الشخ محمد تقي المصباح اليزدي
من جملة ما من شأنه أن يفسّر لنا أحداث صدر الإسلام ويوضّحها، هو التّأمّل في كلمات أهل البيت، عليهم السّلام، التي يوجد ما يؤيّدها في مصادر الفِرق الأخرى من غير الشّيعة.
وبما أنّ الغاية من أبحاثنا هذه هي التفتيش عن قدوة سلوكيّة صحيحة، فإنّنا لن نتطرّق إلى تعيين الأشخاص؛ وهذا بالطبع لا يُعفي المؤرّخين من مناقشة هذه المسائل أيضاً ضمن أجواء علميّة وبحثيّة بحتة، واستناداً إلى المصادر الصحيحة، وحسبنا في هذا المجال أكثر مصادر أهل السنّة اعتباراً. فهدفنا هنا هو دراسة خطبة مولاتنا الزّهراء، عليها السلام، وتحليلها عبر رؤية واقعيّة وبعيداً عن التعصّب.
السقيفة كانت فتنة في العالم الإسلاميّ
تخاطب الزهراء، سلام الله عليها، الحاضرين في المسجد بالقول:
«...فَلَمَّا اخْتَارَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ دَارَ أَنْبِيَائِهِ وَمَأْوَى أَصْفِيَائِهِ، ظَهَرَتْ حَسِيكَةُ النِّفَاقِ، وَانْسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ، وَأَخْلَقَ ثَوْبُهُ، وَنَحَلَ عَظْمُهُ، وَأَوْدَتْ رُمَّتُهُ، وَظَهَرَ نَابِغٌ، وَنَبَغَ خَامِلٌ، وَنَطَقَ كَاظِمٌ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ يَخْطُرُ فِي عَرَصَاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مُعَرَّسِهِ صَارِخاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ غُضَّاباً، فَخَطَمْتُمْ غَيْرَ إِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمُوهَا غَيْرَ شُرْبِكُمْ، بِدَاراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ».
إذاً، فقد أطلقت، سلام الله عليها، على هذا الحدث عنوان «الفتنة»، وحتّى الإمام عليّ، عليه السّلام، فقد سمّاه أيضاً بالفتنة؛ إذ في نفس اليوم الذي كان أمير المؤمنين، عليه السّلام، مشغولاً فيه بدفن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، فقد جاءه مَن يبلغه بأنّ المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وبايعوا أبا إحدى زوجات النبيّ! فوضع عليه السلام طرف المسحاة في الأرض ونهض وهو يُمسك ظهرَه بيده ويقرأ الآيات الأولى من سورة العنكبوت: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛ أي أَحَسِبَ الناسُ أنّهم إذا أظهروا الإيمان فإنّه سينتهي الأمر ولا يُبتلون بالفِتَن؟!
إذاً، حتّى أمير المؤمنين، عليه السلام، قد أطلق عنوان الفتنة على هذه الحادثة. أمّا سائر المسلمين، فلم يكن لهم هذا الرأي، وقد حسبوا أنّهم بعملهم هذا إنّما يُخمدون نار الفتنة.
إذاً فقد كان هناك رأيان:
أحدهما: هو رأي أصحاب السقيفة، والذي يؤيّده اليوم أكثر المسلمين بقولهم: «حادثة السقيفة كانت حادثة عاديّة رتّبها جماعة ممّن أرادوا الخير للإسلام عندما قاموا بتعيين خليفة لرسول الله، صلّى الله عليه وآله، للحيلولة دون وقوع الفتنة والشِّقاق بين المسلمين»!
والرأي الآخر: هو ما نعتقد به، نحن الشيعة، تأسّياً بما صدر عن مولاتنا فاطمة الزهراء، سلام الله عليها، وباقي أهل بيت العصمة والطهارة، عليهم السلام، من أنّ هذه الواقعة لم تكن إلّا فتنة وقعت في الأُمّة الإسلاميّة.
أمّا الطرف المقابل فإنّه يشكّك عادةً بهذه الروايات، وإذا لم يشكّك فغاية ما سوف يقول: «هذا الكلام لا يَعدو كونه إبداءً لرأي شخصيّ يُفصح عن ذوق صاحبه»!
..... كان أهل البيت، عليهم السلام، وأتباعهم في طرف، وأصحاب السقيفة في طرف آخر. فأهل البيت كانوا يقولون: «كان هذا الأمر فتنة»، والطرف المقابل يقول: «كان هذا الأمر مانعاً من الفتنة»! وهما رأيان متضادّان تماماً.
أمّا الحكم في قضيّة: أنّه ماذا كانت نيّة الطرف المقابل لأهل البيت، عليهم السلام، من عملهم هذا فنتركه للتاريخ؛ ولنفترض أنّ نيّتهم من ذلك كانت هذه فعلاً، غير أنّ الأمر المُتيقّن، والذي لا يختلف عليه اثنان، هو أنّ كلّ واحد من هذَين الفريقَين كان له رأي وتفسير مغاير في هذه القضيّة. ونحن نرجّح كلام عليّ وفاطمة، عليهما السلام، ونقول: إنّهما عليهما السلام قد فهما الأمر جيّداً، أمّا الآخرون فقد أخطأوا.
لكنّ السؤال هو: كيف يتسنّى للمرء في مثل هذه الظروف أن يدرك الحقيقة بشكل صحيح، ويحكم على الأمور حكماً صائباً؟
وهذا هو بالضبط ما يطلق عليه قائد الثورة المعظّم الإمام الخامنئيّ حفظه الله اسم «البصيرة»، فواجبُه - حقّاً - هو هدايتُنا وإرشادنا، وإنّ تكليفنا هو السمع والطاعة والسعي لاكتساب البصيرة؛ أي أن نحاول اكتساب القوّة والملَكة التي تمنحنا القابليّة على تشخيص الحقّ من الباطل، والغوص بأنظارنا في خفايا الأحداث والوقائع، والتفكير بالنتائج والعواقب. فإنّ مَن يمتلك مثل هذه القوّة يكون من «أهل البصيرة». بالطبع لن يكون ذلك إلّا بتوفيق من الله، عزّ وجلّ، لكنّه يتعيّن علينا، من جانبنا، أن نبذل غاية المجهود في هذا السبيل.
وإنّ من طُرق كسب البصيرة هي إطالة التفكير بمثل هذه الوقائع؛ إذ إنّ أقلّ ما يُمكن فهمه من لحن كلام الزهراء عليها السلام في هذه الخطبة هو أنّ أولئك الذين يقفون في الطرف المقابل لها قد ارتكبوا خطأً جسيماً، وإنّه من الجسامة ما يجعلها تصرخ فيهم قائلة: «وَأَنَّى تُؤْفَكُون؟»؛ إلى أين أنتم ذاهبون؟! إلى أين يأخذونكم، أيّها الناس؟! لعلّهم يتنبّهون إلى ما يفعلون.
وصلنا في شرحنا للخطبة الشريفة إلى حيث قالت سلام الله عليها:
* «ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا إِلاّ رَيْثَ أَنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُهَا، وَيَسْلَسَ قِيَادُهَا»: فلم يمضِ وقت طويل حتّى ذهب عن الناقة تنفُّرها وجموحُها وأصبحت طيّعةً يسهلُ الأخذُ بعنانها.
وصفُ ناقة الفتنة
الزهراء، عليها السّلام، تشبّه هذه الفتنة بالناقة التي كانت في اليوم الأوّل جامحة عصيّة على القياد، لا يسهل الأخذ بعِنانها، فصبرَ القومُ حتّى هدأ رَوْعُها وتمكّنوا من الأخذ بعنانها فساقوها إلى حيث أرادوا؛ أي فعلوا ما شاؤوا فعله.
* «ثُمَّ أَخَذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَهَا، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَهَا»: فأنتم لم تقفوا عند حدّ انقياد الناقة وركوبها، بل شرعتم بإذكاء النار من جديد. ويظهر أنّها، عليها السّلام، قد ساقت مثال انقياد الناقة بعد جموحها لتشبّه به حالة تثبيت خلافة الخليفة الأوّل التي لم يَعقُبها اضطرابٌ ذو أهمّية. لكنّهم بدأوا بعد ذلك بالتفكير بالإمساك بزمام الأمور بالكامل والسيطرة على الأوضاع ومَحو أيّ أرضيّة للمخالفة. فلقد أشارت الزهراء، سلام الله عليها، سابقاً إلى أنّ الشيطان قد أخرج رأسه من مخبئه منادياً، لكنّها هنا تسوق تعابير هي أشدّ غرابة وإثارة للعجب؛ فتقول:
* «وَتَسْتَجِيبُونَ لِهُتَافِ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ، وَإِطْفَاءِ أَنْوَارِ الدِّينِ الْجَلِيِّ، وَإِهْمَالِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيّ»: فلقد لبّيتم نداء الشيطان بركوبكم على ظهر ناقة الفتنة، وحاولتم إطفاء نور الإسلام، وإهمال سُنن النبيّ صلّى الله عليه وآله.
والسؤال هنا: ما الذي كان قد فعله هؤلاء؟ هل كانوا قد دعوا إلى ترك الصلاة، أو عدم رفع الأذان، أو عدم قراءة القرآن؟ كيف سعوا - يا ترى – إلى إطفاء أنوار الدين؟ فممّا لا يقبل الإنكار أنّهم فعلوا ما يُوجب تضعيف الدين ومحوَه، ولو من دون قصد على أقلّ تقدير. فعندما ينحرف الدين عن مسيره الصحيح فإنّه سيصل إلى حيث لا يُمكن معه تشخيص المسير الأصليّ عن المسير المنحرف وتُمسي المسافة بين المسارَين ما لا نهاية من الأميال.
* «تَشْرَبُونَ حَسْواً فِي ارْتِغَاءٍ»: في العادة عندما يُحلب اللّبن تجتمع على سطحه رغوة. تصِفُ السيّدة الزهراء، سلام الله عليها، القوم في عبارة هي غاية في الروعة والبلاغة فتقول إنّكم - وبحجّة فصل الرّغوة عن اللّبن - أخذتم وعاء اللّبن وشربتم كلّ ما فيه مُبقين على الرغوة فقط. فالناظر يحسب أنّكم تريدون فصل الرغوة لكنّكم شربتم كلّ ما في الوعاء.
* «وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوُلْدِهِ فِي الْخَمَرِةِ وَالضَّرَاء»: فلقد بدأتم - مُتخفّين بغطاء النفاق - بإيذاء آل الرسول، صلّى الله عليه وآله وأولاده؛ أي إنّكم لا تُعلنون عن عدائكم لكنّكم تسلبوننا حقّنا في الخفاء. فهذه هي حالكم وتصرّفاتكم، فما هو حالنا ولم يمضِ على وفاة الرسول، صلّى الله عليه وآله، غير أيّام قليلة؟
* «وَيَصِيرُ (نَصْبِرُ) مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ حَزِّ الْمُدَى، وَوَخْزِ السِّنَانِ فِي الْحَشَا»: فلقد صِرنا - بسبب ما نالنا من أعمالكم - كالذي امتلأ بدنُه بطعنات سكاكين قويّة، وأُغمدت في أعماق جسده رماح حادّة.
هَمُّ فاطمة عليها السّلام
واُؤكّد هنا مرّة اخرى أنّ الزهراء، عليها السّلام، لم تقل: إنّ تظلُّمي هو بسبب نَهبكم لأموالي؛ بل تقول: «إنّ تظلّمي هو لإنّكم تحاولون محوَ دين الله، عزّ وجلّ، وسُنّةَ نبيّه صلّى الله عليه وآله. وما تحرّقُ قلبي إلّا لرؤيتي أنّ دين الله ينحرف عن الصراط المستقيم ويُساق إلى حيث الكفر: ﴿.. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ التوبة:49.
وإنّي أؤكّد أنّه من أجل إصدار حُكم صحيح على هذا الكلام وفَهمه جيّداً، فلا بدّ أن نُخلِيَ أذهاننا من أيّ تعصّب ونبتعد عنه في تحليلنا لهذه الحادثة، ونقف على الأخطاء التي حصلت في تلك الحقبة الزمنيّة، ونحول دون تكرارها في زماننا.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان