الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي ..
وقرأنا ـ تاريخيًا في أمثال سيرة ابن هشام ـ أن الرسول ( ص ) قام بإبرام أكثر من معاهدة ، وبعث السفراء السياسيين والآخرين الثقافيين ، وأشاد المساجد ، وجعلها مواضع تعبّد وتهجّد ، ومراكز تعليم وتعلّم .
إلى أعمال أخرى كثيرة ذكرها مؤرخو السيرة النبويّة .
وكانت هذه هي التجربة الأولى والرائدة للحضارة الإسلامية ، وقد بدأت من نقطة الصفر ، وفي مجتمع غير مؤهّل التأهيل الكافي للنهوض بها ، ولولا قدرة النبي محمد ( ص ) الفائقة على التربية الخلاّقة والمبدعة لما استطاعت هذه التجربة أن تخرج من الامتحان في تحدياته الصعبة والمرّة بنجاح ونصر نموذجيين في مستواها من حيث تحقيق الغاية المنشودة .
وفي العصر العبّاسي حيث ازدهرت الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات الفكرية والعملية كانت التجربة الثانية .
ففي مجال الفكر كانت الفلسفة الإسلامية إلى جانب الفلسفات الأخرى التي استقبلها المسلمون عن طريق الترجمة ، وأقبلوا على دراستها للإفادة منها ، وعلى نقدها لتصويب ما يفتقر منها إلى تصويب .
وكان في مقدّمة الفلاسفة المسلمين الإمام جعفر بن محمد الصادق ( ع ) ، وحفيده الإمام علي بن موسى الرضا ( ع ) وحفيده علي بن محمد الهادي ( ع ) ، وأبو يوسف الكندي وأبو نصر الفارابي وابن سينا والغزالي والخواجة الطوسي وغيرهم .
ومن غير شكّ أن الفلسفة من أبرز معالم الرقي الفكري .
وكان إلى جانب هذا نشوء وتطوّر العلوم الإسلامية كالقراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام وأصول الفقه وسواها .
وكذلك نشوء وتطوّر علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والبلاغة والعروض وأصول اللغة وخلافها .
وبلغ الأدب العربي ـ في هذا العصر ـ بشعره ونثره قمّة مستواه الفني .
ومثله الفن وفي كل مجالاته .
وأيضًا نضجت في هذا العصر علوم الطب والصيدلة والفلك والرياضيات وغيرها .
وفي العمران وما يعبّر عنه من تصميمات هندسية رائعة يكفينا شاهدًا آثار العباسيين في بغداد والفاطميين في القاهرة والأمويين في الأندلس .
وفي إطار التقييم لهذه التجربة الثانية للحضارة الإسلامية تعدّ من أروع التجارب الحضارية المتفوِّقة .
وإلى هنا ، ومن الآن سأستخدم كلمتي حضارة ومدنيّة بمفهوميها الخاصين ، وسأستعمل بدل كلمة حضارة بمعناها العامّ كلمة تقدّم .
بعد سقوط الدولة العبّاسية مُنيَ التقدّم الإسلامي بشيء من الركود في الجانب الحضاري ، وبشيء غير قليل من الجمود في الجانب المدني .
واستمرّ الوضع هكذا بين مدٍّ خفيف وجزرٍ عنيف ، حتّى بدايات القرن العشرين الميلادي حيث سقطت الدولة العثمانيّة، وسيطر الغربيون على معظم البلاد الإسلامية ، وجاء دور غزو الحضارة الغربية ، وقد استفاد الغربيون كثيرًا من الوضع الإسلامي الحضاري والمدني في ضعفه الذي آل إليه ، فازداد المدّ ضعفًا والجزر عنفًا ، وأصبح المسلمون يعيشون ضغوط الغزو الغربي ، ويعيشون أفاعيله في التغيير من واقع حضارتنا لصالح حضارته ، وفي محاولاته الصريحة والجريئة لطمس معالم الحضارة الإسلامية .
وحتّى النصف الثاني من القرن العشرين حيث بدأ المسلمون يكافحون هذا الغزو الحضاري الغربي بتحريك ذلك الركود الذي أشرت إليه في أعلاه ، وذلك بإنشاء المؤسسات الثقافية ، ومحاولة الاستفادة من الوسائل والأساليب الغربية في إعادة بناء الحضارة الإسلامية وفق متطلّبات المعاصرة .
وفي الربع الثاني من النصف الثاني نشط المسلمون في محاولة اختراق الحضارة الغربية في مواقعها الممنعة ومراكز انطلاقاتها القوية وهي البلدان الغربية ، فأنشأوا فيها المؤسسات الثقافية .
وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران ، احتدم الصراع فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وهنا يأتي دور المقارنة لنعرف واقع كل من الحضارتين الآن ومن بعد ذلك نتعرّف مدى إمكانية الحضارة الإسلامية في الصمود والتقدّم .
في الواقع الراهن لكل من الحضارتين شيء من التوازن ، وهذا ـ بدوره ـ يعطي الحضارة الإسلامية القدرة على الصمود ، والقدرة على التقدّم ، ومن ثم القدرة على التحدّي الفاعل .
من غير شكّ أن الغربيين يتفوّقون مدنيًّا سواءً في التكنولوجيا في مجاليها التقني والصناعي أم في اقتصادياتها في عالمي الشركات الكبرى في الصناعة والزراعة والتجارة والعمران ، وعالم البنوك ومؤسسات النقد العالمية .
ومن غير شكّ أنهم أصيبوا بشيء غير قليل من الوهن في الجانب الحضاري ، فحقوق الإنسان لم تعد هي حقوق الإنسان المعروفة في كل بلدانها ومناطق نفوذها ، والسمات الخلقية الفاضلة بدأت تتلاشى ، وما انتشار تجارة المخدرات، وارتفاع نسب الطلاق ، ونسب الإجهاض ، وشيوع الأمراض الناشئة عن التحلل الجنسي كالإيدز ، وكثرة سرقات السطو المسلّح ، وأمثالها ، إلاّ بعض شواهد لهذا .
وفي الجانب الإسلامي ، كذلك ، ومن غير شكّ ، يعاني المسلمون من نقص في التكنولوجيا ، فالصناعات الثقيلة لا تزال قليلة ، إلاّ أن التحرّك إليها سريع ، والشركات العالمية الكبرى تكاد تكون مفقودة ، والتحرّك إليها بطيء .
ولكن إلى جانب هذا يملك المسلمون من ثروات الطبيعة الخام المعدّة للتصنيع الشيء الذي يتجاوز حدود الوفاء بتموين احتياجات التصنيع ، أمثال : النفط واحتياطياته ومشتقّاته ، والمياه والتربة الخصبة الصالحة للزراعة ، والمعادن الأخرى كالحديد والذهب والفضّة والماس والنحاس والرصاص والفحم والفوسفات واليورانيوم والرمل الزجاجي . . وإلخ .
وكذلك لديهم المراعي والمواشي الثروة الموفرة .
وبالنسبة إلى استراتيجيات العالم الإسلامي فإنه يحتلّ موقعًا ممتازًا بين مناطق العالم :
ـ فأكثر الدول الإسلامية تطل على أهم طرق المواصلات البحرية في العالم بعضها على المحيط الأطلسي ، وبعضها على البحر الأبيض المتوسط ، وبعضها عليهما معًا ، وبعضها على البحر الأحمر ، وبعضها على الخليج الأخضر .
ـ ويتحكّم العالم الإسلامي بأهم الممرات المائية ، أمثال : مضيق جبل طارق ، ومضيق هرمز ومضيق باب المندب ، مضيق البوسفور ، مضيق الدرنيل ، وممر ملقا ، وممر بنتلاريا ( قوصرة ) ، وقناة السويس .
ـ ويتمتّع العالم الإسلامي بموقع ذي أهمّيّة كبيرة بالنسبة لخطوط الطيران الدولية ، حيث يمرّ معظمها بسماء الدول الإسلامية .
ـ كما أن مساحة دول العالم الإسلامي تبلغ ـ مجتمعة ـ 32 مليون كيلومتر مربع ، أي بما يزيد على مساحة الولايات المتحدّة الأمريكية ودول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي .
وباختصار ، إن الموازنة بين واقعي الحضارتين تنتج :
1ـ أن الغربيين يتفوقون مدنيًّا لأنهم يملكون الصناعات الثقيلة والشركات العالمية الكبرى والمؤسسات الثقافية المنتشرة ، للبحث والإنتاج الفكري ، أكثر مما هو لدى المسلمين .
2ـ إلاّ أنهم ـ أعني الغربيين ـ يتأخرون حضاريًا لأنهم لا يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتعطيه رواء الروح واستقرار النفس ، كذلك لا يملكون الإلزامات الأخلاقية .
يضاف إليه : أن الأحداث السياسية والعسكرية أبعدتهم عن المحافظة على حقوق الإنسان التي نادوا بها ودعوا إليها .
وأن الحيرة في مستقبل ما ينبغي أن يكون عليه النظام تلفّهم لفًّا فكريًا قلقًا .
3ـ أمّا المسلمون فيتفوّقون حضاريًّا لأنّهم يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتمنحه غذاء الروح وهدوء النفس والأمل الثابت بالانتصار ﴿ ... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾.
كذلك لديهم النظام الأخلاقي الإلزامي الذي يضبط سلوك الإنسان فيعطيه التوازن في تصرّفاته بما يحفظ له حقوقه ويلزمه بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين .
كذلك عندهم التشريع العادل .
4ـ غير أنهم يفتقدون القدر الكافي من المدنيّة .
إلاّ أنهم بدأوا يتحركون في استكمال متطلّبات المدنيّة لاستكمال جميع وسائل وأساليب التقدّم .
بعد هذا : إن الرصيد الذي يمتلكه المسلمون ـ اليوم ـ والمتمثّل في :
ـ فهمهم لواقعهم وواقع غيرهم .
ـ إدراكهم بأن لديهم الثروة الطبيعية التي يمكنهم اعتمادها في تحقيق التقدّم والتفوّق على من سواهم .
ـ علمهم بالتجربة الرائدة الناجحة لحضارتهم الإسلامية .
ـ وعيهم بفروق التشريع بين الإسلام وغيره في مجال تحقيق العدالة الإنسانية .
ـ إيمانهم بأن من ينتصر لله ينتصر الله له .
ـ إن هذا الرصيد الضخم هو الذي وضع المسلمين الآن موضع الصمود أما مختلف التحديات الغربية والتصدّي لها .
إن هذا الرصيد الضخم هو الذي دفع المسلمين الآن إلى أن يخطوا هذه الخطوات المسرعة في استكمال كل متطلبات التقدّم .
ففي حساب المعادلات السياسية : إن المسلمين ـ الآن ـ يتحرّكون للارتفاع إلى مستوى القدرة الفاعلة ومستوى الإرادة المصممة إلى تحقيق التفوّق في الجانب المدني أيضًا .
بينما لا نجد عند الغربيين أي تحرّك نحو انتشال الواقع الحضاري مما تردّى إليه ، لأن الإفراز الفكري لديهم لا يزال ينحو نحو السير على رقبة الإنسان الضعيف .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان