علمٌ وفكر

"تمظهر الهوية في الغير" البحث الانثروبولوجي والموقف الديني

محمد بن رضا اللواتي

 

تروم هذه الورقة لإثبات استحالة تحقق هوية فرد أو أمة ما إلا بالغير، وهذا الغير هو الذي يحقق لها هويتها الثابتة في طور الصيرورة.

ثمة دعوات تحذر من التعاطي الثقافي مع الغير باعتباره يهدد مميزات الهوية، استندت على الدين لأجل إضفاء مزيد من نقاط القوة على موقف عدم التعاطي الثقافي مع الآخر، إلا أن هذه الورقة تبرهن على أن الدين أشد العناصر المانحة للثقافة تشابها، والدافع الأقوى لتلاقي الثقافات وتعارفها.

ويتطلب الأمر التحقيق في تعريفات “الهوية”، فهناك من حددها في “الثوابت التي لا تتجدد ولا تتغير”[1]، كالدين واللغة والعرق والأخلاق والخبرات، تتفاعل فيما بينهما مكونة طبيعة الهوية.[2]

إذن، “مجموعة من السمات الثقافية التي تتصف بها جماعة من الناس في فترة زمنية معينة، والتي تولد الإحساس لدى الأفراد بالانتماء لشعب معين، والارتباط بوطن معين”[3] هي التي تحدد الهوية.

وأود لفت عنايتكم إلى الرؤية التي تتبناها مدرسة الحكمة المتعالية الفلسفية حول نظرية “اتحاد العالم والمعلوم”، فبموجبها، العلاقة التي تربط العالم بمعلومه تفوق علاقة اللوحة بالكتابة، فالكتابة سواء أضيفت على اللوحة، أو مُحي أثرها، تظل اللوحة تحتفظ بهويتها، في حين أن الهوية البشرية ليست لها قوام إلا معلوماتها التي تغدو تمام واقعيتها[4].

والأمر الآخر الذي تطرقت إليه نتائج التحقيقات تلك، أن الهوية البشرية تتوسع بالثقافة[5]، وتدخل في عملية صيرورة وفق ما يتم اكتسابه بشكل ديناميكي، دون أن تحيلها إلى كائن آخر، فالهوية تظل ثابتة، تنقل معارفها من جيل لآخر، وعملية النقل هذه تتم من خلال التعلم، مع إضافة كل جيل لما يكتسبه مما يطرأ على حياته من قيم ومبادئ وأفكار وسلوكيات جديدة نتيجة لتغير الظروف[6].

فإذا كانت العين البشرية:

هويتها تتشخص بالثقافة
والثقافة بالنسبة إليها “غير” تتحد به
وهذا الغير، أي الثقافة، تعمل على نضج الهوية التي اتحدت معها

فالنتيجة التي تقرر أن الأنا تتمظهر بالغير، وأن الآخر شريك في صيرورة الهوية، تُصبح نتيجة منطقية جدًّا.

وتأتي نوبة التحقيق لتلاحق الثقافة نفسها التي تمنح للهوية عنوانها، فرغم أن ما يزيد عن مائة وخمسين تعريفًا توجد لكلمة الثقافة، عثرت عليها التنقيبات في الكتابات الأنثروربولوجية والأثننولوجية والسوسيولوجية التي ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر[7]، إلا أن أغلب المحققين يميلون إلى اعتبار تعريف “تايلور” للثقافة هو “الجامع المانع”[8] وهنا، فإن هذه الورقة تعتمد ذلك التعريف المشار إليه، والذي يمكن صياغته في الهيئة التالية: ” الثقافة هي ذلك المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع”[9].

فإذا كانت الثقافة هي المانحة للهوية قوامها، فالسؤال هنا هو:

هل ثمة عامل، يتكرر في كل أنماط الثقافات، ويضفي عليها برمتها لونًا من التشابه، ويعمل على دفعها نحو الالتقاء على صفيح معرفي واحد، رغم التنوع الهائل في مضامينها؟

إننا بحاجة إلى الأنثروبولوجيا لتقول كلمتها حول ذلك، بصفتها قد نقبت تاريخ الثقافة وبنحو لم تفعله غيرها، وحصدت من ذلك التنقيب على اكتشافات عديدة مذهلة، فهل أقرت ما نحن بصدده وهو وجود “تشابه حاد” بين ثقافات البشر؟

الإجابة هي بالإيجاب!

فالعوامل المتنوعة لم تتمكن بمجموعها من فرض التشتت والشرذمة على ثقافات الآدميين، إذ ظلت تتشابه إلى حدود تكاد أن تجعلها في بعض أبعادها وكأنها كُلاًّ واحدًا[10]، ما أدى بالباحثين إلى طرح تساؤل حول سر هذا التشابه، وقد اختلفت وجهات نظرهم إلى[11]:

اعتبار السر في ذلك راجع الى النسق الذي يعمل به العقل البشري، إذ أن له رد فعل واحد تجاه الطبيعة. “تايلور” سلك هذا المنحى في كتاباته.
اعتبار السر يكمن في حكومة أقدم الحضارات على التفكير البشري، وتحديدا الحضارة المصرية القديمة. “أليوت سميث” اعتنق هذه الفكرة.

وجود عنصر شمولي – بحسب “كاسبرز” – في جميع الثقافات، ينظم مسيرتها ككل، ويوحد الفكر البشري بالنحو الذي تصبح الثقافة التجلي الأعلى له، دون أن تتأثر بالفروقات التي توجدها العوامل الزمكانية[12]، وهذه الورقة ترى أن “مسألة أصل الخلق والمصير” هو ذلك العامل الشمولي الذي يلملم شتات الثقافة ويمنحها رؤية كلية.

وفي الواقع فإن انبثاق الدين هو عن هذه المسألة تحديدًا، التي تتمركز عاطفيًّا وعقليًّا بنحو خطير في الضمير البشري، وتتخذ من النزعة الدفينة إلى الإله والاتصال به ومعرفته والمكوث قربه جذرها المتوقد والمضيء لسائر مناحي هذا التوجه الفطري[13].

فالتفكير في مسألة الخلق، والمصير، وما إذا كانت الإنسانية متجهة إلى حياة ما بعد الموت، والسعادة التي ينشدها النوع البشري، والخلوص إلى الله بالصلاة وحب التقرب منه والالتذاذ بمناجاته والتحدث معه، عثرت عليها الأبحاث الأنثروبولوجية التي بلغت في التوغل أولى مراحل بزوغ الإنسان[14]، ولقد أشار إلى هذه النقطة “بيجوفيتش” عندما قال “قضية أصل الإنسان ركن الزاوية لأفكار العالم كلها”[15].

إننا نتبنى نتائج الأبحاث التي تمخضت عن تحقيقات “إليوت” حول علاقة الثقافة بالدين، كما سطرها في كتابه “ملاحظات حول تعريف الثقافة”[16]، إذ خلص إلى أنه:

لم تظهر ثقافة ولا نمت إلا بجانب الدين.
ليست الثقافة هي الدين، إلا أنها حتمًا ليست بعيدة عنه بالنحو الذي لا يربطه بها رابط. كلا! في الواقع لا يمكن فصلهما عن بعضهما.
الدين قوة رئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوب متعددة الثقافات.

ولا يفوق لفظ وضوح كلمة “لتعارفوا” الذي جعلته هذه الآية الكريمة في صميم بيانها عندما قالت: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[17]، ما يدل دلالة لا تقبل التأويل، أن الدين دعا إلى معرفة الآخر، وجعل ذلك غرضًا للخلقة.

—————————-

[1] عمارة، محمد: مخاطر العولمة علي الهوية الثقافية، ص6

[2] أمين، محمود: الهوية مفهوم في طور التشكيل، محمود أمين، ص 376.

[3] الفقي، إسماعيل: مفهوم العولمة وعلاقته بالهوية، ص 205.

[4] لزيق، كمال إسماعيل: مراتب المعرفة وهرم الوجود عند ملا صدرا: دراسة مقارنة. ص200

[5] المصدر السابق ص203

[6] عادل، شهيب: الثقافة والهوية : إشكالية المفاهيم والعلاقة. ص 8.

[7] أبو زيد، أحمد: محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية.ص171.

[8] زيادة، معن: معالم على طريق تحديث الفكر العربي. ص51

[9] الميلاد، زكي: المسألة الثقافية. ص166

[10] الميلاد، زكي: المسألة الثقافية. مصدر سابق. ص182.

[11] المصدر السابق ص182

[12] مسعود، رشيد: ثقافة. ضمن: الموسوعة الفلسفية العربية. مصدر سابق. ج1ص288

[13] صارجي، بشارة: مادة الدين ضمن الموسوعة الفلسفية العربية. مصدر سابق.  ج1 ص499.

[14] صارجي، بشارة: مادة دين: الموسوعة الفلسفية العربية: مصدر سابق. ص440

[15] بيجوفيتش، علي عزت: الاسلام بين الشرق والغرب. ترجمة محمد يوسف عدس. ص96

[16] أليوت، توماس: ملاحظات حول تعريف الثقافة . ترجمة شكري عياد. ص43

[17] القرآن المجيد: الآية 13 من سورة الحجرات

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد