علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

كلمة موجزة حول الجمال

الجمال کون الشيء على صفة معجبة ملذّة. وإذا کان المتبادر من لفظه في لغة هو الجمال المبصر فحقیقة معناه تعمّ غیره من المحسوسات والمتخیّلات، بل تشمل المعاني أیضاً. فإن الذي یدرك الشاعر من لطیف المعاني في الأشعار المشتملة علی الاستعارات والکنایات لیس إلاّ الجمال؛ وإن الذي یعجب الحکیم من تناسق الکون وحسن انتظامه، بل یراه صفة ذاتیة للوجود، لیس إلاّ الجمال؛ وإن الذي یروع العارف عند شهوده لملکوت السماوات والأرض لیس إلاّ الجمال. فالجمال صوريّ ومعنويّ، والمدرك للجمال المعنوي هو الوهم في المعاني الجزئیة، والعقل في ما فوقها.

 

ونستنتج من وجدان الجمال في أکثر من مقولة، کونه من سنخ الوجود دون المهية. وهذا کالعلم والوحدة. والنفس في کل مرتبة تنجذب إلى الجمال الموجود في تلك المرتبة من الوجود. وليس بحيث إذا تجرّدت عن المادّة ولوازمها حُرمت من الجمال والالتذاذ به، بل تزداد إعجاباً والتذاذاً بالجمال العقليّ، ونعني به ما يوجد في ما وراء الحسيّات والمعاني الجزئية.

 

إذا کان المتعارف من الجمال هو الذي يُدرَك من تناسب أجزاء الشيء المرکّب فلا تختصّ حقيقته بالمرکبات، بل تشمل البسائط أيضاً.

 

أترى أن انجذاب الطفل إلى الوردة الحمراء وشعلة الشمعة يکون لشيء غير جمالهما؟ أليس ذلك إلاّ لما يعجبه من اللون الأحمر؟ وهل تحتمل أن جمال الحمرة في نظره إنّما هو بلحاظ الأجزاء وتناسبها؟ وأن الحمرة عرض بسيط.

 

بل نقول في جمال المرکّبات المتناسبة الأجزاء: إنّ الجمال يکون صفة للهيئة الحاصلة من الأجزاء المتناسبة، ونفس الهيئة أمر بسيط. وقد تتعدّد جهات الجمال من حيث الأجزاء بأنفسها ومن حيث الهيئة الترکيبية.

 

إن النفس لا تتمکن من إدراك الجمال الموجود في المرتبة العالية ما دامت منغمرة في المرتبة السافلة. فإدراکها للجمال العالي دليل على وصولها إلى تلك المرتبة، وهکذا في الجمال الأعلى.

 

ألا ترى أن النفوس المنهمکة في الشهوات البهيمية قلّما تلتذّ من المعاني اللطيفة؟ وبالعکس من ذلك فإن النفوس اللطيفة الشاعرة بالجمال المعنوي لا يهتمّون کثيراً باللذّات البهيمية.

 

قد عرفنا أن الجمال في الحقيقة صفة للوجود، لکن لا ينافي ذلك اتصاف المهيّات به. وأن المهيات هي الأعرف عند الإنسان من الوجود، بل لا يعرف من حقيقة الوجود شيئاً إلا بقدر معرفته بنفسه. وهي في الغالب ليس إلاّ شعاعٌ ضعيفٌ يکاد ينطفي. ولذلك ما يقع من اشتباه النفس بالبدن لأکثر الناس.

 

فالذي يعرفه کل إنسان من الجمال إنما هو معنی يحصّله من مقايسة بعض الأشياء ببعض، فما يعجبه منها يعدّه جميلاً. ونفي الجمال عمّا يتنفّر منه إنّما هو بحسب إدراکه وبالنسبة إلى نفسه، ولا ينافي ذلك کونه جميلاً عند موجود آخر، کما أنه لا ينافي کونه جميلاً بحسب وجوده مع صرف النظر عن مقايسته إلى موجود آخر.

 

الوجود مطلوب لکلّ موجود، ومن ذلك أن کل إنسان بل کل موجود شاعر فإنه يحبّ نفسه، ويحبّ مقوّمات وجوده ومکمّلاته. ولو حصل له مشاهدة ذاته لرآها تفيض بالجمال، وهذا بحسب وجوده مع صرف النظر عن مقايسته إلى وجود آخر، وهکذا الحال في شهود کل وجود.

 

فإذا أفاض الله على عبد بمعرفة شهودية وعلم حضوري بمراتب الوجود العالية لأدهشه جمالها ولقضی عجباً وخرّ صعقاً. فعرف أن الوجود في ذاته جميل، وعرف مغزی قوله تعالى «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه» (1).

 

فالوجود بوصف أنه مطلوب لکل موجود وأنّ کل موجود يحبّه ويلتذّ به فهو جميل کما أنه خير. وکلّما کان مرتبة الوجود أشدّ کان أجمل، والعالم بمجموعه جميل، وإنما القبح والشرّ يأتي من المقايسة والنسبة.

 

انجذاب النفس إلى الجميل إنما هو لمصلحة لها فيه وانتفاعها به فغايته استيفاء ما في الجميل من المصلحة والمنفعة. فانظر إلى ما في الأشياء الجميلة من المنافع العظيمة للإنسان، ولولا جمال منظرها لما انعطف قلبه إليها وما استفاد منها. فجمال المناظر الطبيعية هو الذي يجرّ الإنسان إلى معالجتها والتفکّر فيها، وجمال الطفل هو الذي يأخذ بقلب الأمّ ويبعثها إلى تربيته. وهکذا لا يخفی الدور الذي يوفيه الجمال في الزواج وسائر شؤون الحياة الاجتماعية.

 

قال تعالى: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب» (2). وقال: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون» (3) وقال: «خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد» (4). وقال عزّ اسمه: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (6).

 

ومن المعروف حبّ النبي (صلی الله عليه و آله) للطيب والزينة (6)، وروي أنه کان إذا أبرد بريداً اختار حسن الوجه (7). وقد ثبت أن من مرجّحات إمام الجماعة صباحة الوجه. وروي «أُطْلُبُوا الْخَيْراتِ عِنْدَ حِسانِ الوُجُوه» (8) کما روي أنه «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآن» (9). وروي «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ‏» (10).

 

فللإنسان الالتذاذ بالجمال في مختلف مراتبه ومظاهره والانتفاع بمنافعه في شتّى شؤون الحياة ما دام لا يعارض مصلحة أقوى، ولا يمنعه من الترقي إلى مرتبة أعلى. وقد تكفلّت الشريعة الغرّاء ببيان موارده ورسم حدوده.

 

والانجذاب إلى الجمال قد يعين على التخلّص من المرتبة النازلة إلى الراقية، وذلك مثل الانجذاب إلى لطائف الصور والمعاني لمن لم يتخلّص بعد من مرتبة البهيميّة، وهکذا في کلّ جمال يکون أعلى شأنًا بالنسبة إلى الحال الفعليّ للإنسان. ومن البديهي أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فالانجذاب إلى جمال خاص يکون معيناً على الترقي لإنسان وهو في نفس الوقت يکون موجباً لتنزّل إنسان آخر.

 

وهناك نحو انجذاب آخر للنفس إلى الجميل، يستغرق لبّه ويُنسيه کل شيء سواه، ولا يصلح استيفاء المنافع غايةً لهذا الانجذاب التامّ، بل يبطل عنده ما يترتّب على المراتب النازلة من المصالح المشار إليها. ولذا اعتبره کثير من أهل النظر زيغاً وانحرافاً عن مجری الفطرة، ومرضاً وجنوناً.

 

والذي نراه أن في فطرة الإنسان مبنى لهذا الحبّ، والزيغ والانحراف إن کان فإنما هو في تعيين المتعلَّق لا من حيث أصل التعلّق.

 

ولتبيين هذا نقول: إن من الشعورات الفطرية في الإنسان الشعور بالخضوع تجاه الکمال الذي لا يطمع في الحاقه بنفسه وقيامه به بعينه. وحينئذ يحبّ هذا الکامل ويتلذّذ بإظهار الخضوع له، وغاية مطلوبه منه أن يتّحد به ويندكّ فيه. ومن مظاهره حبّ التقرّب إليه والالتصاق به. وألذّ الأشياء عند هذا المحبّ أن يری وجوده فانياً في محبوبه قائماً به، ومن مظاهره اتباع إرادته له والتشبّه به في صفاته وشؤونه.

 

وهذه المرتبة من الحبّ إنّما تطلب ممن يمکن قيام ذات الإنسان به وتعلّق روحه وشراشر وجوده عليه، وهو ليس إلاّ من هو في سلسلة علله المفيضة للوجود عليه. وحيث إن وجود کل شيء وجماله مستفيض من غيره سوی الحق تعالى فإن المطلوب أوّلاً وبالذات هو هو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. السجدة / 8.

2. الصافات / 7.

3. النحل / 7.

٤. الأعراف / 32.

٥. المزمل / 5.

٦.راجع: الكافي، ج 5، ص 321؛ «مَا أُحِبُّ مِنْ دُنْیَاكُمْ إِلَّا النِّسَاءَ وَ الطِّیب»

7.راجع: مجموعة ورام، ج 1، ص 29،  باب الرسوم فی معاشرة الناس؛ «قال النبی (ص) إذا أبردتم إلی بریدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم»

8. الاختصاص، ص 233.

9. مستدرك‏ الوسائل، ج ٤، ص 273، بَابُ تَحْرِیمِ الْغِنَاءِ فِی الْقُرْآنِ وَاسْتِحْبَابِ تَحْسِینِ الصَّوْتِ بِهِ بِمَا دُونَ الْغِنَاءِ وَالتَّوَسُّطِ فِی رَفْعِ الصَّوْتِ

10.الكافي، ج 6، ص ٤38، بَابُ التَّجَمُّلِ وَإِظْهَارِ النِّعْمَةِ.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد