مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

كيف نجعل حياتنا صلاة؟


السيد عباس نور الدين

الصلاة في الحقيقة ثناء على الله تعالى من العبد. وهي إحدى أهم أبرز لوازم الإنسانية وخصائصها وحدودها. ولهذا لا يتنكّب عنها إلّا من خرج عن هذا الحدّ ورضي لنفسه بالبهيمية. ففي بعض الأحاديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "ألا يخافنّ أحدكم إذا حوّل وجهه عن الصلاة أن يحوّل الله وجهه إلى وجه حمار؟"
إنّ الطبيعة الإنسانية كما خلقها الله تقتضي أن يثني الإنسان على العظيم ويخضع له ويخشع أمامه. ولا يتطلّب وجود هذا الانفعال أو التفاعل التلقائيّ عملية تعليم واكتساب وتربية، لأنّه مغروزٌ فينا وممتزجٌ بفطرتنا، وإن كان للتربية دورٌ كبير في تفعيله أو صيانته.. ولأنّ الله تعالى ظاهر بعظمته وخالقيّته وإنعامه وتدبيره، فلا يُعرِض عن هذا الثناء والخضوع إلا كافر يتنكّر لهذه الحقيقة الكبرى الجلية الواضحة.. ومن المفيد أن ندرس الجهات النفسيّة التي تؤدّي إلى مثل هذا الإعراض والاستنكاف عن هذه الطبيعة الإنسانية والانحراف عنها، لما في هذا الدراسة من فهم لمجموعة من الظواهر البشرية العجيبة.

الإنسانية هي القاعدة الصلبة لانبعاث الروحانية الأصيلة وتكاملها. وكلّما انسجمنا مع إنسانيّتنا، ازدادت فرصتنا في استقبال فيوضات الروح وتجلّياتها.. وإنّما جاء الأنبياء ليعيدوا للبشر إنسانيتهم الضائعة التي هشّمتها الأنظمة الجاهلية والطاغوتية؛ وإنّما يفعل الأنبياء ذلك عبر تذكيرهم بنعم الله وآلائه.
أحد مظاهر التذكير والاستثارة هذه تكمن في سيرة النبيّ نفسه. لأنّ الأنبياء يمثّلون الإنسانية في أعلى وأصفى مراتبها وحالاتها. ولأنّ خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) كان أفضلهم وأعلاهم شأنًا فقد كانت صلاته ـ أي ثناؤه على الله ـ أفضل صلاة.
لم تكن صلاة المسلمين في بدايات الدعوة النبوية إلا بعض حركات، كالركوع والسجود؛ وشيئًا فشيئًا تلقّى المسلمون من رسول الله تفاصيل هذه الصلاة، فاقتربوا من معانيها السامية وصار ثناؤهم وخضوعهم أعلى وأرقى. فقد استطاع هذا النبيّ العظيم أن ينزّل صلاته الخاصّة التي أدّاها بين يدي ربّه في مقام قاب قوسين أو أدنى، وحين عروجه إلى أعلى مقامات القرب والوصال، وجعلها مُتاحة لكلّ مسلم يبتغي وجه الله.

تصوّر لو أنّ معلّمًا للفنون القتالية الشرقية عرض عليك أن يدرّبك على مجموعة بسيطة من التكتيكات التي تجعلك في مدّة قصيرة معلّمًا محترفًا تستطيع أن تتغلّب على خصمك ببعض الحركات البسيطة، مهما كان هذا الخصم شديد القوّة؛ وذلك، بدل أن تستغرق في تمارين مجهدة لمدّة طويلة، حيث تستلزم مهارات التغلّب على الخصوم بذل جهود ورياضات
وتمارين كثيرة ومعقّدة؛ فهل هناك عاقل يمكن أن يرفض مثل هذا العرض؟!
إنّ إحدى أعظم خصائص نبيّ الإسلام الأكرم هي أنّه (صلى الله عليه وآله) قد جعل تلك الصلاة المعراجية ـ التي خرقت جميع حجب عوالم الإمكان وبلغت به أعلى مقامات القرب والكمال ـ متاحة لنا جميعًا. وقد كان للإمام الحسين دورٌ ملفت في بلورة هذه الصلاة وتجسيدها أيضًا. كما حصل مثلًا في قصّة التكبيرات السبعة، والتي صارت سنّة مستحبة، حين وقف ذات يوم للصلاة وكان يريد تلقين حفيده وقرّة عينه هذا التكبير، أو ما يتعلّق ببعض أسرار السجود على التربة الحسينيّة، التي جاء في فضلها أنّها تخرق الحجب السبعة (التي تشير إلى مراتب الوجود الكلية). وفي هذه الأحكام دلالات عميقة تشير إلى الدور المحوريّ لهذا الإمام الشهيد على صعيد تكميل عباداتنا وسلوكنا في هذه الحياة، مثلما أنّها تشير إلى العلاقة الوطيدة بين الصلاة والإصلاح الاجتماعي.

المسلم الواقعيّ ينطلق في حياته الروحية من نقطة الصلاة، لا ليرتاح منها، بل ليرتاح بها؛ ولا لأجل أن يخرج من عهدتها ويتحرّر من مسؤوليتها، بل لكي يرجع إليها ويبلغ مقامها؛ والمصلّي الواعي لا يتعب في الصلاة بل يستجمع كل ما يناله من قوّة عبرها؛ وكيف لا يكون كذلك، والصلاة هي عنوان الاتّصال بمبدأ الكمالات كلّها؟ فالصلاة وإن كانت بحسب الظاهر واحدة، ولهذا لا تفرّق بين المسلمين في صلاتهم، لكنّها بحسب الباطن ذات مراتب كثيرة، وكل مرتبة منها هي مرتبة من الكمال الإنساني. لهذا، كانت الصلاة ميزان حرارة الإيمان الواقعيّ أيضًا.
الصلاة معراج المؤمن، أي إنّها وسيلته للعروج إلى الله تعالى.
وليست كلمة العروج هذه مجرّد تعبير رمزيّ أو أدبيّ خالٍ من الحقيقة، بل تشير إلى ما يمكن أن يبلغه المصلّي من مقام القرب والكمال؛ مقام القرب الإلهيّ حيث يصبح الإنسان مظهرًا تامًّا لأسماء الله وصفاته.
كل ذلك يمكن أن يتحقّق أيضًا في ركعتين مقتصدتين خالصتين لوجه الله تعالى.
لأنّه لا يُشترط في برنامج الصلاة مدّة زمانية معيّنة، كسنة أو سنتين أو أربعين سنة؛ بل يمكن تحقيق أعظم أهداف الصلاة بصلاةٍ واحدة حقيقية.

فمن الممكن أن يؤدّي المصلّي صلاته المعراجية هذه من أول مرة، فتنفتح له كل أبواب السماوات.. وإذا تحقّق له ذلك واستمرّ في الصلاة فهذا يعني أنّه بدأ رحلة عروجية في مقامات القرب نفسه ولن تتوقّف بعدها أبدًا. فدرجات القرب ومقامات الكمال لا نهاية لها ولا حد، لأنّ الله تعالى رفيع الدرجات ذو العرش.
كل مرتبة باطنية من الصلاة تكون حكاية وإظهارًا لباطن المصلّي الواقعيّ. فالمصلّي هنا ينشئ صلاته الخاصّة في قالب الصلاة العامّة. وإذا كان في صلاته غافلًا، لا يعلم ما يقول، ربما خرجت صلاته كخرقة بالية يُضرب بها وجه صاحبها. بل ما هو أسوأ، هو أن تصبح سببًا لترسيخ وتثبيت حقيقة بشعة.
وإحدى الحقائق البديهية عند البشر هي أنّه لا يتجرّأ على سوء الأدب في محضر العظماء إلا من كان جاهلًا بعظمتهم ومحضرهم. وهذه الحالة هي من صفات الحمار. فقد ينهق هذا الحيوان في أي مكان بصوته الذي هو أنكر الأصوات، حتى لو كان هذا المكان أقدس مكان.

لذلك، إن كان المصلّي غير مبالٍ بالمحضر الإلهيّ أثناء صلاته، وأطلق العنان لخيالاته وخواطره العبثية والباطلة التي هي بعيدة كلّ البعد عن حقيقة الثناء على الله، فإنّ هذا يشبه حال من يعبث مع جليسه في محضر السلطان العظيم الشأن؛ فمن الذي لا يُعدّ مثل هذا من سوء الأدب والإساءة ولا يستنكره أشدّ الاستنكار.
ولأنّ أفعالنا ترسّخ أحوالنا الباطنية والنفسية، فإذا تكرّرت مثل هذه الصلاة العابثة، فمن المتوقّع أن تترسّخ فينا حالة الحمارية هذه والعياذ بالله. وهذا ما كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله يحذّرنا منه. ولهذا، يكون حشر بعض الناس يوم القيامة على صورة تحسن عندها صورة البهائم.
لهذا، فإنّ المسلم الواقعيّ ينطلق في برنامج صلاته من أجل تثبيت الصفات الجميلة التي تحصل جرّاء الارتباط والاتّصال والتفاعل مع جمال الله وكمالاته وتربيته؛ وهو يخطو على هذا الطريق التكامليّ بوعيٍ تام لهذا المعنى والدور، ساعيًا لتكون جميع حالات صلاته وسيلة إصلاح شؤونه وأحواله.
وأحد الآثار الجميلة للصلاة هو التواضع لعباد الله. وهي خصلة رائعة ذات قيمة عالية وثمرة كثيرة البركة، تساهم في جعل حياتنا الاجتماعية مفعمة بالمحبة والسلام والوئام. فلا شيء يهدم أركان الأسرة والعلاقات الإنسانية مثل التكبّر والاستعلاء. وإنّما تترسّخ حالة التواضع هذه بفضل الصلاة لما في الصلاة من خضوع وتذلّل لا مثيل له. فحين يضع المصلّي جبهته التي هي أعز ما في ظاهره على تراب التذلّل لله، فهو يعلن عن إسقاط اعتزازه بخصوصياته ونفسيته وأنانيته وإنّيّته ليكون الاعتزاز فقط بالله ومن الله. ولأنّ عباد الله هم متعلّقات الله، فإنّ المصلّي الحقيقيّ يخضع ويتواضع لهؤلاء تبعًا لتواضعه وخضوعه لله، ولا يزداد بذلك إلا عزّة وكرامة. فالكرامة الحقيقية والعزّة الواقعية تنبع من الارتباط بالله. {مَنْ كانَ يُريدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَميعًا}.[1]

ومن الآثار الجليّة للصلاة ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}،[2] وذلك لأنّ الصلاة هي اتّصال مستمر بمنبع الطهر والمعروف والكمال. ومن الطبيعيّ أن يتولّد عن هذا الاتّصال شعورٌ قويّ بحضور الجمال والحُسن في النفس، فتنفر هذه النفس من الفحشاء والمنكر.   

ـــــــــ
[1]. سورة فاطر، الآية 10.
[2]. سورة العنكبوت، الآية 45.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد