مقالات

منزلةُ الدّعاء، شرعيّته من ضرورات الدِّين

السيّد علي خان المَدني الشّيرازي

اِعلم أنّ الدّعاء [بابٌ عظيمٌ من] أبواب العبادات، وأعظم ما يُستعصَم به من الآفات، وأمتن ما يُتوسَّل به إلى استنزال الخيرات، ووجوبُه وفضلُه معلومٌ من العقل والشّرع لقوله تعالى: ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ ، وقوله سبحانه: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..﴾.

وروى زُرارة عن أبي جعفر [الباقر] عليه السّلام، قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقول: ﴿..إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، قال: هُوَ الدُّعَاءُ، وَأَفْضَلُ العِبَادَةِ الدُّعَاءُ. قلت: ﴿..إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، قال: الأَوّاهُ: الدَّعَّاءُ».

والأخبار في فضل الدّعاء والتّرغيب فيه والحثّ عليه متواترة من طُرق الخاصّة والعامّة، حتّى صار شرعيّته من ضروريّات الدِّين، وهو من شعار الصّالحين، وآداب الأنبياء والمرسَلين، بل من أجَلّ مقامات الموحّدين، وأفضل درجات السّالكين لكونه مُشعِراً بالذّلّ والانكسار، ومظهراً لصفة العجز والافتقار، وهو لا ينافي القضاء ولا يدافع الرّضاء.

روى ميسِّر بن عبد العزيز عن أبي عبد الله [الصّادق] عليه السّلام قال: قال لي: «يَا مُيَسِّرُ، ادْعُ ولَا تَقُلْ إِنَّ الأَمْرَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، إِنَّ عِنْدَ اللهِ، عَزَّ وجَلّ،َ مَنْزِلَةً لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَسْأَلَةٍ، ولَوْ أَنَّ عَبْداً سَدَّ فَاهُ ولَمْ يَسْأَلْ لَمْ يُعْطَ شَيْئاً، فَسَلْ تُعْطَ يَا مُيَسِّرُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ بَابٍ يُقْرَعُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِه».

فظهر من كلامه، عليه السّلام، أنّ الدّعاء سببٌ من أسباب حصول المطلوب، فكون الشّيء متوقّفاً على سببه لا يدافع كونه ممّا قضى اللهُ حصولَه، إذ كما جرى في القضاء حصولُه فقد جرى أيضاً حصولُ هذا السَّبب، وكونه مسبّباً عنه.

ومن التّوهّمات الباطلة والظّنون الفاسدة ما قاله بعض الظاهريّين من المُتكلَّمين: «إنّه لا فائدة في الدّعاء:

- لأنّ المطلوب إنْ كان معلومَ الوقوع عند الله تعالى كان واجبَ الوقوع، وإلّا فلا يقع لأنّ الأقدار سابقة والأقضية واقعة، وقد جفّ القلمُ بما هو كائن، فالدّعاء لا يزيد ولا ينقص فيها شيئاً.

- ولأنّ المقصودَ إنْ كان من مصالح العباد فالجوادُ المطلَق لا يبخلُ به، وإن لم يكن من مصالحهم لم يَجُز طلبُه.

- ولأنّ أجَلّ مقامات الصّدّيقين الرّضا وإهمال حظوظ النّفس، والاشتغال بالدّعاء ينافي ذلك».

وهذا ظَنّ فاسد وقول سخيف صادر عن جاهل لا يعرف الحقائق عن مواضعها وأصولها؛ فإنّ الدّعاء ممّا يقاوم القضاء، لا من حيث إنّه فعْل العبد، فإنّه من هذه الحيثيّة ممّا يتحكّم فيه القضاء، لأنّه لو لم يقضَ عليه أن يدعو لم يكن يدعو، ولكن من حيث ما علَّمنا الله، عزّ وجلّ، وأمرنا به حيث قال: ﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..﴾ ، وقال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ..﴾ ، فإنّ الدّعاء من هذه الحيثيّة إنّما من حيث ينبعث القضاء، فلا تسلُّطَ للقضاء عليه، فإنّ كلّاً منهما من الله تعالى، ولسان العبد، والحالة هذه، ترجمان الدّعاء لأنّه لم يدعُ بنفسه، ولكنْ بأمرِ الله، عزّ وجلّ، وكلّ مَن فعل شيئاً بأمر أحدٍ فيدُه يدُ الآمر، كما إذا أمر الملِك بعض خدّامه أن يضرب ابناً للملك، فإنّ يد الخادم، بهذه الحال، يدُ الملك، ولو كان اليد يده لم يستطع أن يمدّها إلى ابن الملك، ولَيَبست دون ذلك يدُه.

وإنّك لتَعلم أنّ الدّعاء لا يتحكّم على الله وإنّما يتحكّم علينا، والله غالبٌ على أمره، فإذا كان الدّعاء موصولَ الأصل بالموضع الَّذي اتّصل به القضاء، فالقضاء والدّعاء يتعالجان، والحكمُ لِما غلب، ومَن غلب سلب، هذا ما ذكره بعض المحقّقين.

وقال النّظّام النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ..﴾: «قال جمهور العقلاء: إنّ الدّعاء من أعظم مقامات العبوديّة، والقرآنُ ناطقٌ بصحّته عن الصّدّيقين، والأحاديثُ مشحونةٌ بالأدعية المأثورة بحيث لا مساغَ للإنكار ولا مجالَ للعناد، والسّببُ العقليّ فيه أنّ كيفيّة عِلم الله تعالى وقضائه غيرُ معلومة للبشر، غائبة عن العقول. والحكمة الإلهيّة تقتضي أن يكون العبد مُعلّقاً بين الخوف والرّجاء الَّلذَين بهما تتمّ العبوديّة، وبهذا الطّريق صحّحنا القول بالتّكاليف مع الاعتراف بإحاطة عِلم الله، وبجَرَيان قضائه وقدره في الكلّ.

وما رُوي عن جابر أنّه جاء سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا كأنّا خُلقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفّت به الأقلام، وجَرَت به المقادير، أم فيما نستقبل؟

فقال صلّى الله عليه وآله: (بَلْ فيما جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ، وَجَرَتْ بِهِ المَقاديرُ).

قال: ففيمَ العمل؟ قال: (اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ).

وكلّ عمل يعملُه منبِّهٌ على ما قلناه، فإنّه، صلَّى الله عليه وآله، علَّقهم بين الأمرَين، رهَّبَهم بسابق القَدَر، ثمّ رغَّبهم في العمل ولم يترك أحدَ الأمرَين للآخر، فقال: (فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ)، يريد أنّه مُيسّر في أيّام حياته للعمل الَّذي سبقَ به القدَرُ قبل وجوده.

إلّا أنّك يجب أن تعلم الفرق بين المُيسَّر والمُسخَّر كي لا تغرق في لُجّة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الرّزق والكسب.

والحاصل: إنّ الأسباب والوسائط والرّوابط معتبَرة في جميع أمور هذا العالم، ومن جملة الوسائط والوسائل - في قضاء الأوطار - الدّعاءُ والالتماس كما في الشّاهد، فلعلّ الله سبحانه قد جعل دعاء العبد سبباً لبعض مَناجحه، فإذا كان كذلك فلا بدّ أن يدعو حتّى يصل إلى مطلوبه، ولم يكن شيءٌ من ذلك خارجاً عن قانون القضاء السّابق، وناسخاً للكتاب المسطور». انتهى كلامه.

وقال بيان الحقّ أبو القاسم النّيسابوريّ: «لَئِن كان الدّعاء غير معقول كانت العبادة غير معقولة، وقد تكون طاعةٌ وعبادةٌ من غير دعاءٍ ومسألة، ولا يكون دعاءٌ ومسألةٌ إلّا مع طاعةٍ وعبادة، إذ لا دعاء إلّا مع الاعتراف بالذِّلَّة والنّقص والاضطرار والعجز عقداً ولساناً وهيئة، وأنّه لا فرجَ له إلّا من لَدُن سيّده، ولا خيرَ له إلّا مِن عنده قولاً وضميراً، فيتردّد لسانُه بأنواع التّضرّع والحوار، وتتصرّف يداه نحو السّماء في ضروب من الشّكل والحركات، كما يُروى عن جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام، أنّه قال: (هَكَذا الرَّغْبَةُ) وأظهرَ وأبرزَ باطن راحتِه إلى السّماء، (وَهَكَذا الرَّهْبَةُ) وجعل ظاهر كفّه إلى السّماء، (وَهَكَذا التَّضَرُّعُ) وحرّك أصابعه يميناً وشمالاً، (وَهَكَذا التَّبَتُّلُ) ورفع أصابعه مرّة ووضعها أخرى، (وَهَكَذا الابْتِهالُ) ومدّ يدَه تلقاءَ وجهه إلى القبلة، وكان لا يبتهل حتّى يذري دموعَه ويُشخِص بصرَه. وهل إخلاص العبادة إلّا هذه الأحوال، فكان الدّعاء من أشرف العبادة، وبحسب العبادة يتمّ الشّرف الإنسانيّ ويخلص الغرض الإلهيّ، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ولأنّه لا يمتنع ظهور رحمة الله وسابغ كرمه في حقّ العبد من غير مسألته وكرامته بالإجابة، وتمتنع كرامته بالإجابة إلّا مع ظهور جوده واتّصال رحمته حتّى يطمئنّ بفضله ويثق بقبوله، ويعلم أنّه العبد الَّذي دعا مولاه فلبّاه وسأله فأعطاه، فكان الدّعاء في امتراء المزيد واستجماع أسباب الرّحمة مع الكرامة فوق الطّاعة والعبادة. ولهذا كان رسول الله، صلَّى الله عليه وآله، يرغِّب فيه إلى خيار خاصّته..». انتهى.

وأمّا القول بأنّ الاشتغال بالدّعاء ينافي الرّضا بالقضاء الَّذي هو أجَلّ مقامات الصّدّيقين، فجوابه: إنّه إنّما ينافيه لو كان الباعث عليه حظّ النّفس. وأمّا إذا كان الدّاعي عارفاً بالله، عالماً بأنّه لا يفعل إلّا ما وافق مشيّته، ودعاه امتثالاً لأمره في قوله: ﴿..ادْعُونِي..﴾ ونحوه، من غير أن يكون في دعائه حظٌّ من حظوظ نفسه، فلا منافاةَ بينهما، والله أعلم.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد