من التاريخ

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله (1)

الشيخ رسول جعفريان

 

إنّ الاهتمام بأربعين الإمام الحسين عليه السلام كان معروفاً عند الشيعة، منذ العصور القديمة، وفي التقويم التاريخيّ عند محبّي الإمام الحسين عليه السلام.

ففي كتاب مصباح المتهجّد- الذي كان ثمرة البحث الدقيق والاختيار الحكيم للشيخ الطوسيّ، بالنسبة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المناسبات الشيعيّة على مدار أيّام السّنة، سواءٌ أيّام الموالد والأفراح، أو أيّام الوفيات والأحزان، والأعمال الواردة فيها من الدعاء والصيام والعبادات- هناك قال الشيخ، وهو يتحدّث عن مناسبات شهر صفر:

أوّل يوم منه سنة إحدى وعشرين ومائة، كان مقتل زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

واليوم الثالث منه سنة أربع وستّين أحرق مسلم بن عقبة ثياب الكعبة، ورمى حيطانها بالنيران فتصدّعت، وكان يقاتل عبد الله بن الزّبير من قِبَل يزيد بن معاوية.

وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ (رضوان الله عليه) صاحب رسول الله صلى الله عليه آاله وسلم، من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فكان أوّل من زاره من الناس.

وقال تحت عنوان: "أعمال يوم أربعين الإمام الحسين عليه السلام":

ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبـي محـمّد العسـكريّ عليه السلام أنّه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

ثمّ نقل الشيخ الطوسيّ متن زيارة الأربعين بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام:

(السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه، السلام على صفيّ الله وابن صفيّه...) (1).

هذا ما أورده الشيخ الطوسيّ العالم الشيعي الجليل ومعتمد الشيعة ومفكرهم في القرن الخامس للهجرة حول مناسبة الأربعين.

وبسبب ذلك التعظيم الموجود عند الشيعة تجاه ذلك اليوم، والذي لا يعلم زمان بدايته متى ظهر، نرى الشيعة الإماميّة يؤدّون زيارة الأربعين ويقرؤونها إجلالاً وتعظيماً لها، بل إنّهم يقصدون كربلاء لزيارة إمامهم الحسين عليه السلام عن قربٍ كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً كما فعل جابر بن عبد الله الأنصاري.

وهذه السنّة والعادة لا تزال موجودة وبقوّة في زماننا هذا، ونشاهد كلّ سنة الملايين من الشيعة العراقيّين وغير العراقيّين يجتمعـون عنــد مقام الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين.

 

هنا يجب أن نبيّن بعض النقاط التي لها علاقة بموضوع يوم الأربعين:

 

العدد (أربعون)

المسألة الأولى التي تلفت الأنظار والتي لها علاقة بموضوع الإمام الحسين عليه السلام هي مفردة (الأربعون) الموجودة في المتون الدينيّة.

هنا يلزم أن نذكر أمراً مهمّاً بعنوان المقدّمة:

في الأساس يجب التنبّه إلى أنّ النقل الدينيّ الصحيح لا يعطي للعدد (الوارد) أيّة خصوصيّة وميزة من الناحية العدديّة في إلقاء المعنى وبيان المقصود، بمعنى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستنبط ويستنتج شيئاً خاصّاً بمجرّد استعمال عددٍ ما في مورد أو موارد متعدّدة، مثل العدد سبعة أو إثني عشر أو أربعين أو سبعين.

وإنّما قمنا بالتذكير بهذا الأمر، باعتبار أنّ بعض الفرق المذهبيّة- خصوصاً تلك التي لها توجّهات باطنيّة وفي بعض الأحيان ينسبون أنفسهم أيضاً إلى المذهب الشيعي- يروّجون لمثل هذه الأفكار الباطلة حول موضوع الأعداد والحروف ومثلهم أيضاً بعض المتفلسفين المتأثّرين بالأفكار الباطنيّة والإسماعيليّة المنحرفة.

في الواقع إنّ الكثير من الأعداد الواردة في المصادر الدينيّة يمكن إحتسابها من الأسرار الإلهيّة؛ ولذلك فلا يمكن استعمال هذا العدد في مورد آخر من دون أي مستند شرعيّ صحيح.

فمثلاً قد ورد العدد (مائة) عشرات المرّات في كتب الأدعية، حيث جاء في بعض الروايات أن يأتي المكلّف بالذكر الفلانيّ مائة مرّة. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنّ العدد مائة له قدسيّة خاصّة كعدد، وكذلك بقيّة الأعداد.

طبعاً بعض هذه الأعداد قد أخذت قدسيّة عند الناس بصورةٍ عفويّةٍ، وفي بعض الأحيان استفيد منها فوائد سيّئة وفاسدة.

الأمر الوحيد الذي يمكن قوله حول بعض هذه الأعداد هو أنّ العدد يدلّ على الكثرة، كما قيل بالنسبة إلى العدد سبعة، ولا يمكن القول أكثر من هذا بأن نأخذ مثلاً هذه الأعداد وسيلة للاستدلال على أمور أخرى.

يقول المرحوم الأربليّ- الذي يعتبر من علماء الإماميّة الكبار في كتابه (كشف الغمّة في معرفة الأئمّــة عليهم السلام )- وهو يعتـرض على الأشخاص الذين استدلّوا بقدسيّة العدد إثني عشر والبـروج الإثني عشر على إمامة الأئمّة الإثني عشر الأطهـار عليهم السلام فيقول: "إنّ هذه المسألة لا يمكن أن تثبت شيئاً، لأنّه لو كان الأمر هكذا فإنّ الإسماعيليّين وكذا الذين آمنوا بالأئمّة السبعة فقط بمقدورهم أن يأتوا بعشرات الشواهد- (مثل السموات السبع)- ليبرهنوا على قدسيّة العدد سبعة وقد فعلوا ذلك في الواقع".

 

العدد (أربعون) في المصادر الدينيّة

إنّ إحدى التعبيرات العدديّة المعروفة والمشهورة، هي كلمة (الأربعين) التي استعملت في كثير من الموارد. مثلا ًعمر النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كان في الأربعين حين البعثة، وقيل: إنّ هذا العمر هو علامة بلوغ الرشد العقليّ عند الإنسان. ولكن من الجدير قوله: إنّ بعض الرسل قد وصلوا إلى درجة النبوّة في صباهم.

ونقل عن ابن عبّاس (ولعلّه برواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ): "من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النّار".

ونقل عن آخر (من التابعين) قوله: كان الناس يطلبون الدنيا فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة (2).

وذكر في القرآن الكريم أنّ (ميقات) النبيّ موسى عليه السلام مع ربّه استمرّ أربعين يوماً، وورد أنّ النبيّ آدم عليه السلام سجد لله تعالى على جبل الصفا أربعين يوماً ليلاً ونهاراً (3). وروي أيضاً عن بني إسرائيل أنّهم كانوا يتوسّلون إلى الله تعالى أربعين يوماً حتّى يستجاب لهم (4). وفي روايةٍ من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً، يزهّده الله سبحانه بالدنيا، ويهديه لمعرفة الحقّ والباطل، وتجري الحكمة من قلبه على لسانه. وهذا المضمون قد ورد في رواياتٍ كثيرة. وأربعينيّات الصوفيّين- سواء كانت صحيحة أم فاسدة- منشؤها تلك النصوص. وقد تحدّث العلّامة المجلسيّ بالتفصيل في كتابه بحار الأنوار عن الاستفادة الخاطئة والفهم غير الصحيح عند المتصوّفة لتلك الروايات الأربعينيّة.

وورد في روايات كثيرة أهميّة حفظ أربعين حديثاً؛ ولذلك نرى المئات من الكتب تحت عنوان (الأربعون حديثاً) يختار فيها المصنّف أربعين حديثاً ثمّ يأخذ في تفسيرها وشرحها. وقد جاء في تلك الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(من حفظ عنّي من أمّتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عزَّ وجلَّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً) (5).

وفي نقلٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (لو بايعني أربعون رجلا ، لما وسعني إلّا القيام) (6).

وكتب المرحوم الكفعميّ: (لا تخلو الأرض من قطبٍ ولا أربعةٍ من الأوتاد ولا أربعين من الأبدال ولا سبعين من النجباء)(7).

وكذلك مسألة انعقاد النطفة لتصبح علقة، فهي تحتاج إلى أربعين يوماً، وأيضاً في تحوّلاتها اللاحقة من علقةٍ إلى مضغةٍ إلى حين الولادة، يلزمها من الوقت أربعون يوماً، هذا طبعاً حسب المنقولات القديمة، وكأنّ اعتقادهم هو أنّ العدد أربعين هو مبدأ التحوّل والتكامل.

وفي الرواية: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً.

وفي روايةٍ أخرى: من أكل اللحم أربعين يوماً ساء خلقه.

وفي روايةٍ أيضاً: من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الرجل يرفع اللقمة إلى فيه حرام، فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً) (8).

تلك كانت بعض الروايات التي استعمل فيها العدد (أربعين).

 

(أربعون) الإمام الحسين عليه السلام

هنا يجب أن نرى كيف تحدّثت أقدم المصادر الشيعيّة عن الأربعين، بمعنى أن نبحث عن سبب عظمة وفضيلة الأربعين، ما هو؟

إنّ أهمّ نقطة في موضوع الأربعين- كما مرّ معنا في البداية- هي رواية الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ، حيث يقول في تلك الرواية الواردة في المصادر المختلفة: علامات المؤمن خمس: 1- صلاة الإحدى والخمسين (17 ركعة للصلوات الواجبة + 11 صلاة الليل + 23 النوافل). 2- وزيارة الأربعين. 3- والتختم باليمين. 4-وتعفير الجبين. 5- والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

هذا الحديث هو المدرك الوحيد المعتبر الذي يصرّح -مع غضّ النظر عن نفس زيارة الأربعين الواردة في كتب الأدعية- بأربعين الإمام الحسين عليه السلام وعظمة ذلك اليوم.

 

وأمّا ما هو منشأ الأربعين؟

فيجب القول بأنّ المصادر قد نظرت إلى هذا اليوم من جهتين، الجهة الأولى: أنّه اليوم الذي رجع فيه أسرى كربلاء من الشام إلى المدينة. الجهة الثانية: أنّه اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كربلاء لزيارة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

وقد أشار الشيخ المفيد (المتوفَّى سنة 413 هـ) في كتابه (مسار الشيعة) الذي يتحدّث عن ولادات ووفيات الأئمّة عليهم السلام ، فقال: هذا هو اليوم الذي رجع فيه حــرم الإمــام الحسين عليه السلام مــن الشام نحو المدينة، وهو اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله إلى كربلاء، لزيارة الإمام الحسين عليه السلام.

إنّ أقدم كتب الأدعية المفصّلة والموجودة بين أيدينا هو كتاب (مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسيّ الذي تتلمذ على الشيخ المفيد، فهو يذكر هذا الموضوع في ذلك الكتاب، بعدما يتحدّث عن شهادة زيد بن عليّ في اليوم الأوّل من شهر صفر، وإحراق الكعبة الشريفة سنة (64) للهجرة، من قبل جيش الشام في اليوم الثالث منه، بعدها يتعرّض لليوم العشرين من صفر فيقول: (وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضوان الله عليه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام فكان أوّل من زاره من الناس، ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين).

وهناك يقول: إنّ وقت زيارة الأربعين هو عند ارتفاع النهار. وكتب أيضاً في كتاب (نزهة الزاهد) الذي صنّف في القرن السادس للهجرة: (في العشرين من هذا الشهر (صفر) كان مجيء عائلة الإمام الحسين عليه السلام الكريمة من الشام إلى المدينة) (9). وورد أيضاً هذا القول في الترجمة الفارسيّة لكتاب (الفتوح) لإبن الأعثم (10)، وكذلك في كتاب المصباح للكفعميّ الذي يعدّ من كتب الأدعية المهمّة جدّاً في القرن التاسع للهجرة.

وقد استظهر بعضهم من كلام الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ أنّ يوم الأربعين هو يوم خروج الأسرى من الشام إلى المدينة، لا أنّهم وصلوا إلى المدينة في ذلك اليوم (11). على كلّ حال، إنّ زيارة الأربعين تعتبر من زيارات الإمام الحسين عليه السلام الموثوقة والمعتمدة، ولها ميزة خاصّة من ناحية المعنى والمضمون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 548.

(2). مجموعة ورّام، ص 35.

(3). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 9، ص 329.

(4). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 239.

(5). المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 2، ح 5، ص 154.

(6). الطبرسيّ، الإحتجاج، ص 84.

(7). المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 53، ص 200

(8). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 217.

(9). نزهة الزاهد، ص 241.

(10). ابن الأعثم، الفتوح، تصحيح مجد الطباطبائيّ.

(11). المحدّث النوريّ، لؤلؤ ومرجان، ص 154.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد