د. جاسم العلوي
ما يُميِّز المعرفة المتفائلة من المتشائمة هو قدرة الإنسان على تمييز الحقيقة؛ وبالتالي حقه في رفض أي سلطة أو تقليد مؤسس على اللامعقول أو الأحكام المسبقة. بينما في حالة غياب الحقيقة الموضوعية وعدم القدرة على تمييز الحقيقة من غير الحقيقة، فنحن نواجه إمَّا هيمنة التقليد وسلطته أو الفوضى.
ومن وَحْي هذا التفاؤل المعرفي، تبرز مقولة أنَّ الحقيقة متجلية وهي إما تتجلى بذاتها أو بالغير. وإذا تجلت الحقيقة فإن الإنسان يستطيع على ضوء العقل أن يراها. هذه الرؤية التي ترى تجلِّي الحقيقة أو سيادتها هي من صميم تعاليم ديكارت وبيكون. فديكارت يؤمن بأنَّ ما نراه حقيقة يجب أن يكون كذلك، وإلا فإن الله يخدعنا. الحقيقة الكاملة عند الله؛ وبالتالي لابد أن تكون الحقائق جلية. “بيكون” يرى أنَّ الحقيقة الكاملة في الطبيعة، وأن الطبيعة كتاب مفتوح والذي يقرأه بعقل مفتوح لا يمكن أن يخطئ. السؤال: إذا كانت الحقيقة جلية، فما الذي يُوقعنا في الخطأ؟ هل لأننا لا نود أنْ نرى الحقيقة، أو لأننا نمتلك أحكاما مُسبقة، أو أنَّ هناك تأثيرات شيطانية أثرت في عقولنا. أو أن هناك مؤامرة تستهدف إبقاءنا في حالة الجهل.
ويرى “بوبر” أنَّ الاعتقادَ بالمؤامرة هو نتيجة حتمية للاعتقاد المتفائل بالحقيقة الجلية؛ فإذا كانتْ الحقيقة لا تتجلَّى فإنما يعني ذلك أنها أخفيت عن عَمْد. ويستطرد في المناقشة ويتساءل: إذا كانت الحقيقة جلية، فلماذا تصمُد اعتقادات خاطئة لآلاف السنين؟ ولماذا يصعب اكتشاف ابسط الحقائق؟ تاريخ الطب يعطينا عددًا من الأمثلة على ذلك. يعتقد “بوبر” وهو الرافض لفكرة سيادة الحقيقة، أو تجليها، رغم أن هذه الفكرة خرافة، لكنها من زاوية التفاؤل المعرفي أحدثت ثورة معرفية وأخلاقية لأنها أعطت الإنسان الأمل في أنه بسلاح المعرفة سوف يتحرَّر من حياة البؤس والشقاء. ويصل “بوبر” في المناقشة لفكرة سيادة الحقيقة أو الحقيقة الجلية، إلى نتيجة في غاية الخطورة وهي أنَّ هذه الفكرة أسست لكل أشكال الأصولية؛ لأنَّها تستبطن فكرة أنَّ بعض الناس لأنهم أشرار لا يستطيعون رؤية الحقيقة، أو لأن لديهم أسبابًا يخشون فيها تجلي الحقيقة فإنهم يتآمرون عليها.
وسؤال حول ماهية النظرية العلمية، وكيف نفرِّق بينها وبين النظريات الأخرى في الحقل النفسي أو الاجتماعي أو التاريخي؟
لقد اهتمَّ “بوبر” كثيرًا بالسؤال التالي؛ وهو: متى تكون النظرية صحيحة؟ والمناخ الذي قاد بوبر إلى الاهتمام بهذا السؤال هو عدد من النظريات التي عاصرها؛ وهي: نظرية آينشتاين في الجاذبية، ونظرية ماركس في الجدلية التاريخية، ونظرية كلٍّ من فرويد وألفريد آدلر في التحليل النفسي. يذكُر “بوبر” أنه في العام 1919 بدا غير راض عن هذه النظريات الثلاثة الأخيرة في التاريخ والتحليل النفسي، وبدأ يطرح التساؤل التالي: لماذا هذه النظريات الثلاثة تختلف عن نظرية آينشتاين ونظرية نيوتن؟ في الظاهر أنَّ لهذه النظريات قوة تفسيرية عالية. وقد لاحظ بوبر أنَّ المشترك بين هذه النظريات الثلاثة أنها قادرة على جمع عدد كبير من المؤيدات في التاريخ وفي الحقل النفسي. لقد لاحظ بوبر أن نظريتي فرويد وألفريد آدلر، وهما نظريتان مختلفتان في التحليل النفسي، ولكن هناك حالات إكلينيكية تنطبق عليها نظرية فرويد، وتنطبق عليها في الوقت ذاته نظرية آدلر. الأمر الذي توقف عنده بوبر مُشكِّكًا في القيمة العلمية لهما. إن ما يميز نظرية ماركس عن هاتين النظريتين هو أنها نظرية قابلة للاختبار؛ وبالتالي يُمكن تكذيبها. فنظرية ماركس في الجدلية التاريخية تنبَّأت بثورة اجتماعية على النظام الرأسمالي ولكن ذلك لم يحصل. وبدل من القبول بفشل النظرية، قام أتباع الماركسية بتعديل النظرية لإنقاذها من الفشل. وهذا يعني أنَّ مثل هذه النظريات لا يُمكن أن تكون صحيحة من خلال الشواهد التي يحصلون عليها في عيادات التحليل النفسي أو الحقل التاريخي. لكن المسألة مختلفة مع نظرية آينشتاين؛ فنظريته لا تصحِّحها المؤيدات على النحو الذي نراه في تلك النظريات. إنَّ نظرية آينشتاين خرجتْ بعدد من التنبؤات؛ منها على سبيل المثال: أنَّ الضوء ينحي عندما يمر بجسم ثقيل. وقد تحقَّق علميًّا من هذه الظاهرة. فما هي النظرية العلمية برأي بوبر؟ هي ببساطة نظرية تقبل التكذيب لأنه يمكن اختبارها. ولا يوجد عند بوبر نظريات صحيحة بالمطلق، بل يوجد اتجاه ترجيحي للنظرية بناءً على اجتيازها عددًا من الاختبارات. وتظل النظرية مُرجَّحة ضمن عدد من النظريات ما لم تكذِّبها بعض الاختبارات، حينئذ يتم استبدالها بنظرية أخرى تتجاوز كل الاختبارات السابقة.
أمَّا كيف تنمو المعرفة العلمية؟ وهل من حد نهائي تتوقف عنده؟ فيرى بوبر أنَّ العلوم بحاجة للتقدم والنمو؛ لأنه إذا توقَّفت عن النمو فقدت طبيعتها العقلية والتجريبية. ما يقصده بوبر من نمو المعرفة العلمية ليس تراكم المشاهدات، بل الفعل المتكرر في إسقاط النظريات العلمية وإحلالها بنظريات أخرى أكثر ملائمة. إنَّ قيامنا بالفحص النقدي هو الذي يقودنا إلى اختبار النظريات، ومن ثم إسقاطهم، وهذا بدوره يقودنا إلى تجارب وملاحظات جديدة لم نكن نتصورها. وهذه العملية تستمر إلى ما لا نهاية. وهنا لا يرى بوبر حدًّا نهائيًّا للمعرفة لأنه لدينا جهل لا نهائيّ. فما الذي يعيق نمو المعرفة إذن؟ ويجيب بوبر بأنه الفقر إلى الخيال المبدع. ويعتقد بوبر أنَّ العلوم هي النشاط الإنساني الوحيد الذي يقدم نقده المنظم للأخطاء، ثم مع الوقت يتم تصحيحها. يُؤمن بوبر بنظام يحكم العلوم حتى قبل اختبارها وهو ما يسميه بالرضا النسبي المحتمل. والمعنى هو أنه يمكن أن نختار من بين عدد من النظريات التي بها محتوى معرفي كبير، والتي تمتلك قوة تفسيرية أكبر، وهي بالتالي قابليتها تكون أعلى بالقياس إلى النظريات الأخرى. لكنْ هناك تناسب عكسي بين المحتوى المعرفي للنظرية واحتمال صحتها؛ فكلما زاد المحتوى المعرفي للنظرية قل احتمالها. ويفضل بوبر المحتوى المعرفي للنظرية على ضعف احتمالها؛ لأنَّ لديها قابلية أكبر للاختبار ثم التكذيب. والخلاصة أنَّ بوبر يرى أنَّ العلوم يُمكن تصورها كمنظومة تتطور من مسائل إلى مسائل أعمق إلى ما لا نهاية.
هناك أيضًا مُعضلة مركزية في نظرية المعرفة تتعلق بالحد الفاصل بين العلوم والميتافيزياء. ولنتذكر أنَّ مشروع “كانط” النقدي قام على إمكانية أن تكون الميتافيزياء علمًا. ينظر بوبر في محاولات الوضعيين لوضع حدٍّ يفصل بين العلوم والميتافيزياء على أساس المحسوس وغير المحسوس على أنها غير صحيحة. إذن؛ أين يُمكن أن نرسم الخط الذي يفصل بين العلوم والميتافيزياء؟ ويجيب بوبر بأنَّ الحد الفاصل بين العلوم والميتافيزياء هو مبدأ التكذيب. فكل ما يقبل التكذيب يدخل في إطار العلوم، وكل ما لا يقبل التكذيب يدخل ضمن الميتافيزياء.
الاستقراء عند كارل بوبر
يعتمدُ المنهجُ التجريبيُّ على الاستقراء الذي هو أحد أنماط الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري في تشييد قواعده ونظرياته. ونريد بالاستقراء كلَّ استدلال يقفز فيه العالم من فحص وقائع جزئية إلى مبدأ عام يطال كافة الوقائع المشابهة، والتي لم يتم فحصها مخبريًّا. الاستقراء يمثل حركة صاعدة تبدأ من الخاص الجزئي وتنتهي بالعام الكلي. وتأتي النتيجة المستخلصة بهذا النوع من الاستدلال أكبر من مقدماتها. فمثلاً عندما يريد العالم الطبيعي أن يدرس ظاهرة تمدد الحديد بالحرارة، يقوم بتعريض عدد من قطع الحديد للحرارة؛ فإذا لاحظ أن كلَّ قطع الحديد التي عرضها للحرارة قد تمدَّدت، فإنَّ العالم يقوم بتعميم نتائجه لتشمل كافة قطع الحديد، لتصبح القاعدة أنَّ كل حديد عند تعرضه للحرارة يتمدد. وهنا نلاحظ أن النتيجة جاءت عامة وشاملة لكل قطع الحديد والتي لم تجرِ التجارب المخبرية عليها، وأنها -أي النتيجة- غير مستنبطة في المقدِّمات؛ لأنه لا يوجد في العدد المحدود من الحديد الذي يمثل مقدمات الدليل هذا المعنى الشمولي الذي جاءت به النتيجة. وبالتالي تكون النتيجة دائماً في هذا النمط من الاستدلال أكبر من مقدماتها لأنها اكتسبت صفة العموم والإطلاق. ومن المهم أن نوضِّح أنَّ الدليل الاستقرائي لا يمكن تبرير نتائجه على أساس عدم التناقض؛ فإذا جاءت النتيجة كاذبة والمقدمات صادقة فإن ذلك لا يستبطن تناقضاً منطقيًّا؛ لأنَّ النتيجة غير محتواة في المقدِّمات. هذه هي الثغرة المنطقية في الدليل الاستقرائي المعتمد في العلوم الطبيعية. ولقد انتهى بوبر بعد مناقشة طويلة ومدهشة -سوف نتعرض لها في هذه الورقة- إلى نفي الاستقراء في العلوم الطبيعية.
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل