علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيركجارد ونقد تعقيل الإيمان (1)

 

حيدر حب الله


تمهيد 1
ظلّ نهج التعامل مع القضية الدينيّة متنوّعاً عبر التاريخ البشري، بتنوّع طاقات الإنسان الذاتيّة من جهة وحاجاته من جهة ثانية، فتنوّع الطاقات يكمن في طاقة العقل وطاقة الروح، وتنوّع الحاجات يكمن في حاجات المادّة وحاجات المعنى وحاجات الاجتماع البشري، وبتنوّع هذه الأمور وجدنا تجليّاتٍ لمناهج متعدّدة في التعامل مع القضيّة الدينيّة المركزيّة، خاصّة مسألة (الله) والوجود المتعالي.

وعبر التاريخ:
تارةً حكمت التيارات العقلانيّة والعقليّة الفهم الديني مع الفلسفة المشائيّة الإسلاميّة والمدارس الاعتزالية الكلاميّة على المقلب الإسلامي، ومع اللاهوت الطبيعي لتوما الأكويني (1274م) وامتداداته في الكاثوليكيّة إلى عصرنا الحاضر مع التوماوية الجديدة وغيرها، على المقلب المسيحي.
وأخرى حكمت النزعات الصوفية والعرفانية وطغت على المشهد الإسلامي عبر الطرق الصوفيّة المتنوّعة والغزيرة القائمة إلى يومنا هذا، وعبر النزعات الأفلاطونيّة القديمة والمُحدَثة التي تغذّت دينيّاً أيضاً على تطلّعات القديس أغسطين (430م)، لتصل مع مايستر إيكهارت (1328م) وأمثاله إلى مبلغها.
لكنّ عصر النهضة وما أعقبه من الثورة العلميّة ثم عصر التنوير، فرض وضعاً مختلفاً وجادّاً جدّاً هذه المرّة في العالم الغربي والمسيحي، فالعقل الذي كان أداةً لخدمة الدين واللاهوت، غدا اليوم متحرّراً منهما، فهو عقل قائم بنفسه يملك جرأة المعرفة وحماسة النقد، ولم يعد محتاجاً إلى مسبقات دينيّة ومفروضات قبليّة وحييّة ولاهوتيّة، بل هو يرفض ويتمنّع عن وضع محدِّدات له تسمح له بالحركة حيناً وتمنعه عنها حيناً آخر.
لقد بدأ العقل يخرج شيئاً فشيئاً من إطار اللاهوت نحو بناء كيان قائم مستقلّ له، ورغم أنّ هذا الخروج بدأ تدريجياً ولم يظهر في البداية على شكل تمرّد حقيقي على الدين، لكنّه سرعان ما تحوّل إلى أمرٍ واقع يقف على النقيض من الدّين نفسه، بمعنى أنّه بات يهدّد المفاهيم الدينيّة في النتائج التي توصّل إليها.

في هذا العصر، ظهر سورين كيركجارد/كيركغور (1813 ـ 1855م) وسط نزاع العقل والإيمان، ليقدّم مقاربة مختلفة هذه المرّة لتناول القضية الدينيّة، لقد وقفت الفلسفة الوجودية الإيمانية لكيركجارد تماماً في مقابل الفلسفة العقلية الانتزاعيّة الهيجليّة من جهة (رغم تأثره بهيجل) والفلسفة العقلية المدرسية لتوما الأكويني من جهة ثانية، ولكي يؤسّس رؤيته هذه سعى لفكّ العلاقة بين الإيمان والعقل النظري، ليعتبر ـ كما سنرى ـ أنّ بناء الإيمان على العقل النظري والمعرفة الفلسفيّة والتاريخية هو خطأ كبير، ومن ثمّ يلزم إعادة بناء الإيمان على قواعد أخرى في الإنسان وهويّته وذاته، وعدم تطويل المسافة لبلوغ الحقيقة الوجوديّة بالغرق في المفاهيم ومعطيات العقل التي تقوم بتشظية الحقيقة وتجزئتها بما يفضي إلى موتها وتلاشيها، فعندما يريد العقل أن يُدرك الحقيقة فهو مقهورٌ على تجزئتها وتفكيكها، ليحوّلها لسلسلةٍ من المفاهيم والتصوّرات والمفردات والقضايا المركّبة، وهذه التجزئة تُفْقِدُ الحقيقة هويّتَها الاتصالية الاتحاديّة، ولهذا نادت المدرسة الرومانطيقيّة في القرنين الثامن والتاسع عشر، بوضع حدّ لإفراط عقل التنوير في تناول الحقيقة ومنح الإحساس دوراً في الاتصال بها بما هي وحدة واحدة.
الإيمان بين الهويّة المخارجة والمداخلة (الآفاقيّة والأنفسيّة)
نقطة الارتكاز في تصوّرات كيركجارد عن الإيمان([2]) تكمن في الهويّة الداخلية والخارجيّة له، ففيما تتجه الفلسفات الدينيّة واللاهوت نحو التعاطي مع الإيمان ومتعلّقه بوصفه قضيّة خبريّة ونوعاً من الوجود المخارج للذات الإنسانيّة، يراد إثباته أو نفيه، يذهب كيركجارد نحو الهويّة الأنفسيّة للإيمان، وبهذا تكون رؤية كيركجارد مكوّنة من عنصرين:
1 ـ عنصر سلبي طارد لكلّ أشكال الهويّة الخارجيّة للإيمان، ومن ثمّ إبطال الأدلّة الآفاقيّة التي أقيمت لإثبات الإيمان عبر العقل أو التاريخ، وهو بهذا يفصل بين الإيمان والتاريخ، وهي القضيّة الأكثر إشكاليّةً في الفكر الديني المسيحي منذ عصر الأنوار.
2 ـ عنصر إيجابي جاذب، وهو إعادة تشييد الإيمان على هويّة داخليّة فرديّة قائمة على التصميم والمخاطرة واتخاذ القرار الباطني، فالتأمّل الباطني في الذات الإنسانيّة والصعود المعنوي هو الذي يحقّق الإيمان. وبهذا تتكوّن الوجوديّة الإيمانيّة عند كيركجارد، في مقابل الوجوديّة الملحدة لمثل جان بول سارتر (1980م).
في العنصر السلبي، يرفض كيركجارد البحث عن حقّانية المسيحيّة، بينما في العنصر الإيجابي يركّز على كيفيّة صيرورة الإنسان مسيحيّاً، فهو مهتمّ بالكيفيّة ولون الإيمان وهويّته وكينونته الباطنيّة، وليس مهتماً بالحقيقة الخارجيّة.
العنصر السلبي وإيمانيّة كيركجارد
 

يذهب كيركجارد إلى أنّ بناء الإيمان على الأدلّة المخارجة هو جهد عبثي وغير منتج، بل يراه مناقضاً لهويّة الإيمان وناقضاً له ولكينونته، فالإيمان لا يأتي من تحصيل اليقين عبر العلم البشري؛ لأنّ المعطيات العلمية لا تتمكّن من إثبات الله سبحانه، والتاريخ والفلسفة والعلم عناصر غير منتجة لليقين، في الوقت الذي لا يمكن للإيمان إذا بُني على اليقين أن يكون موجوداً مع هذه العلوم.
إنّ الحقائق المخارجة أو الآفاقيّة قد تكون فلسفيّةً وقد تكون تاريخيّة، والأديان التاريخيّة ـ مثل المسيحيّة ـ لا يمكنها الانفصال عن التاريخ، ومن ثم فالحقيقة المخارجة هي جزءٌ لا يتجزأ منها، ورغم ذلك نجد كيركجارد غير مهووس بالمعرفة العقليّة والتاريخيّة؛ لأنّها من وجهة نظره لا تقدّم لي شيئاً في حياتي، فما فائدة أن أكتشف كلّ المعلومات والحقائق دون أن يترك ذلك تأثيراً في حياتي؟([3]).
هذا هو سؤال كيركجارد في مقابل شغف الهيجليّة التي كانت سائدة في عصره بالتحليل الغارق في المثاليّة الانتزاعية العقليّة. إنّ كيركجارد يريد فلسفةً تجد العواطفُ والمشاعر والأحاسيس فيها موطأ قدم، وليس فلسفةً جافّة لا تقدر سوى على مخاطبة العقل بالأرقام والجمل والكلمات الصارمة.. إنّ فلسفة هيجل (1831م) ـ ومثلها كثير من الفلسفات ـ درست كلّ شيء لكنّها نسيت الإنسانَ الفرد، لقد ذهبت بالإنسان بكثير من الكليّة والعموميّة، ودرسته في وجوده الكلّياني، لكنّها نسيت الإنسان في وجوده الجزئي الشخصي، بل حتى الفيلسوف نفسه فكّرَ ـ بما هو فرد ـ بكلّ شيء سوى بنفسه.. هذا هو قلق مفكّرٍ وجودي (Existentialist) مثل كيركجارد.
والأمر الأخطر بالنسبة لكيركجارد هو أنّ الأنظمة الفلسفيّة والعلميّة أنظمة قاهرة تقدّم لنا العالم والوجود بشكل صارم ميكانيكي مهيب، والإنسان وسط هذا النظام الكلّي المهول لا يعود يشعر بذاته المختارة والمريدة.. إنّ تلاشي الإرادة هو خطر كبير يهدد عقليّةً وجودية مثل كيركجارد؛ لأنّ الإرادة والاختيار هما جوهر التفكير الوجودي في العالم.

إنّ أوّل خطوة يخطوها كيركجارد هي في إنكار الهوية الخبريّة للإيمان، بمعنى أنّ متعلّق الإيمان ليس قضيّةً ما مثل: صلب المسيح، بل هو حقيقة خارجيّة بذاته وبنية علائقيّة تعيد إنتاج صاحبها في ذاته وهويّته. وعبر هذا السبيل يقوم كيركجارد ـ كما يرى الدكتور حسن يوسف([4]) ـ بالفصل بين الفكر والوجود، فالوجود لا يتصل بالفكر ولا نصل إليه عبره، بل يتصل بأمرٍ آخر داخل الذات الإنسانيّة.
لماذا فصل كيركجارد نفسَه عن الأدلة التاريخيّة؟ وما الذي دفعه لذلك؟
إنّ التأمّل في أعمال كيركجارد يعطي أنّه توصّل إلى عجز الأدلّة التاريخيّة عن إثبات المسيحيّة، ومن ثمّ فبناء المسيحيّة على التاريخ بوصفه دليلاً مخارجاً آفاقيّاً سيُمنى بالفشل، والسبب الذي يدفع شخصاً مثل كيركجارد للفرار من المجال التاريخي للمسيحيّة، وكلّ المجال الفلسفي العقلي العالمي، هو غياب الذات الفرديّة في هذه الأنظمة؛ لأنّ الحقيقة فيها خارجة عن الذات الإنسانيّة بينما يريد كيركجارد أن يعيد إنتاج الحقيقة والإيمان من داخل الذات الإنسانيّة، فكلّما كانت الحقيقة خارج الذات كان الغرق فيها ابتعاداً عن الذات واغتراباً.
إنّ تأمّليّة وأنفسية كيركجارد تريد للحقيقة أن تصبح قضيّة معاشة في حياة الفرد، وليست قضيّة مدركة فقط، وعيش الحقيقة لا يكون سوى بتحوّلها إلى أمر أنفسي داخلي ذاتي؛ لأنّ أيّ ثنائية بين الذات والحقيقة سيعني فقدان خاصية العيش والممارسة، فليس المهم أن أعرف ما هي الأخلاق، بل المهم أن أعيشها، والعيش هو ـ عند كيركجارد ـ ما يحقّق الهوية الوجودية الحقيقيّة للإنسان.
ـــــــــــــــــــــ
([1]) نشر هذا المقال في العدد المزدوج 52 ـ 53، من مجلّة نصوص معاصرة، في بيروت، لبنان، خريف عام 2018م، وشتاء عام 2019م.
([2]) أودّ الإشارة منذ البداية إلى أنّ الأفكار الأساسيّة التي نقلناها عن كيركجارد في هذا المقال، ترجع إلى مادّتين:
أ ـ دراسته المترجمة إلى اللغة الفارسيّة على يد الدكتور مصطفى ملكيان، تحت عنوان: انفسى بودن حقيقت است، والمنشورة في العدد 3 ـ 4، من مجلة نقد ونظر، الصادرة في إيران صيف عام 1995م (ص 62 ـ 81).
ب ـ الدراسة التي كتبها روبرت مري هيو آدامز، وترجمها مصطفى ملكيان أيضاً، ونشرت تحت عنوان: ادله كرکگور بر ضد استدلال آفاقى در دين، ونشرت في مجلة نقد نظر في العدد نفسه (ص 82 ـ 103).
وأيضاً حول تصوّراته في نقد التعقيل الديني، راجع: يحيى نصرتي ومحسن رحيمي غازاني، عقل وايمان از دیدگاه سورن کرکگور: 149 ـ 209، نشر بژوهشگاه علوم وفرهنگ اسلامى، إيران، الطبعة الأولى، 2016م.
([3]) انظر: نعيمه بورمحمدي، الإيمان عند كيركيغارد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، السنة السادسة عشرة، صيف وخريف عام 2012م، العدد 51 ـ 52: 161.
([4]) انظر: حسن يوسف، فلسفة الدين عند كيركجارد: 49 ـ 53، نشر مكتبة دار الكلمة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2001م.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد