من التاريخ

قبسات من سيرة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام (2)


الشيخ إبراهيم الأميني

طلبُ المعيشة بحرّ الشمس
* عن أبي عمرو الشيباني قال: «رأيتُ أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له والعرقُ يتصابّ عن ظهره، فقلت: جعلتُ فداك، أعطني أكفِك.
فقال لي: إنّي أُحبّ أن يتأذّى الرجلُ بحرّ الشمس في طلب المعيشة».
* وعن محمّد بن عذافر عن أبيه، قال: «أعطی أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتّجِر لي بها.
ثمّ قال: أمّا إنّه ليس لي رغبةٌ في ربحه، وإنْ كان الربح مرغوباً فيه، ولكنّي أحببتُ أن يراني الله عزّ وجلّ متعرضاً لفوائده.
قال: فربحتُ له فيه مائة دينار ثمّ لقيته فقلت له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينار. فقال لي: أثبِتها في رأس مالي.
قال: فمات أبي والمال عنده، فأرسل إليّ أبو عبد الله عليه السلام، وكتب: عافانا الله وإيّاك، إن لي عند أبي محمّد ألفاً وثمانمائة دينار أعطيتُه يتّجر بها، فادفعها إلى عمر بن يزيد».

خيرُ الصدقة ما أبقت غنیً
كان الإمامُ الصادق عليه السلام - مثل آبائه الكرام - يحسن إلی الفقراء والمعوزين والغارمين والمنكوبين، وينفق عليهم، ونشير فيما يأتي إلی نماذج من ذلك:
* قال هارون بن عيسی: «قال أبو عبد الله عليه السلام لمحمّدٍ ابنه: كم فضُلَ معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون ديناراً.
قال: أُخرج وتصدّقْ بها. قال: إنه لم يبقَ معي غيرها.
قال: تصدَّق بها فإن الله عزّ وجلّ يُخلفها، أما عَلِمت أنّ لكلّ شيء مفتاحاً ومفتاح الرزق الصدقة؟ فتصدَّقْ بها.
ففعل، فما لبث أبو عبد الله عليه السلام إلّا عشرةً حتّی جاءه من موضعٍ أربعةُ آلاف دينار، فقال: يا بُنيّ، أعطينا للهِ أربعين ديناراً فأعطانا اللهُ أربعة آلاف دينار».
* وروي أن فقيراً سأل الصادق عليه السلام، فقال لعبده: ما عندك؟ قال: أربعمائة درهم. قال: أعطِه إياها. فأعطاه، فأخذها وولّی شاكراً فقال لعبده: أرجِعه.
فقال: يا سيدي سألتُك فأعطيتَ، فماذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسولُ الله صلّی الله عليه وآله وسلّم: خيرُ الصدقة ما أبقتْ غنیً، وإنا لم نُغنِك، فخُذْ هذا الخاتم فقد أُعطيتُ فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتجتَ فبِعه بهذه القيمة».
* وعن أبي حنيفة سائق الحاجّ، قال: «مرّ بنا المفضّل وأنا وخَتَني [أبو الزوجة أو أخوها] نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعةً ثمّ قال لنا: تعالوا إلی المنزل.
فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده؛ حتّی إذا استوثق كلُّ واحدٍ منّا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي. ولكنّ أبا عبد الله الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء، أن أُصلح بينهما وأفتديهما من ماله، فهذا من مالُ أبي عبد الله عليه السلام».

هذا الربحُ كثير!
* عن أبي جعفر الفزاريّ، قال: «دعا أبو عبد الله عليه السلام مولی له يُقال له مصادف فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّی تخرجَ إلی مصر، فإنّ عيالي قد كثروا.
قال: فتجهَّز بمتاعٍ وخرج مع التجّار إلی مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حالُه في المدينة - وكان متاع العامة - فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا علی أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينارٍ ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا إلی المدينة. فدخل مصادف علی أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان في كلّ واحدٍ ألف دينار، فقال: جُعلت فداك، هذا رأسُ المال وهذا الآخر ربحٌ.
فقال: إن هذا الربحُ كثير، ولكنْ ما صنعتم في المتاع؟! فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا.
فقال: سبحان الله! تحلفون على قومٍ مسلمين ألا تبيعوهم إلّا بربح الدينار ديناراً؟! ثمّ أخذ أحد الكيسين فقال: هذا رأسُ مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثمّ قال: يا مصادف، مجالدةُ السيوف أهونُ من طلب الحلال».
* وعن معتب الخادم، قال: «قال لي أبو عبد الله عليه السلام وقد تزيَّدَ السعرُ بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قلتُ: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة.
قال: أخرِجْه وبِعه. فقلت له: وليس بالمدينة طعام.
قال: بِعْهُ. فلمّا بعتُه، قال: اشترِ مع الناس يوماً بيوم. وقال: يا معتب، اجعل قوتَ عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حِنطة، فانّ الله يعلمُ أنّي واجدٌ أن أُطعِمَهم الحنطةَ على وجهها - أيّ خالصة - ولكنني اُحبُّ أن يراني اللهُ قد أحسنتُ تقديرَ المعيشة».

تعليمُ الصبر في المصيبة
* قال قتيبة الأعشی: «أتيتُ أبا عبد الله عليه السلام أعود ابناً له فوجدتهُ علی الباب، فإذا هو مهتمٌّ حزين. فقلت: جُعلت فداك، كيف الصبيّ؟
فقال: (واللهِ إنّه لما به)، ثمّ دخل فمكث ساعةً ثمّ خرج إلينا وقد أسفرَ وجهُه، وذهب التغيّر والحزن.
قال: فطمعتُ أن يكون قد صلح الصبيّ فقلت: كيف الصبيّ جُعلت فداك؟ فقال: لقد مضی لسبيله.
فقلت: جُعلت فداك، لقد كنتَ وهو حيّ مهتمّاً حزيناً، وقد رأيتُ حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟!

فقال: إنّا أهلُ بيتٍ إنّما نجزعُ قبلَ المصيبة، فإذا وقع أمرُ الله رضِينا بقضائه وسلَّمنا لأمره».
* ودخل سفيان الثوريّ علی الصادق عليه السلام فرآه متغيّر اللون فسأله عن ذلك، فقال: «كنتُ نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جاريةٌ من جواريّي ممّن تُربّي بعض وُلدي قد صعدت في سُلَّمٍ والصبيّ معها، فلمّا بصُرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ وسقط الصبيّ إلی الأرض فمات، فما تغيّرَ لوني لموت الصبيّ، وإنّما تغيّر لوني لما أدخلت عليها من الرعب.
وكان عليه السلام قال لها: أنتِ حرّةٌ لوجه الله، لا بأس عليكِ، مرّتين».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد