مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

محبّة الله (1)


الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
إنّ من المواضيع التي يتمّ بحثها مراراً وبالتفصيل هو القرب من الله عزّ وجلّ والسبيل إلى نيله. وقد استنتجنا، بالإفادة من الآيات والروايات، وعبر اللجوء إلى البحوث العقليّة، أنّ السبيل الوحيدة لبلوغ هذا الهدف هي عبادة الله. كما أنّنا قد تحدّثنا حول مفهوم العبادة وأقسامها ومراتبها وكيفيّة تجلّيها في حياة الإنسان. وكنّا قد ذكرنا أنّ الطريق إلى قرب الله يكمن في حركتنا الاختياريّة ونشاطنا الإراديّ. فموهبة كهذه لا تُعطى لأحد بالقوّة، ولا إجباراً، ولا إكراهاً، بل إنّ على المرء أن يطلبها، ويسعى إليها، ويمهّد لها كي يفيضها الله تعالى عليه. وقد قلنا فيما يتّصل بكيفيّة اختيار الطريق الموصل إلى قرب الله وسلوكه بأنّ كلّ حركة إراديّة إنّما تنشأ من مبدأين: هما المعرفة والإرادة، وهما قضيّتان متغايرتان وقابلتان للانفكاك عن بعضهما؛ فبعض الناس يعلم ما الذي ينبغي صنعه، لكنّه لا يفعل شيئاً، وبعض الأشخاص يرغبون في فعل شيء، لكنّهم لا يعلمون ما الذي يتعيّن فعله. وقد تناولنا من أجل ذلك بحوثاً حول أنماط المعرفة، والدوافع اللازمة لتكامل الإنسان، والسبيل إلى تقويتها.

مراتب محبّة الله
إنّ أقوى الحوافز التي من شأنها أنّ تدفع الإنسان ليخطو باتّجاه التقرّب إلى الله هي محبّة الله عزّ وجلّ؛ فكلّما اشتدّت محبّة الإنسان لربّه زادت رغبته في التقرّب إليه.
وهنا يكمن سؤال: ماذا نصنع لنحظى بهذه المحبّة؟ فالمحبّة هي من القيم السامية التي لا يسهل نيلها، وإنّ طي طريقها يحتاج إلى السعي والمثابرة. بالطبع إنّ لجميع المؤمنين مرتبة من مراتب محبّة الله سبحانه وتعالى. يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ﴾[1]. كما ويبيّن الله تعالى في آية أخرى الحدّ الأدنى من هذه المحبّة بقوله: ﴿قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾[2]؛ أي إن كان حبّه لهذه الأمور يفوق حبّه لربّه، ويشكّل مانعاً له من طاعته عزّ وجلّ فإنّه سيكون عرضة لخطر جسيم. فلا يجوز أن يكون حبّ الإنسان لأيّ شيء أكثر من حبّه لله. وهذه هي إحدى مراتب المحبّة اللازمة لتحقّق الإيمان، ولكنّها ليست كلّ شيء. فإنّها لنعمة عظيمة أن يحبّ الإنسان الله حقّاً ويكون مستعدّاً لبذل نفسه في سبيله وسبيل الإسلام، لكنّ هذا هو الحدّ الأدنى للقضيّة، فأيّ هبوط دون هذا الحدّ يُعدّ خطَراً يحذّر الله عزّ وجلّ منه.

إنّ لله جلّ وعلا عباداً تفوق محبّتهم له مستوى عقولنا. إذ يروى أنّ نبيّ الله شعيباً (على نبيّنا وآله وعليه السلام) بكى لسنوات طويلة حتّى فقد بصره، فأعاد الله له بصره، فعاد إلى البكاء لأعوام حتّى عمي ثانية، فردّ الله له بصره مرّة أخرى، فعاود البكاء لسنين، فأوحى الله تعالى إليه: «يا شعيب! إن كان هذا البكاء لأجل الجنّة فقد أبحتُها لك، وإن كان من أجل النار فقد حرّمتها عليك» فماذا تطلب بعد ذلك إذن؟ «فقال:» إلهي! أنت تعلم أنّ بكائي ليس خوفاً من جهنّم ولا شوقاً إلى الجنّة «لا بل شوقاً إليك»، فإنّني أحبّك وأطلب لقاءك. «فقال الله تعالى: لأجل هذا أخدَمتُك نبيّي وكليمي موسى عشر سنين»[3]. فقصّة فرار موسى (عليه السلام) من «مَديَن» ولقائه ببنات شعيب كانت مقدّمة من أجل أن يرعى موسى لشعيب (عليهما السلام) أغنامه لثمان أو عشر سنين.
لكن ما هي حقيقة هذه المسائل؟ وماذا يعني البكاء لمحبّة الله بالضبط؟ بل البكاء إلى درجة أن يعمى الإنسان ثمّ يُعاد إليه بصره حتّى يُفعل به ذلك عدّة مرّات! إنّها لمن المسائل التي لا يسعنا إدراكها جيّداً.
لقد جاء في الخبر بخصوص مراتب معرفة ومحبّة نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) أنّه عندما ترك (عليه السلام) قوم النمرود متوجّهاً نحو الأرض التي كتبها الله له كان يصطحب معه قطيعاً ضخماً من الأغنام[4]. فنادى جبرئيل في دجى الليل بأمر من الله عزّ وجلّ: «سُبّوح قُدّوس» فإذا بجذبة تصيب إبراهيم عند سماعه النداء فيقول: يا مَن ذكرتَ اسم محبوبي! أعِدْه ثانية ولك نصف غنمي[5]. لا أدري إن حصل لكم ذات مرّة أن تستيقضوا من رقادكم في منتصف الليل على صوت تلاوة قرآن، أو أذان، أو مناجاة فتنتابكم حالة من البهجة والسرور؟! أعاد جبرئيل النداء: «سُبّوح قُدّوس» فالتهب شوق إبراهيم (عليه السلام) وقال: لك باقي غنمي أيضاً، أعدها مرّة أخرى!

أيُّ حالة هذه التي ألـمّت بقلب إبراهيم لدى سماع اسم محبوبه؟ فكيف يكون الحبّ يا ترى، وإلى أيّ درجة يمكن أن يبلغ حتّى يكون إبراهيم (عليه السلام) حاضراً لِيَهَب كلّ ما يملك من أجل سماع اسم محبوبه؟! علينا أن نعلم إجمالاً أنّ المسافة بين محبّتنا ومحبّة نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) هي كالمسافة ما بين السماء والأرض؛ فنحن نحبّ الله، وعليّ (عليه السلام) أيضاً كان يحبّ الله، لكن شتّان بين محبّتنا ومحبّة أمير المؤمنين وإبراهيم (عليهما السلام). ولابدّ أن نصدّق أنّه من الممكن أن ينال المرء مثل هذه الدرجات من محبّة الله، وأنّ الكمال الحقيقيّ للإنسان وقيمته الإنسانيّة هما في أن يكون له مثل هذه العلاقة مع الله جلّ وعلا.
فإذا كانت لهذه الأمور حقيقة، وأنّ الأنبياء قد جاؤوا ليسلكوا بنا السبيل الذي سلكوه ويوصلونا إلى المقام الذي وصلوه، فعلينا نحن أيضاً أن نطلب هذه الأمور. ولا أدّعي بالطبع أنّ من الضروريّ أن نصير مثلهم؛ فنحن أضأل وأقلّ بكثير من أن نستطيع نيل أدنى مراتب الحبّ بصدق، وإذا ما أصبنا تلك المرتبة من دون أن نصبح محطّ سخط الباري عزّ وجلّ، فينبغي أن نطير من الفرح، لكنّه ثمّة من بين عباد الله، ممّن يمتلكون الهمم العالية والقلوب الطاهرة، قد آمنوا بمسير الأنيباء (عليهم السلام)، وعلموا بأنّ الكمال هو هذا تحديداً، وأنّه لابدّ من الحذو حذوهم وسلوك مسلكهم. ويتحتّم القول هنا بأنّ السير في هذا الطريق لا يتنافى بتاتاً مع أداء الواجبات الاجتماعيّة والسياسيّة، وإنّ ما قام به إبراهيم (عليه السلام) من تحطيم الأصنام وما تعرّض له من الإلقاء في النار كان في هذا الطريق أيضاً. فالعبوديّة لله عزّ وجلّ وحبّه تسري إلى كلّ شيء، وتظهر تجلّياتها في كلّ موضع؛ «حبّ الله إذا أضاء على سِرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى الله»[6].
ــــــــــــــــ
[1]. سورة البقرة، الآية 165.
[2]. سورة التوبة، الآية 24.
[3]. إرشاد القلوب، ج1، ص171. بالطبع هذا النمط من الوحي ينطوي على بُعدٍ تربويّ، وهو أن يسمع الناس القصّة فيستوحوا منها الدروس ويدركوا بها الحقائق، وإلا فعلّة بكاء شعيب (عليه السلام) لم تكن لتخفى على الله، وهو عزّ وجلّ أعلم من غيره بسبب بكائه.
[4].  عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما بعث الله نبيّاً قطّ حتّى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيّة الناس» (علل الشرائع، ج1، ص32)؛ أي ما بعث الله نبيّاً إلاّ ويأمره برعي الأغنام كي يكون حسن السلوك مع الرعيّة ولا يتوقّع منهم الكثير ويتحمّل جهلهم وغفلتهم.
[5]. تفسير الصافي، ج1، ص505.
[6]. مصباح الشريعة، باب 92، ص192.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد