الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (البقرة: 189). يذكر تعالى في جواب السؤال المطروح عن الهلال ما يلي: إن القمر يمثل تقويماً طبيعياً ينظم حياة الناس، معلقاً في كبد السماء، حتى يستفيد منه كل إنسان على هذه البسيطة، في أية نقطة منها، مهما اختلفت مستوياته العلمية والمعرفية والإدراكية، ليمنح حياته التنظيم والدقة بناءً على هذا التقويم الطبيعي. قد تقوم الشمس بهذا الدور أيضاً، ولكنها تختلف عن دور القمر، إذ لا يمكن معرفة التاريخ عبر التحديق في السماء بالنظر إلى الشمس، ولكن يمكن ذلك بمراقبة القمر وحالته. لقد خُلق هذا التقويم الطبيعي لهدفين مهمين هما:
1 ـ إيجاد حالة من التنظيم والبرمجة في حياة الإنسان، لأن الحياة في فوضى مصدر كل إخفاق وسوء، ولذا، خلق الله القمر حتى يقوم الإنسان بأعماله على أساس برنامج خاص وتنظيم دقيق.
2 ـ إن العبادات الدينية تؤدى وفقاً لهذا التقويم الطبيعي، وبالتالي، فإن وجود هذا الهلال يمنح حياتنا الطبيعية والعادية نظماً، كما نستفيد منه لأداء أعمالنا الدينية وعباداتنا الشرعية وفق هذا التقويم الطبيعي.
ومن المثير للانتباه أن الله تعالى قد أشار في ذيل هذه الآية إلى مسألة تمثل نموذجاً للفوضى التي كانت تحكم حياة الناس في الجاهلية، إذ لم يبق في ذلك العصر إلا نزر يسير من آثار الحج الإبراهيمي، خليطاً مع الخرافات والخزعبلات، منها ما ذكر في ذيل هذه الآية من أنهم عندما كانوا يرتدون لباس الإحرام ولم يكونوا يدخلون البيت من بابه، بل كانوا يدخلون من نقب يحفرونه خلف البيت ليعبروا منها كالحيوانات(2). وقد ذمّ القرآن الكريم هذه الفوضى، ولم يعتبرها علامة للبر والإحسان، وأمرهم بالدخول من باب البيت كالمعتاد والمألوف قبل الإحرام.
* ادخلوا البيوت من أبوابها:
يستفاد من ذيل هذه الآية أن لكل عمل طريقاً صحيحاً لإنجازه، وهذا ما ينطبق على كافة أعمالنا، سواء ما تعلق منها بأمر دنيانا أو آخرتنا، إذ لكل منها سبيل صحيح ومعقول يجب الدخول فيه والسير عليه حتى نصل إلى النتيجة المطلوبة. وقد أشار بعض الروايات إلى ذلك عندما فسّر البيوت في الآية بالإسلام، وأبوابها بالأئمة المعصومين عليهم السلام(3)، إذ الدخول إلى بيت الإسلام والحصول على المعرفة السليمة والصحيحة عنه، لا يمكن أن يتحققا إلا من طريقه الصحيح، أي معارف أهل البيت عليهم السلام، ولذا، لا قيمة أو وزن لتلك الادّعاءات التي تثار من حين لآخر، من هنا وهناك، من قبل بعض المخادعين الذين يدعون الناس إليهم، محلِّلين حرام الله، ومحرِّمين حلاله، مخالفين الآية الكريمة، فتتضح عند ذلك مهمة الفقهاء والمراجع العظام الذين يُدعى الناس إلى تقليدهم كنواب للإمام الحجة عجل الله فرجه، حيث يقومون بذلك بناء على ذلك التكليف الشرعي الجسيم الملقى على عاتقهم.
ـ النظم في القرآن الكريم:
ورد هذا الموضوع في آيات متعددة من القرآن الكريم، حيث نشير إلى نموذج منها في الآيات (من 38 إلى 40) من سورة يس:
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
وفي الآية (26) من سورة الروم، عندما يشار فيها إلى نظام الكون، نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾.
ـ من خصائص الرياح:
إن للرياح خاصتين مهمتين لا تتحققان إلا في النظم والترتيب، وهما:
1 ـ إن الرياح تجمّع الغيوم المتفرقة، مشكِّلة بحراً من المياه في قلب السماء فوق رؤوسنا، ثم ترسل هذه المياه بأمر الله تعالى نحو الأراضي القاحلة والمتعطشة للمياه، وتقوم الغيوم في تلك المناطق بدور شبكات الري بالتنقيط عبر سقوط زخات من المطر، مخففة بذلك الأضرار على سطح الأرض التي تنزل عليها. ألا تعتبر تلك الأمور مما لا يتمّ إلاّ في ظل النظم والانضباط؟
2 ـ أما الخاصة الأخرى للرياح، لا سيما في تلك العصور القديمة التي لم يكن الإنسان قد اكتشف طاقة البخار بعد، فهي تتمثّل في تحريك السفن بواسطة الرياح المنظمة في البحار، حيث يقوم ملاّح السفينة بالاستناد إلى المعلومات والاطلاعات الكافية عن زمن هبوب الرياح، بوضع الأشرعة في مسير تلك الرياح، حتى يصل بالمسافرين والبضائع إلى مقاصدهم، فلولا النظم الحاكم على هبوب الرياح، لما أمكن الاستفادة من السفن الشراعية في ذلك.
ـ نحن والنظم:
إننا نعتبر جزءًا من هذا العالم الواسع والكبير، نلاحظ النظم السائد على كل أجزائه، فهل نستطيع العيش خلافاً للنظام الحاكم على الكون بدون مراعاة النظام والانضباط في حياتنا؟ إذا لم نحكّم النظم على حياتنا، ألا نصبح عند ذاك نتوءاً نافراً في هذا المسير الدقيق، وبالتالي سوف نكون محكومين بالفناء؟ إن إحدى حالات الفوضى التي نلاحظها في حياة بعض الأفراد، تتمثل في عدم الانتظام في ساعات النوم واليقظة، حيث جعل الله تعالى النهار للعمل والنشاط، كما ورد في القرآن الكريم، وسخّر الليل للراحة والنوم(4)، ولكن للأسف نلاحظ أن بعض الناس، وخلافاً لهذا القانون، يسهر حتى طرف الليل، وهذه الفوضى وعدم الانتظام بين النشاط والراحة، مصدر للكثير من المشاكل والأمراض. لِمَ لا نلاحظ النظام حاكماً على المؤسسات والإدارات في الحكومة، إذ نواجه بعدم حضور الموظف إلى مكان عمله، على الرغم من مرور ساعة أو ساعتين على الوقت المحدَّد لبداية الدوام؟ وهذا الأمر ينطبق على رئيس المؤسسة كذلك.
مثال آخر، نعم إننا نفقد من الأفراد سنوياً بمقدار أربعة أضعاف خسائر حرب ما، بسبب الفوضى، وعدم الانضباط في استخدام وسائل النقل، وعدم مراعاة القوانين والمقررات الناظمة للسواقة والتوجيه في الطرقات. إن الفوضى وعدم الانضباط الحاكم على سير وحركة الدراجات النارية، والضرب بعرض الحائط بقوانين وضوابط السير والسوق من قبل بعض سائقي الدراجات النارية، وسوء استعمالهم لهذه الوسيلة، أدّى إلى خسائر لا تعوّض مادية ومالية، وفي الأرواح، بالإضافة إلى سلب الأمان في حركة وسائل النقل، حتى دعا بعض الشعراء المعاصرين إلى اعتبار هذه الوسيلة زميلاً بل منافساً لعزرائيل في عمله. بل والأهم من ذلك هو اعتلال النظام الاقتصادي لعالم اليوم، حيث تتركز ثمانون بالمئة من الثروة في يد عشرين بالمئة من الناس، في حين تتركز عشرون بالمئة الباقية في يد ثمانين بالمئة منهم، وهذا التقسيم غير العادل وغير المنطقي للثروة والمصادر المالية، نتيجة الفوضى الاقتصادية، وعندما تقرر الحكومات تسليم ثروات الدولة إلى القطاع الخاص، فإنّ هذه الفئة القليلة من العشرين بالمئة من الأثرياء يقومون بالاستيلاء عليها.
من هنا يشعر الإنسان بكامل وجوده بضرورة سيادة النظم والانضباط على كل شيء، بل إنّ النظم والانضباط حاكم على فرائضنا العبادية، بحيث لا تقبل الصلاة إذا أقيمت قبل دقيقة من وقتها ولا يجوز تأخيرها ولو بعد دقيقة بعد انقضاء وقتها. وما دام الناس لا يعتقدون من أعماق وجودهم بهذا القانون الإلهي فإنهم لن يستطيعوا حلّ مشكلاتهم لا بواسطة الشرطي ولا المحكمة أو العقوبة أو السجن. وكونوا على ثقة بأننا لن نبلغ أي مرتبة أو منزلة بدون انتظام وانضباط، كما أننا نصل إلى كل ما نريده في ظل النظم والانضباط.
ـ النظم في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
وهو في لحظات الشهادة خاطب عليه السلام، في الساعات الأخيرة من عمره الشريف، ولديه الإمامين العظيمين الحسن والحسين عليهما السلام وباقي أبنائه وأفراد عائلته وأقربائه، وكلّ من وصلته وصيته، بالدعوة والوصية بمراعاة النظم، حيث قال عليه السلام: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"(5).
ـ النظم في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
حضر رسول الله صلى الله عليه وآله تشييع جنازة سعد بن معاذ، وبعد القيام بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وتلقينه، وُضع حجر اللحد، وألقي بالتراب من أطراف القبر في داخله ولما رأى صلى الله عليه وآله عدم التناسق في ترتيب القبر وتنظيمه قام صلى الله عليه وآله بالانحناء وإصلاح سطح القبر بيديه المباركتين، وقال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يحكمه"(6). نعم، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي أهمية في ترتيب قبر ميت، فكيف يمكن لبعض المنتفعين أن يقوم ببناء شقق سكنية في أبنية من عدة طوابق بمواد بناء سيئة وضعيفة، وإسكان الناس فيها، وتعريض أرواحهم للخطر، بحيث يؤدي إغلاق باب شقة ما أو غرفة فيها إلى سقوط حائط المنزل بكامله؟
ـ تخلف المسلمين:
هنا يطرح هذا السؤال:
لماذا تخلف المسلمون في كثير من الأمور عن الآخرين، الذين يتطورون كل يوم أكثر فأكثر، على الرغم مما نلاحظه من توجيهات وأوامر راقية وردت في القرآن الكريم والسيرة النبوية وكلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وباقي المعصومين الأطهار عليهم السلام؟ إن الجواب على ذلك واضح، يكمن في أننا نحن المسلمين لم نعمل بتلك الأوامر والتوجيهات الراقية والمنقذة، في حين قام الآخرون بالعمل بها فساروا في طريق الرقي والتكامل، فلو عمل المسلمون بهذه التوجيهات بنية خالصة، منها الالتزام بالنظم والجدّ والإخلاص في العمل، لكنّا بلا شك في وضع أفضل.
ــــــــ
(1) مجمع البيان، ج2، ص27.
(2) تفسير الصافي، ج1، ص348.
(3) البرهان في تفسير القرآن، ج1، ص408.
(4) سورة يونس، الآية: 67.
(5) نهج البلاغة، الرسالة 37.
(6) وسائل الشيعة، ج2، ص883، حديث 2.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان