مقالات

خُشوعُ القلب


السّيّد عبد الحسين دستغيب ..

عندما يدرك إنسانٌ في إنسانٍ آخر أمرَين: أوَّلاً، عظَمته وقدرته واستطاعته، وثانياً، كَرمه وإحسانه المُتوالي، تحصل في قلبه، عند الالتفات إلى عظمته، هيبةَ لذلك الشَّخص العظيم، كما تحصل من الالتفات إلى إحسانه محبّة له في قلبه، ويحصل من اجتماع الأمرَين (الهَيبة والمحبّة) حالةٌ في القلب يُقال لها «الخشوع».
إذاً، فالخشوع تذلّلٌ وتصاغُرٌ -ممزوجٌ بالمحبّة- في مقابل المُنعم العظيم. إنّ صاحب المعرفة، أي مَن عرف في نفسه الحقارة والعدَم، وعرف في ربّه العظمة والوجود المطلقَين، بل انحصار القدرة والعظمة في عالَم الخَلق به تعالى، وأدْرَكَ أنّ جميع أجزاء عالم الوجود عاجزة مقهورة له، تظهر -نتيجة ذلك- في قلبه هيبةُ الله عزّ وجلّ. ومن ملاحظة نِعَم الخالق الّتي لا تُحصى، عليه وعلى الآخرين، وملاحظة أنَّه لا مُنعِم غيره، تظهر في قلبه محبّةُ الله سبحانه، عندها ينصرف إلى إظهار عبوديّته وأداء شكر إنعامه، فيقف ويصلِّي ويخاطِب المنعم العظيم الشّأن ويناجيه ليحقِّق لنفسه الفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ المؤمنون1-2.

ما هي القسوة، وما هو منشأها؟
القسوة هي بمعنى الشّدّة والصّلابة، وهي نوعُ مرضٍ وانحرافٍ عن الاستقامة يعرض على قلب الإنسان، عندها لا يقبل الحقّ ولا يخشع له، أي أنَّه لا يذلّ وينقاد ويسلّم له، ولا يوجد فيه الخشوع للحقِّ الّذي هو حقيقة الإيمان، وأيضاً لا يؤثِّر النّصح والإنذار فيه، ولا تؤثِّر فيه المشاهد الّتي توجب الرِّقّة والحنان كشكاية المظلوم، وصرخة اليتيم، وحاجة الفقراء واضطرابهم.
والتّأمّل الدّقيق في آيات القرآن المجيد والرّوايات يكشف بوضوح أنّ مرض القسوة ذنبٌ كبيرٌ  يطرأ على قلب الإنسان، وتجب التّوبةُ منه فوراً وكذا السّعيُ في علاجه، مع ملاحظة أنّ قساوة القلب سبب عدم الإيمان والحرمان من الآثار العظيمة للخشوع للحقّ سبحانه.
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ الزّمر:22. وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّ أبعد النّاس من الله القاسي القلب».
وهي أيضاً –القسوة- سبب عدم الخوف وعدم الاضطراب من سَفَر الآخرة، وعدم الاعتناء بأهوال القيامة. وفي الحقيقة، فإنّ التّقوى –وهي الخوف والحذر من الذّنوب وكلّ ما هو خلاف العبوديّة- لا يمكن حصولها مع قسوة القلب، لذا يجب -من أجل الحصول على التّقوى- السّعي في علاج هذا المرض.
ثمّ إنَّ مرض القسوة ليس أمراً تكوينيّاً، أي أنّ الإنسان لا يُخلق قاسي القلب، بل هو أمر كسبيّ، أي يُبتلى به الإنسان جرّاء أقواله وأفعاله القبيحة.

القسوة ممكنة العلاج
يجب العلم أنّ مرض القسوة يمكن علاجه، وبعد العلاج والشّفاء منه قد يُبتلى به الإنسان مجدّداً. والهدف من هذا التّذكير أن لا يصيب الإنسان الغرور ويظنّ أنّه في أمانٍ من هذا المرض، فَلِلقسوة مراتب، ويجب أن يَعدَّ نفسه في معرض الابتلاء به، ولهذا أمَرَنا أئمّتُنا عليهم السلام أن نراقب قلوبنا، وأن نبادر إلى علاجها بمجرّد أن نلاحظ فيها شيئاً من القسوة. قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: «وما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب».
الذّنب، إذاً، هو سبب القسوة، ومن هنا تبدأ رحلة العلاج. إلّا أنّ القسوة تنجم أيضاً من كثرة التعلّق بالأمور المباحة، ومنها الإكثار من الأكل والشّرب والنّوم وغيرها، وأخطر من ذلك الغفلة وطول الأمل.
والخلاصة هي أنّ الواجب هو أن يسعى العبدُ في أن لا يصدر منه أيّ ذنب، ولا تسيطر عليه الغفلة، وإذا ابتُليَ بالذّنب فلا يصبح سيّئ القلب، ويطرق بواسطة التّوبة والإنابة باب الرّحمة، لتُفتَح له أبواب الخزائن الإلهيّة، ويصبح في النّتيجة محبوب الله كما قال تعالى: ﴿..إنَّ اللهَ يُحِبُّ التّوّابين..﴾ البقرة:222.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد