وله إرادةٌ حرّة، بمعنى أنّ له حرّيّة العمل والاختيار في أيّ حالةٍ وموضوعٍ كيفما شاء، وهذا المعنى من الحرّيّة مثار البحث والجدل في قسم علم نفس الفلسفة - علم النفس الفلسفي لا التجريبي -، فقد أنكره بعض الفلاسفة والمتكلّمين، وذهبوا إلى أنّ الإنسان لا اختيار له في أفعاله كالجماد والنبات وسائر الحيوانات، وقد أذعن البعض الآخر بأصل حرّيّة الإرادة والاختيار، فليس الإنسان مجبرًا على طي طريقٍ خاصٍّ في الحياة، وأنْ ينمو كما يتمّ إنماؤه.

 

ولا شك في عدم وجود أيّ مجالٍ للبحث عن نظام القيم (الأخلاقيّة، التعليم والتربية والحقوق) في الاتّجاه الجبري، وبعبارةٍ أُخرى لو لم يكن ثمّة اختيارٌ وحرّيّةٌ التكوينيّة، بل كانت جميع أفعال الإنسان جبريّة، لما أمكن جعل مفهوم ومعنى للينبغي واللاينبغي، والحسن والقبح، والمدح والذم، والثواب والعقاب، والتكليف والمسؤوليّة؛ لأنّه لا يمكن تأسيس أيّ نظامٍ أخلاقيّ وتربويّ وحقوقيّ إلّا بعد قبول أصل الاختيار وحرّيّة إرادة الإنسان. وعليه فمن يبدع نظامًا قيميًّا أو من يدافع عن ذلك النظام القيمي وينضوي تحته، يكون مذعنًا لاختيار الإنسان التكويني. وبعبارةٍ أخرى أنّ الرؤية التكوينيّة المبتنية على الجبر عقيمةٌ لا تولد إيديولوجيًّا إطلاقًا.

 

هذا المعنى من الحرّيّة الذي يُعدّ أساس جميع المباحث الحقوقيّة والتربويّة والأخلاقيّة، مفهومٌ فلسفيّ صِرْف، ولا يرتبط بنطاق الحقوق ارتباطًا مباشرًا، وقد تمّ قبوله في جميع الأنظمة القيميّة ومنها الحقوقيّة كأصلٍ موضوعي، وتتكفّل الفلسفة إثباته.

 

إنّ اختيار الإنسان عندنا أمرٌ مسلّمٌ به ومقبول، ولكن لا بدّ من عدم الإفراط في تعيين حدود الاختيار، إذ كما أنّ شبهات الحرّيّة قابلةٌ للدفع، فإنّ حرّيّة إرادة الإنسان أيضًا محدودة، وخلافًا لزعم بعض أنصار الوجوديّة، فإنّ اختيار الإنسان التكويني وحريّته ليسا مطلقين، بمعنى عدم لا يُسمح للإنسان بفعل أيّ شيءٍ يريده في كلّ حالٍ ووضع. إذ الحرّيّة محدودةٌ بقوّةٍ منحها الله تعالى للإنسان، إنّ الإرادة المطلقة لله وحده، ولا تتقيّد بأيّ قيدٍ وحدٍّ.

 

الاستقلال الوجودي

 

قد يُراد من (حرّيّة الإنسان) أنّ الإنسان حرٌّ ومستقلٌّ من حيث الوجود، وليس في عنقه أيّ نوعٍ من العبوديّة التكوينيّة حتّى لله تعالى؛ لذا لا تتوجّه إليه أيّ مسؤوليّةٍ وتكليف، ولمّا كان الإنسان يولد حرًّا ومن دون مسؤوليّة، فله أنْ يتقبّل المسؤوليّات باختياره فقط، فكلّ إنسانٍ يمكنه رفض أيّ مسؤوليّةٍ أخلاقيّةٍ أو حقوقيّةٍ استنادًا إلى حريّته منذ الولادة.

 

هذا المعنى من الحرّيّة مفهومٌ فلسفي، ويبحث في الفلسفة الأولى، وهو مرفوضٌ تمامًا لنفيه التوحيد. ونحن نعتقد بعبوديّة الإنسان تكوينًا، بمعنى أنّ وجوده عين الفقر والحاجة إلى ذات الحقّ المقدّسة، فكيف فلإنسان المتعلّق في جميع وجوده وشؤونه الوجوديّة بالله تعالى وملكيّته المطلقة، أنْ يكون حرًّا ومستقلًّا؟

 

نحن نعتقد أنّ تعلّق الإنسان بالذات الإلهيّة المقدّسة وعبوديّته له، تنفي حرّيّته بالمعنى الاستقلال الوجوديّ تمامًا. وهذا الأصل الفسلفي مفيدٌ جدًّا في تبيين وتبرير النظم الأخلاقيّة والحقوقيّة الإسلاميّة، وللأسف تمّت الغفلة أو التغافل عنه. وسنشير هنا إجمالًا إلى أهميّة هذا الأصل في مجال الحقوق الإسلاميّة.

 

تعدّ المملوكيّة أساس التكليف والمسؤوليّة، والإنسان يمكنه رفض المسؤوليّة قبال موجودٍ مّا إذا لم يكن مملوكه، فمع لحاظ أنّ الإنسان ملكٌ محض لله تعالى، لا يمكنه أنْ يتنحّى عن المسؤوليّة أمامه. ولم يكن الإنسان بحيث يملك نفسه وسائر ما يتعلّق به، بل إنّه مملوكٌ تكوينًا لله تعالى ويعتمد عليه، لذا يكون مسؤولًا أمامه. وبعبارة أخرى لمّا كان الإنسان لا يمكنه التحرّر والاستقلال من الله تعالى، فإنّ التكليف أمام الله تعالى يُعدّ من لوازم الإنسان الوجوديّة. والخلاصة أنّ المدعى القائل بقدرة الإنسان في رفض أيّ تكليفٍ ومسؤوليّةٍ حتّى تّجاه الله تعالى، مع لحاظ أنّه مخلوقٌ ومملوكٌ له تعالى، خيالٌ ساذجٌ وزعمٌ باطل.

 

إنّ الله تعالى لم يكن ليسأل عن النعم والمواهب التي تحت اختيار الإنسان فحسب، بل إنّ الإنسان مسؤول أمام أيّ موجودٍ آخر أسهم في تكوينه أيضًا. وعلى سبيل المثال فإنّ الأبوين مساهمان في تكوينه (وإنْ كان على نحو الإعداد)؛ لذا للإنسان نوع تعلّقٍ وجوديّ بهما، وهذا التعلّق الوجودي نفسه يكون منشأً لسلسلة من التكاليف والمسؤوليّات. وما ورد عن النبي (ص) في جواب من شكى إليه أباه الذي يدخل إلى بيته من دون استئذان، ويتصرّف في أمواله، فقال له النبيّ (ص): «أنت ومالك لأبيك» يُفهم من هذا المنظار.

 

وكذلك الأمر في الارتباط الروحي والفكري والمعنوي الموجود بين الإنسان ومعلّمه ومربّيه، والموجب لنوع ٍمن العلقة الوجوديّة، توجد مسؤوليّات وتكاليف، ولا ينبغي حمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): (من علّمني حرفًا صرت له عبدًا) على المبالغة، لأنّ المعلّم منشأ ظهور العلم والمعرفة لدى المتعلّم؛ لذا يكون له نوعٌ من الملكيّة بخصوص بعض شؤون الطالب، فلا يمكن تبيين وتبرير بعض كلمات أولياء الدين -سلام الله عليهم أجمعين- الدالّة على مملوكيّة الإنسان وعبوديّته لما كان علّة إعداديّة لبعض شؤونه الوجوديّة إلّا عن هذا الطريق.

 

وخلاصة القول أنّ الله تعالى هو العلّة الإيجاديّة للإنسان، وأنّ الإنسان وجميع نعمه ومواهبه الماديّة والمعنويّة التي تحت اختياره مملوكة لله تعالى. وكما أنّ لجميع الموجودات التي لها نوع تأثيرٍ في مراحل الإنسان النازلة، وكانت علّة (إعداديّة) لبعض شؤونه، لها نوعٌ من الملكيّة لبعض شؤون الإنسان. علمًا بأنّ هذه المالكيّة بأجمعها تسبّب إيجاد الحقّ، وهذه الحقوق تضع على عاتق الإنسان المسؤوليّات، وبناءً على هذا فكلّ إنسانٍ مضافًا إلى المسؤوليّة الأساسيّة التي عليه أمام الله تعالى، مسؤولٌ أمام أبيه وأمّه ومربّيه وجميع أفراد المجتمع الذين أسهموا في حياته واستقراره، الذين لولاهم تعذّرت الحياة على الإنسان أو صعبت على الأقل. نعم إنّ أصل ومبنى جميع المسؤوليّات مسؤوليّة الإنسان أمام الله، فالحريّة بمعنى أنّ الإنسان ليس له أيّ مسؤوليّةٍ تجاه أيّ موجود؛ لأنّه حرٌّ وجودًا ومستقلٌّ من جميع الموجودات، لا أساس له إطلاقًا. بل الإنسان مملوكٌ لله تعالى، ومن هذه المملوكيّة تنشأ المسؤوليّات.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد