الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
تتحدّث هذه الآيات من سورة (الإسراء) المباركة عن الصلاة، والدعاء، والارتباط بالله تعالى من خلال قيام الليل، كعوامل مؤثّرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان من قلب الإنسان وروحه.
أمّا قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ..﴾ فيشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية الذي ينبع من روح التوحيد والإيمان، وهو الصدق في القول والعمل.
وفي الحقيقة فإنّ سرّ الانتصار يكمن هنا، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الربّانيّين حيث كانوا يتجنّبون كلّ غشّ وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، وكلَّ ما يتعارض مع الصدق.
وعادة فإنّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام والشعوب، إنّما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس، ففي بعض الأحيان يكون أساس عملهم قائماً على الكذب والغشّ والحيلة، وفي بعض الأحيان يدخلون إلى عمل معيّن بصدق، ولكنّهم لا يستمرّون على صدقهم حتّى النهاية، وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.
أمّا الأصل الثاني الذي يُعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد، ومن ناحية أخرى نتيجةً للدخول والخروج الصادق في الأعمال، فهو ما ذكرتْه الآية في نهايتها: ﴿..وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾.
لماذا؟ لأنّني وحيد، والإنسان الوحيد لا يستطيع أن ينجز عملاً، ولا يستطيع أن ينتصر في مقابل جميع هذه المشاكل إذا اعتمد على قوّته وحدها، لذلك فسؤاله من الله تبارك وتعالى، هو: «انصرني واجعل لي نصيراً».
النصر يعقب الاستقامة
وبعد أن ذكرت الآيات «الصدق» و«التوكّل» جاء بعدها الأمل بالنصر النهائي، والذي يُعتبر بحدّ ذاته عاملاً للتوفيق في الأعمال، إذ خاطبت الآية الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم بوعد الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ..﴾، لأنّ طبيعة الباطل الفناء والدمار: ﴿..إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾. فللباطل جولة إلّا أنّه لا يدوم، والعاقبة تكون لانتصار الحقّ وأصحابه وأنصاره.
يكون جيش الباطل -عادةً- ذا عدّة وعدد أكثر، إلّا أنّ جيش الحقّ -بالرغم من قلّة أفراده ووسائله الظاهرية- يحصل على انتصارات عظيمة. ويمكن مشاهدة نماذج من ذلك في غزوات بدر والأحزاب وحنين. وفي عصرنا الحاضر يمكن مشاهدة ذلك في الثورات المنتصرة للأمم المستضعفة في مقابل الدول المستكبرة. وهذا الأمر يكون سبب تحلّي أنصار الحقّ بقوّة معنوية خاصّة بحيث تصنع من «الإنسان» أمّة.
إنّنا نواجه في هذه الآيات من سورة الإسراء أصلاً تامّاً، وسنّة إلهية خالدة تزرع الأمل في قلوب أنصار الحقّ، وهو أنّ عاقبة الحقّ الانتصار، وعاقبة الباطل الاندحار، وأنّ للباطل صولة (وجولة)، وله كرّ وفرّ، إلّا أنّ عمره قصير، وفي النهاية يكون مآله السقوط والزوال.
الباطل هو كما يقول القرآن: ﴿..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ..﴾ الرعد:17.
والدليل على هذا الموضوع كامن في باطن كلمة الباطل، حيث إنّه لا يتّفق مع القوانين العامّة للوجود، وليس له رصيد من الواقعية والحقيقة. الباطل شيء مصطنع ومزوّر، ليست له جذور، أجوف، والأشياء التي لها صفات كهذه -عادة- لا يمكنها البقاء طويلاً.
أمّا الحقّ فله أبعاد وجذور متناسقة مع قوانين الخلق والوجود، ومثله ينبغي أن يبقى. أنصار الحقّ يعتمدون سلاح الإيمان، منطقهم الوفاء بالعهد، وصدق الكلام، والتضحية، وهم مستعدّون أن يضحّوا بأنفسهم وللاستشهاد في سبيل الله، قلوبهم منوّرة بنور المعرفة، لا يخافون أحداً سوى الله تعالى، ولا يعتمدون إلّا عليه، وهذا هو سرّ انتصارهم.
مجيء الحقّ وقيام المهديّ عليه السلام
في بعض الروايات فسّر قوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ..﴾، بقيام دولة الإمام المهديّ عليه السلام، فالإمام الباقر عليه السلام يبيّن أنّ مفهوم الكلام الإلهيّ هو: «إذا قام القائمُ ذهبت دولة الباطل». وفي رواية أخرى نقرأ أنّه حينما وُلد المهديّ عليه السلام كان مكتوباً على عضده: ﴿.. جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إنّ ثورة المهديّ عليه السلام ونهضته هي من أوضح المصاديق، حيث تكون نتيجتها الانتصار النهائي للحقّ على الباطل في كلّ العالم.
وبالنسبة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نقرأ أنّه دخل المسجد الحرام في يوم فتح مكّة وحطّم 360 صنماً كانت لقبائل العرب، وكانت موضوعة حول فناء الكعبة، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يحطّمها الواحد تلو الآخر بعصاه، وهو يقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
خلاصة القول
إنّ حقيقة انتصار الحقّ وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عامّ يجري في مختلف العصور، وانتصار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على الشرك والأصنام، ونهضة المهديّ عليه السلام الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العام. وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحقّ، ويعطيهم القوّة على مواجهة مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإسلامي.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان