السيد منير الخباز
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
صدق الله العلي العظيم
حديثنا عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في عدة محاور:
1 - ما هو تعريف العدالة؟
2 - وما هو الوعد الإلهي بتحقيق العدالة على الأرض؟
3 - وما هي الإرهاصات التي أعدت لظهور الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه؟
4 - وما هي الحجج التي قرنها الله به كي تكون دليلاً على إمامته؟
المحور الأول:
نحن نعلم أن الهدف من وجود المجتمع الإنساني على الأرض هو إقامة العدالة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، ولكن ما هو تعريف العدالة؟
من أجل أن نوضح تعريف العدالة نتعرض إلى مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الناس لم يخلقوا بشكل متساوٍ، وإنما خلقوا متفاوتين في الطاقات وفي القدرات، لم يخلقهم الله بطاقة متساوية أو بقدرة متساوية، بل خلقهم متفاضلين ومتفاوتين، فهناك من يمتلك القدرة الفنية، وهناك من يمتلك القوة الجسدية، وهناك من يمتلك الطاقة العقلية التحليلية، وهناك من يمتلك القدرة الإدارية والقيادية، فالبشر خلقوا متفاوتين في طاقاتهم وقدراتهم ولم يخلقوا بشكل متساوٍ.
القرآن الكريم يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ ليس المقصود باختلاف الألسن والألوان هو اختلاف الألوان من أبيض وأسود وأسمر وحنطي وغير ذلك، أو اختلاف الألسن من عربي أو عجمي أو فرنسي أو غير ذلك، اختلاف الألوان والألسن كناية عن اختلاف الطاقات، عن اختلاف القدرات، لأن الألوان والألسن مظهرٌ للطاقة التي يحملها الإنسان.
كما يقول الفلاسفة: الحركة العرضية مظهرٌ للحركة الجوهرية، يعني مثلاً: نحن نجد أن الأرض تتحرك، المجموعات الشمسية تتحرك، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾، هذه الحركة الظاهرية - حركة الأرض، حركة المجموعات الشمسية - هي مظهرٌ لحركة أعمق، أن الوجود بأسره من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة بما فيه من إنسان وحيوان وجماد يعيش حركة ذاتية مستمرة، كل الوجود يتحرك، الحركة الظاهرية دليلٌ على الحركة الذاتية.
أيضًا اختلاف الألوان، اختلاف الألسن، يكشف عن اختلاف الطاقات التي وراء هذه الألوان ووراء هذه الألسن، ”المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه“، المرء مخبوءٌ في طاقته التي أودعها الله إياه، ولسانه مجرد مظهر إلى طاقته، ”المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه“.
فالبشر خلقوا متفاوتين في الطاقات والقدرات، ولأجل ذلك اختلفت إنجازاتهم وإبداعاتهم، لماذا الله ما خلق البشر بشكل متساوٍ «أعطاهم عقولاً متساوية، أعطاهم قدراتٍ متساوية»؟ لماذا؟ لأنه لو خلقهم متساوين لاستغنى بعضهم عن البعض الآخر وتعطلت حركة الوجود وتعطلت حركة المجتمع، فمن أجل استمرار الحركة وتكامل الحركة خلقهم بقدرات متفاوتة ليكمل بعضهم بعضًا، نظير الرجل والمرأة، الله خلق المرأة وأعطاها طاقة من العاطفة أقوى من طاقة الرجل، وخلق الرجل وأعطاه طاقة من الحزم أقوى من طاقة المرأة، فضّل المرأة على الرجل في المجال العاطفي، وفضّل الرجل على المرأة في المجال النفسي؛ ليكمل كلٌ منهما الآخر.
بعد أن عرفنا أن البشر خلقوا متفاوتين في الطاقات والقدرات إذن ما هي العدالة؟
العدالة إعطاء كل بشر بما يستحقه، يعني: بما عنده من طاقة وقدرة، هناك بشرٌ يصنع لنا عشرة مشروعات اقتصادية أو ثقافية في سنة واحدة، وهناك بشرٌ يصنع لنا مشروعًا واحدًا، وهناك بشرٌ لا يصنع لنا شيئًا، أفهل يُعْطون نصيبًا واحدًا؟! لو أعطوا نصيبًا واحدًا من الثروة لكان ذلك ظلمًا، إذن المساواة بين البشر في العطاء ظلمٌ، المساواة بين البشر في الأجر ظلمٌ، لابد أن توزع الثروة على البشر بقدر طاقتهم وبقدر إنتاجهم، وإلا لكانت المساواة بينهم ظلمًا، نظير أن عندك تلميذين في الفصل، تمليذ ممتاز يحصل على درجات عالية، وتلميذ حيا الله «يمشّي روحه»! إذا تعطيهم درجة واحدة يعد هذا ظلمًا، العدالة أن تعطي كلاً بحسب طاقته وبحسب إنتاجه، هذه المقدمة الأولى: أن العدالة إعطاء كل ذي حق بقدر ما يستحقه.
المقدمة الثانية: هناك بحث فلسفيٌ ذكره أيضًا علماءُ الاجتماع، هل الأصالة للفرد أو الأصالة للمجتمع؟
هناك نظرية تقول: الأصالة للفرد، يعني: الوجود الأصيل هو للفرد، الوجود المادي للفرد، المجتمع أين هو المجتمع؟! لا يوجد مجتمعٌ، ليس المجتمع إلا الأفراد، يجتمع أفرادٌ - زوج وزوجة وأولاد - نسمّيهم أسرة، هذه الأسرة مجرد عنوان اعتباري ليس إلا، وإلا فالموجود هم الأفراد، الأصالة للأفراد، عندما نقول: «أسرة» أو «مؤسسة مدنية» أو «مؤسسة اجتماعية» هذه كلها عناوين، عناوين اعتبارية، وإلا الموجود هم الأفراد، فالأصالة للفرد، هذه نظرية.
نحن نعتقد أن النطرية الصحيحة هي أن الأصالة لكليهما، الفرد أصيل، والمجتمع أصيل، لماذا؟
هناك مصطلحٌ عند الفلاسفة، يقولون: هناك تركيبٌ اتحاديٌ وهناك تركيبٌ انضماميٌ، ما هو الفرق بينهما؟
هناك مركبٌ لا تتفاعل أجزاؤه، وهناك مركبٌ تتفاعل أجزاؤه وتنتج وجودًا ثالثًا، مثلاً: لو بنينا غرفة، بنينا غرفة من أجزاء، جدار من الإسمنت، باب من الخشب، نوافذ من الألمنيوم، عندما بنينا الغرفة هل هذه الأجزاء تتغير؟ لا، يبقى جدار الإسمنت هو جدار إسمنت، لا يتغير، يبقى باب الخشب هو باب خشب، تبقى نافذة الألمنيوم هي نافذة ألمنيوم، هذا المركب لا يتغير، هذه الغرفة لا تتغير، لا تتفاعل أجزاؤه، هذا يسمى تركيبًا انضماميًا، يعني: ضممنا شيئًا إلى شيء آخر.
وهناك تركيبٌ اتحاديٌ، مثل ماذا؟ مثل الماء، الماء مركبٌ من ماذا؟ من أكسجين وهيدروجين، الأكسجين يبقى أكسجينًا؟! لا، الأكسجين والهيدروجين يتفاعلان فينتج عنهما وجودٌ ثالث نسمّيه الماء، فالماء مركبٌ تركيبًا اتحاديًا لأن أجزاءه تتفاعل وتنتج لنا وجودًا ثالثًا.
فعندنا تركيبٌ اتحاديٌ، عندنا تركيبٌ انضماميٌ، المجتمع شبيهٌ بالتركيب الاتحادي، لماذا؟
المجتمع هو نتيجة تفاعل بين الأفراد، إذا وُجِدَ زوجٌ والزوجة وأولاد طبعًا لا يوجدون وهم جامدون مثل الحجارة، كل واحد حجر وقاعد في مكان! طبعًا يتفاعلون، نتيجة هذا التفاعل يحصل وجودٌ، هذا الوجود نسمّيه بالمجتمع، وجود المجتمع هو وجودٌ حادث نتيجة تفاعل الأفراد، إذا تفاعلت الأفراد حدث وجودٌ ثقافيٌ، حدثت عادات، حدثت تقاليد، حدثت قيم، حدثت مبادئ، هذا المجموع من الثقافات والقيم والمبادئ والعادات والتقاليد يسمّى مجتمعًا، فالمجتمع له وجودٌ انتزاعيٌ منتزعٌ من تفاعل الأفراد، هذا نسمّيه مجتمعًا.
كما أنّ الفرد له حقوقٌ المجتمع أيضًا له حقوقٌ، كما أن الفرد له حق الكرامة، حق الحرية، حق الحياة، المجتمع أيضًا له حق الكرامة، حق الحياة، فهناك حقوقٌ للفرد وهناك حقوقٌ للمجتمع، لو أراد إنسانٌ أن ينشئ مصنعًا وكان هذا المصنع سببًا لتلويث الجو، لتلويث البيئة، المصنع سببٌ لتلويث البيئة، هنا يتعارض حقان: حق الفرد وحق المجتمع، حق الفرد في أن يمتلك ثروة من خلال هذا المصنع، حق المجتمع في أن يعيش بيئة صحية نظيفة، هنا يتعارض حق الفرد مع حق المجتمع، فالعدالة ما هي؟ العدالة إعطاء كل ذي حق بقدر ما يستحقه مع مراعاة الموازنة بين حق الفرد وحق المجتمع، الموازنة بين حق الفرد وحق المجتمع جزءٌ من تعريف العدالة، جزءٌ من حد العدالة، هذا هو تعريف العدالة.
المحور الثاني:
كلّ إنسانٍ يعشق العدالة، هل هناك إنسان يقول: والله أنا أحب الظلم؟! كل إنسان يعشق العدالة، لماذا؟ لأن العدالة من الجمال والإنسان يعشق الجمال، الإنسان بفطرته وبطبعه يحب الجمال، والجمال قد يكون جمالاً شخصيًا، قد يكون جمالاً فكريًا، قد يكون جمالاً روحيًا، قد يكون جمالاً فرديًا، قد يكون جمالاً اجتماعيًا، العدالة مظهرٌ للجمال الاجتماعي، الإنسان يحب الجمال إذن هو يحب العدالة، وكل إنسان لو فتشت في فطرته وجدت أنه يحب أن تنتشر العدالة على الأرض كلها ولا يخلو بشر من عدالة، كل إنسان يعشق ذلك، يتمنى ذلك، والله سبحانه وتعالى في كتابه وعد الإنسان بأن يحقق له أمنيته وهي انتشار العدالة على الأرض كلها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ ما معنى ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾؟ يعني الأرض أموالٌ تنتقل من الميّت إلى ولده؟! من الموروث إلى وارثه؟! ما معنى ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾؟
التفت إلى هذا المعنى: ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ يعني: الآن أنت عندما تتأمل العدالة على الأرض من أين تأتي؟ من الناس، يعني: العدالة نتاج الإنسان، الإنسان هو الذي ينتج العدالة، ولا يمكن أن ينتج الإنسان العدالة إلا إذا كان عادلاً، ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ فاقد الشيء لا يعطيه، العدالة إنتاج البشر، والبشر لا يمكن أن ينتجوا عدالة إلا إذا كانوا عادلين، إذن نحن إذا نريد أن ننشر العدالة في الأرض ماذا نفعل؟ لابد أن نوجد بشرًا عادلاً حتى ننتج عدالة، إنتاج العدالة في الأرض يتوقف على إنتاج الفرد العادل، لذلك زمان الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف لا يأتي ويفرض العدالة بالقوة، بالإكراه والغلبة، لا، الإمام المنتظر ينشئ أمة عادلة، والأمة العادلة تنتج العدالة.
الآن أنت عندما تلاحظ أبناءنا وإخواننا لماذا يصدر منهم ظلمٌ؟ الظلم نتيجة التربية، التربية هي التي تربيه على الظلم، هي التي تجعله إنسانًا ظالمًا، الأساليب التربوية في زمان الإمام القائم - الأساليب التربوية في الأسرة، الأساليب التربوية في المدرسة، الأساليب التربوية في وسائل الإعلام، الأساليب التربوية في المجتمع... - جميع الأساليب التربوية في زمان الإمام المنتظر تربّي الناس على أن يكونوا عادلين، من الأسرة وهو عادل، في المدرسة وهو عادل، في المجتمع وهو عادل، في الشركة وهو عادل، جميع الأساليب التربوية في زمانه تنتج أناسًا عادلين، فإذا أنتج أناسًا عدولاً أنتجت عدالة على الأرض، هذا معنى ﴿الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، العباد العدول ينتجون عدالة.
وهذا ما أكّده الرّسولُ محمّدٌ عندما قال: ”يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا“، وهناك آياتٌ تؤكد على هذا الوعد الإلهي، مثلاً قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ هناك وعدٌ، قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ إذن هناك وعدٌ، وخلف الوعد من الحكيم قبيحٌ، فالله لا يخلف وعده، فلا محالة يأتي يوم تطبق العدالة فيه على جميع الأرض، وذلك ببركة ظهور منبع العدالة الإمام القائم عجل الله فرجه الشريف.
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)