الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: تألیه العلوم الطبیعية والتشکیل المادي للعقیدة

الليلة السابعة محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
تألیه العلوم الطبیعية والتشکیل المادي للعقیدة
مجمع أهل البيت (ع) - عمان (مسقط) - 

 

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ورد عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام في دعائه في يوم عرفة: "اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك، وخر لي في قضائك، وأكرمني في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجّلت". صدق سيدنا ومولانا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله.

هذا المقطع من دعاء عرفة للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه يؤكد فيه الإمام على قضية مهمة وهي اليقين بوجود الله تعالى. "اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك". ينبغي أن يصل الإنسان المؤمن الموحد المثبت لوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته إلى أن يصير اعتقاده بالله تعالى كالاعتقاد عن رؤية حسية. "اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك" يعني نحن نؤمن بالله تعالى إيماناً غيبياً لأننا لا يمكن أن نتسلط على وجود الحق سبحانه وتعالى من خلال الحواس، لكن اليقين القلبي والتسليم بوجود الله تعالى يمكن أن يوصل الإنسان إلى التعامل مع هذا المعتقد كالتعامل الحسي، أن يؤمن بوجود الله كأنه يراه.

ونلاحظ في هذا الدعاء أن الإمام سلام الله عليه ينتقل في المقاطع اللاحقة إلى تعداد النعم الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان، ابتداء من كيفية خلقه. لاحظ مثلاً هذا المقطع الدقيق الذي يتحدث فيه الإمام سلام الله عليه عن نعم الله الداخلية على الإنسان، كيف شكل هذا الإنسان وخلقه في أحسن صورة، خلق له السمع والبصر وسائر الأجهزة البدنية الداخلية بإتقان منقطع النظير. يقول الإمام سلام الله عليه: "وأنا أشهدك يا إلهي بحقيقة إيماني، وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي، وباطن مكنون ضميري" لاحظ "وعلائق مجاري نور بصري، وأسارير صفحة جبيني وخرق مسارب نفسي وخذاريف مارن عرنيني، ومسارب صماخ سمعي، وما ضمت وأطبقت عليه شفتاي، وحركات لفظ لساني، ومغرز حنك فمي وفكي، ومنابت أضراسي، وبلوغ حبائل بارع عنقي، ومساغ مطعمي ومشربي، وحمالة أم رأسي".

ويستمر الإمام سلام الله عليه في مقطع فريد من نوعه في أدعية أهل البيت، يصفه بعض المختصين بأنه من أروع المقاطع الواردة عن أهل البيت سلام الله عليهم في تشريح أعضاء الإنسان. هذا المقطع يصور لنا ثقافة ذلك العصر التي كان أهل البيت سلام الله عليهم يبثونها في الناس من أجل توظيف خلق الله جل وعلا واتقانه للخلق والصنع في إثبات وجود الله والإيمان بوحدانيته.

 

إذاً، فالطريقة القرآنية والمنهج القرآني والمنهج الإسلامي بشكل عام، الذي بلغه أهل البيت سلام الله عليهم وسوقوا له، أن يوظف الإنسان الطبيعة وآيات الطبيعة العجيبة في خلق الإنسان في خدمة الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته. وسنتعرض من خلال حديثنا للمنهج القرآني في هذا السياق ولكن تعالوا في البداية نتعرف على المنهج الآخر، عنوان محاضرتنا تأليه العلوم الطبيعية- يعني عند المجتمع الغربي، وفي المشروع الحضاري المعاصر- وتشكيل العقيدة تشكيلاً مادياً. ماذا نريد بهذا العنوان؟ نريد أن نقول إن الثقافة المعاصرة اليوم، التي يروج لها المشروع الحضاري الغربي وبالتحديد المناخ المرتبط بالعلوم الطبيعية والعلوم الفكرية العقلية التي ترفد هذا الجانب، توظيف العلوم الطبيعية في إيجاد قناعات وعقائد للناس، اليوم المنهج الشائع في الغرب هو توظيف هذه العلوم الطبيعية، مع شديد الأسف، في طريق إبعاد الناس عن الإيمان بالله تعالى. لماذا؟ لأنهم صوروا للناس أن الإيمان بوجود إله خالق يعطل العقل ويعطل العلم الطبيعي، ويجعل الإنسان يتحدث عن أمور بعيدة عن العين، بعيدة عن الحس، فيغفل عن هذا الكون وعن أسراره. فإذا أردنا أن نتفحص هذا الكون ونقف على أسراره، يجب أن نستبعد هذه الفرضية، نستبعد أن هناك عالماً غير مرئي، وأن هناك إلهاً لا يرى بالبصر، لا يرى بالحواس، ولا يتسلط عليه بالحواس، أوجد هذا الكون. لا يجب أن نؤمن بأن هذا الوجود هو ما تراه، الكون بكل ما فيه والوجود بكل ما فيه هو عبارة عن هذا الشيء الشاخص أمامك، تعالوا نمر على المنهج الغربي من جهة ثم نعرج على المنهج القرآني والمنهج الإسلامي في التعامل مع آيات الطبيعة ومع العلوم ومع كشوفات الطبيعية، المنهج الغربي كما أشرت يحاول أن يوظف الكشوفات الطبيعية والكشوفات الفلكية والمعارف التي وصل إليها اليوم علماء الفلك وعلماء الطبيعة، أن يوظفها توظيفاً يبعد الإنسان عن الإيمان بالغيب.

وهذا مر بمسيرة تاريخية، اسمحوا لي أن أستعرضها بشكل سريع وموجز حتى نفهم كيف تتحرك الأفكار في الساحة الغربية. المرحلة الأولى ابتدأت بما يعرف بالنزعة العلمية، حينما بدأت العلوم الطبيعية تكشف أسرارًا غامضة وتصل إلى نتائج مذهلة، أيام نيوتن وأيام لافوازييه، عالم الكيمياء المعروف، لما اكتشفت معارف كثيرة في علم الفيزياء وضع نيوتن قوانينه، والكيمياء أيضاً أعطت معارفها في هذا السبيل. فانتشر زخم هائل من المعارف في علوم الطبيعة، أغرى كثيرًا من العلماء والمفكرين إلى إعادة النظر في المنهج العلمي للبحث، فرأوا أن منهج العلوم الطبيعية بات منهجاً مثمراً بحيث ما دامت القضية قائمة على التجريب وقائمة على البحوث المخبرية - يعني البحوث التي تجرى في المختبر- الإنسان يستطيع أن يصل إلى معارف طبيعية مذهلة فتعالوا نعيد النظر في العلوم العقلية والعلوم الإنسانية على وجه الخصوص هل العلوم العقلية والعلوم المرتبطة بالإنسان وطبيعة الإنسان كعلم الاجتماع كعلم النفس تثمر وفق المنهج العقلي المحض أم أنها تحتاج أن تحاكي المنهج الطبيعي منهج العلوم الطبيعية؟ فنشأت رؤية في أوساط العلوم الإنسانية، تنادي بتطبيق المنهج، منهج العلوم الطبيعية، المنهج التجريبي، المنهج القائم على التجربة، المنهج القائم على المختبر، أن يطبق في العلوم الإنسانية في علم الاجتماع في علم النفس.

 

فنَشَأت مدرسة فلسفية تعرف بالمدرسة الوضعية، أسسها عالم اجتماع فرنسي اسمه أوغست كونت. وبدأت العلوم الإنسانية تنحى هذا المنحى، يعني تريد أن تحاكي علوم الطبيعة. وازدهر هذا المنهج، وبدأت تنشأ نزعة يعبر عنها بالنزعة الطبيعية، يعني مبالغة مفرطة في تقديس علوم الطبيعة ومنجزات الكشوفات الحديثة في علم الطبيعة، بحيث بدأ العلماء والمفكرون الذين يشتغلون في العلوم الإنسانية والعلوم العقلية، يحتقرون المنجزات في هذه العلوم في قبال منجزات علوم الطبيعة، فإذن بدأ تنشأ عندنا نزعة تقديس لعلوم الطبيعة بحيث أصبح العلم الوحيد في نظر الساحة الفكرية الغربية القادر على أن يعطي معارف ومعلومات يمكن التحقق من صحتها ويمكن اختبارها، بعد مدة من الزمن بدأ علماء ومفكرون يحاولون توظيف هذه الحالة من أجل تعميم المنهج العلمي بحيث يريد هؤلاء أن يصوروا أن أي علم وأي معرفة لا تستند للعلوم التجريبية ولمنهج العلوم الطبيعية لا يمكن أن نعتبره علم وفعلاً عام ١٩٢٢م اجتمع مجموعة من العلماء والمفكرين ومنهم علماء اجتماع ومنهم علماء فلسفة ومنهم أيضاً علماء تجريبيون، اجتمعوا في فيينا وأصدروا بيانًا يعرف ببيان فيينا، أكدوا فيه على أن العلوم التي ينبغي أن تكون هي السائدة في الوسط الفكري الغربي هي العلوم الطبيعية والعلوم التي تحاكي هذا المنهج. أما العلوم التي تستند على تحليلات فلسفية وتحليلات ميتافيزيقية ترتبط بالعوالم غير الحسية، العوالم التي وراء الطبيعة، فهذه يجب أن ننبذها ويجب أن نستهين بها ولا يجب أن نحترمها.

إذاً لاحظ بدأت الآن الساحة الفكرية الغربية تركز فقط وفقط على علوم الطبيعة، وتهمل سائر العلوم والمعارف التي تنتمي إلى الحقل الآخر. يعني إذا كانت هناك براهين عقلية، نظريات فلسفية، لا يمكن اختبارها في المختبر ولا يمكن إجراء المنهج التجريبي عليها، فهذه نظريات وأفكار لا قيمة لها. إلا أنه في العقود الأخيرة نشأ منهج وظهرت مدرسة تعرف بالمدرسة العلموية، قالت بأنه غير العلوم التجريبية لا يصح أن نطلق عليها مسمى علم. واليوم يروج لهذه الفكرة أنه إذا كانت هناك معارف لا تخضع لمنهج العلوم الطبيعية، يعني لا تخضع للمنهج التجريبي، فهذه ليست علومًا ولا تستحق أن نطلق عليها مسمى علم. ولذلك اليوم ترى المصطلح الرائج والسائد إذا قيل منهج علمي، يعني قائم على المنهج التجريبي، يعني علوم طبيعية. ما سوى المنهج التجريبي ومنجزاته ونتائجه ومعطياته، لا يطلق عليه حتى مسمى علم.

 

إذاً لاحظ بدأت تتضخم النظرة للعلوم الطبيعية إلى حد تقديس العلم الطبيعي واعتبار ما سواه لا يسمى علمًا. هذا مسار أول. المسار الثاني، هذا أيضاً مسار تاريخي تحرك بشكل موازٍ للمسار الأول، وهو مسار تقديس الطبيعة واستسخاف فكرة أن يكون هناك إله. وهذا طبعاً مارسه الملحدون على مر التاريخ، وبدأت القضية بأطروحات طرحها عالم يهودي ولم يكن ملحداً، لكن مهد الطريق لهؤلاء وهو سبينوزا. هذا عالم هولندي يهودي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، وطرح فكرة في كتاب له تحت عنوان "مقالة في اللاهوت والسياسة"، تحدث فيه عن العلوم الدينية وطرح فكرة غاية في الخطورة. قال إن الإله الحقيقي الذي تتحدث عنه هذه الكتب، ليس إلا الطبيعة. لكن ما جاء من عبارات حول الإله في التوراة وفي الإنجيل وغيره من الكتب اللاهوتية، إنما هي كنايات رمزية، والإله الحقيقي الذي أوجد هذا الكون يمكن أن ننظر إليه على أنه الطبيعة. الملحدون تلقفوا هذه الفكرة وشجعوها وسوقوا لها، فبدأ ينتشر الإلحاد في أوساط كثيرة في المجتمع الغربي، وعلى الأخص الأوساط التي تؤمن بأهمية البحوث العلمية والبحوث التجريبية والبحوث المادية البعيدة عن البحوث الماورائية والبحوث المعنوية.

إلى أن جاء عالم ألماني معروف اسمه نيتشه، فطرح شبهة مفادها أن الأدلة والبراهين التي يقدمها علماء الأديان تعتمد على فكرة يعبر عنها بإله سد الفراغات أو الفجوات. ما المقصود من هذا؟ يقول إنه إذا رأينا قضية علمية لم نكشف سرها، نرميها على الإله. لا نعرف كيف وجد الكون، لا نعرف كيف خلق الكون، فنقول أوجده الإله. هكذا يقول نيتشه، وأقنع طيفاً واسعاً من المثقفين في ذلك العصر. فبدأوا يروجون أن فكرة وجود إله قائمة على ثغرات موجودة في العلوم الطبيعية. وهذا ماذا يعني؟ هذا يعني أن العلوم الطبيعية إذا كشفت وحلت لنا هذه الأسرار، فلن يبقى مجال للإيمان بالله تعالى. إذاً لاحظوا بدأت الفكرة تتصاعد وتتصاعد إلى أن أزيح وأبعد الاعتقاد بوجود الله تعالى، وهذا ما نعبر عنه بتأليه الطبيعة. أنهم بدأوا يحلون الطبيعة مكان الله تعالى التي يقيمها الموحدون والذين يؤمنون بوجود الله تعالى. وهذا مسار خطر جداً. ومع شديد الأسف، هذه الثقافة التي روج لها الغرب في العقدين الأخيرين، بدأت تؤثر على أفكار كثيرة من شبابنا، بحيث بدأوا يتصورون أن الإيمان بالغيب والإيمان بما فوق العالم الحسي، يعني العوالم الغيبية، كأنه يتقاطع مع العلوم ويتقاطع مع منجزات العلوم الفلكية والعلوم الفيزيائية. وأن الإنسان الواعي يجب أن لا يؤمن بالعلوم الغيبية بقدر ما يؤمن بمنجزات العلم التجريبي والعلم الطبيعي. وبدأت هذه الثقافة تؤثر حتى على قناعات أبنائنا حول القضايا الغيبية.

 

بدأت تنعكس على كثير من الأشياء التي كان في السابق الإنسان يرى حضور الله جل وعلا فيها، وحضور الغيب فيها. وأعطيك بعض النماذج البسيطة التي تؤكد أن هذه الثقافة بدأت تؤثر على وعي أبنائنا. ترى تحليلنا اليوم لكثير من التدخلات الغيبية (المعاجز) الكرامات حينما يشفى مريض نتجية دعاء، تأتي تقول له لعل الله عز وجل منَّ عليه بالشفاء والعافية بسبب دعاء بسبب صدقة بسبب عمل خير، أنت بالنتيجة تريد أن ترجع الشفاء لسبب غيبي، يأتيك هذا الإنسان الذي يقدم نفسه على أنه واعٍ ومتحضر وبعيد عن العوالم الغيبية الغامضة، يقول لك لا القضية قد تكون مرتبطة بجانب نفسي، من راحة نفسية عاشها هذا المريض فشفي مما هو فيه، لربما هناك سبب مادي لم يلتفت إليه الأطباء هو الذي تسبب في شفائه. إذاً من الواضح أن المنهج المادي والمنهج الحسي بدآ يؤثران على قناعة كثير من أبنائنا، بحيث أصبحت الأمور الغيبية دائماً تفسر بتفسير مادي. ويعتبر من يفسر القضايا تفسيراً غيبياً كأن هذا ليس مطلعاً على القوانين الطبيعية وليس مطلعاً على منجزات العلوم التجريبية الحديثة، لأنه دائماً يجنح إلى تفسير الأمور تفسيرات غامضة، تفسيرات غيبية. هذا المنهج منهج صحيح. تعالوا نحاكمه وفق المنهج القرآني، وهذا ما نتناوله في المحور الثاني.

القرآن الكريم يؤكد على حقيقة واحدة: أن كل هذه الآيات الكونية وكل هذا الوجود المتقن إنما خلقه الله سبحانه وتعالى من أجل الدلالة على وجوده جل وعلا. يعني إنما خلق هذا الكون بكل ما فيه من أجل التدليل على وجود الله سبحانه وتعالى. فالله خلقك وخلق سائر المخلوقات وخلق هذا الكون بكل ما فيه من أجل الدلالة عليه. فكم هو بعيد المنهج الغربي ومن يتأثر بالمنهج الغربي عن المنهج القرآني والمنهج الإسلامي. ذاك يوظف كل ظواهر الطبيعة من أجل إزاحة الإيمان بوجود الله تعالى، بينما القرآن الكريم يقول إن هذا الوجود وكل ما تراه، الغرض الأساس من إيجاده ومن خلقه الدلالة على الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يختصره لنا القرآن الكريم في آية واحدة، آيات عديدة لكن من أهم الآيات التي تتحدث عن هذا المنهج القرآني المهم قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد." تعالوا نشرح هذه الآية المباركة ونستخرج منها المنهج القرآني الذي يؤكد على ضرورة توظيف الظواهر الكونية والآيات الكونية الكثيرة في خدمة الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، والإيمان بوحدانية الله تعالى.

 

أولاً لاحظوا الآية المباركة افتتحت بقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" يعني كل هذه الآيات الغرض منها أن يرى الإنسان من خلالها وجود الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يعرف في الثقافة الإسلامية ببرهان النظم، أن الإنسان إذا تفكر وتأمل في هذه الآيات الكونية الكثيرة سيرى بوضوح أنه لا يمكن لهذه الآيات المتقنة إلا أن يكون وراءها إله وخالق مدبر عظيم، عالم بكل شيء، قادر على كل شيء. برهان النظم هذا ينبغي لشبابنا وأبنائنا أن يتقنوه ويحفظوه، لأنه اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى كثير من ساحات الإثارات والجدل، تثار هذه الإشكالات من الملحدين، ولذا يجب أن تكون عندهم ثقافة واعية لرد هذه الإشكالات من خلال إتقان البراهين العقائدية التي شيدها العلماء استلهاماً من القرآن الكريم. من أهم هذه البراهين برهان النظم مليء بالموجودات، السفسطائيون يعني في العهود السابقة كانوا ينكرون وجود كل شيء. الإنسان العاقل بوجدانه يرى أن الوجود غير منحصر في نفسه، وإنما هناك موجودات أخرى تملأ هذا الوجود.

هذه المقدمة الأولى: أن الإنسان يؤمن بوجود شيء وراء وجوده، يعني ليس هو فقط وحده الموجود في هذا الكون، وإنما وراءه موجودات كثيرة، كون مليء بالآيات، مليء بالمخلوقات والموجودات. هذه المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: أن الإنسان حينما يتفكر في هذه المخلوقات وفي هذه الموجودات يرى أنها مخلوقة بإتقان منقطع النظير. خذ على سبيل المثال هذا الكون الفسيح الذي اشتغلت علوم الفلك في العصور الأخيرة على كشف أسراره. يذكر أحد العلماء والمفكرين البريطانيين في كتاب اسمه "ستة أرقام فقط" هذا الكتاب يتحدث في هذا المؤلف، طبعاً هو عالم فيزياء وأستاذ في جامعة كامبريدج. هذا العالم ألف كتاباً اسمه "ستة أرقام فقط" يقول كل هذا الكون بكل الإتقان المحكم الذي فيه يعتمد على ستة أرقام رصدها وأتقنها الباري بدقة متناهية لو أن واحداً من هذه الأرقام الستة اختل ولو بمقدار ضئيل، لم يبق هذا الكون ولم تبق الحياة على هذا الكون يقول لاحظ مثلاً رقم يسميه الرقم N يقول هذا الرقم يتحكم بالقوى الأربع الموجودة في الكون. طبعاً الكون يقوم على أربع قوى مهمة: قوة الجاذبية الأرضية، القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الضعيفة، والقوة النووية الشديدة. يقول العلاقة بين هذه القوى قائمة على معادلة متقنة، هذه المعادلة تنطوي على أرقام غاية في الدقة. من أهم هذه الأرقام رقم يسميه الرقم N، يقول هذا الرقم مقداره واحد وأمامه 36 صفراً. يقول لو قدر لهذا الرقم أن يتقلص بقدر ضئيل جداً بحيث بدل 36 صفراً افترض 35 صفراً مثلاً، يقول حينئذ هذا الكون المتقن ينكمش وجوده ويصبح عمره عمراً ضئيلاً، بدل من أن يكون عمره الآن مليارات السنوات يصبح عمره قصيراً جداً، بل وتصبح المخلوقات في هذا الكون لا تتجاوز في حجمها حجم الحشرات الصغيرة، يقول مما يعني أن اختيار هذا الرقم بهذه الدقة البالغة التي من خلالها أصبح هذا الرقم، هذا الكون بهذه المثابة من الضخامة ومن الإتقان، وجعل الحياة ميسورة، كما نرى تكاثر الكائنات الموجودة عليه، هذا يدل على أن وراء هذا الصنع صانعًا متقنًا وعالـمًا حكيمًا.

 

إذاً فالإنسان إذا تأمل هذا الكون وتأمل هذا الوجود يقف على آيات متقنة، فتأتي إلى النتيجة المترتبة على التأمل في الطبيعة وظواهر الطبيعة. نحن نتحدث عن برهان النظم، برهان النظم يقول إذا تأملت في هذا الإتقان، عقلك يدرك أن وراء هذا الإتقان خالق موجد. لماذا؟ لأن العاقل بفطرته يرى أن وراء كل سبب مسبب، ولا يعقل أن يوجد سبب من دون مسبب له، كما تقول تلك البدوية التي سئلت: ما هي الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى؟ قالت: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير؟" يعني الإنسان بفطرته يدرك أن وراء السبب من يسببه، ووراء أي شيء مخلوق من خلقه.

هنا يأتي العقل ويقول هذا الإتقان العظيم في هذا الكون يدل على أن من ورائه خالقًا أتقنه. بل ويكتشف العقل أن هذا الخالق ليس موجوداً كغيره من المخلوقات، وإنما خالق ذو علم عظيم وذو قدرة عظيمة ولو لم يكن يملك من العلم الواسع والقدرة الواسعة لما استطاع أن يتقن هذا الوجود. إذاً فهذا هو برهان النظم، برهان النظم قائم على التدبر في المخلوقات والتدبر في الظواهر الكونية والوصول من خلالها إلى الإيمان بأن وراء هذا الكون المتقن إلهاً أتقن كل شيء. ولذلك أحد المفكرين الغربيين، هذه حقيقة من القصص التي تشكل عبرة من جهة وتبين سخافة استدلال الملحدين الذين يريدون من خلال هذا الكون المتقن وهذه الكشوفات العلمية المبهرة التي وصل إليها العلماء في العقود المتأخرة، أن يروجوا ويسوقوا من خلال فكرهم الإلحادي إلى أن الكون أوجد نفسه بنفسه. هذا عالم ومفكر وفيلسوف بريطاني اسمه أنتوني فلو. هذا العالم له كتب فلسفية كثيرة، وكان في بدايات حياته يميل إلى التفكير العقلي الحر بحسب تعبيره وبحسب ما ذكره في سيرته. يقول نتيجة مطالعة كثير من الكتب وصلت إلى قناعة أن التفكير الحر يقتضي أن لا أؤمن بفكرة إلا إذا قام عليها دليل. يقول وأوصلني عقلي في بدايات شبابي وبالتحديد عام 1955 إلى إنكار وجود الله وأعلن إلحاده في ذلك العام 1955.

 

 أعلن أنه ألحد وترك ديانة أبويه. سنوات طويلة، 50 سنة وهو يروج للإلحاد ويعقد مناظرات وحوارات مع اللاهوتيين والمتدينين الذين يؤمنون بوجود الله، ويناظرهم من أجل أن يثبت صحة مبدئه وصحة فكره الإلحادي. إلى أن كان عام 2001، حين صارت هناك كشوفات حول الخارطة الجينية للإنسان، وتزامن هذا الكشف العلمي المرتبط بتشكيل الخلية عند الإنسان، مع كشوفات في علم الفلك وفي علم الفيزياء، وازدهرت نظرية الانفجار العظيم. يقول هذا السيل المتراكم من الكشوفات العلمية دعاني إلى إعادة النظر والتأمل في صحة الفكر الذي أحمله. ويقول بعد مراجعة ذاتية وصلت إلى نتيجة أن الفكر الإلحادي الذي أؤمن به لا يقوم على دليل محكم، وأعلن تراجعه عن الإلحاد بعد 50 سنة من الترويج للإلحاد، لما صار عمره 80 سنة عام 2004 أعلن تراجعه عن الإلحاد وبعد ثلاث سنوات ألف كتاباً اسمه "هناك إله".

الشاهد في هذه القصة أنه يكتب في كتابه أن فكرة الإلحاد تقوم على فكرة سخيفة، أو أن مبدأ الإلحاد يقوم على فكرة سخيفة، ويضرب هذا المثل: يقول تصورت نفسي حينما جلست أراجع مع نفسي مراجعة ذاتية، هل أنا في الموضع الصحيح أم لا؟ يقول تصورت نفسي كأنني أعيش في جزيرة بعيدة عن كل أحد، وفجأة حينما كنت أسير في هذه الجزيرة ظفرت بتلفون نقال محكم الصنع، قادر على أن يقضي على المشكلة التي أنا فيها، يمكن من خلال هذا الجهاز أن أتصل بالآخرين وأصل إلى بر الأمان وأخرج من هذه الجزيرة المهجورة. يقول ثم قلت إنني إذا بقيت على إلحادي يصبح حالي كحال من وجد هذا الجهاز أو ظفر بهذا الجهاز، ثم سأل من أين جاء هذا الجهاز؟ من الذي صنع هذا الهاتف المتقن؟ فأجيبه بأن الذي صنعته الطبيعة، رياح عاتية هبت على هذه الجزيرة فشكلت أجزاء مترابطة من بعضها البعض، ثم أصبح هذا الجهاز من خلال عوامل طبيعية جهازاً متقناً قادراً على أن يحل مشكلته.

 

يقول هكذا أخذت أصور حالتي، حالة الإلحاد، أنني إن آمنت بأن هذا الكون المتقن لا يوجد وراءه خالق أتقن صنعه، يصبح حالي كحال من يقول بأن هذا الجهاز الذي أنقذني من ورطتي صنع من دون صانع. يقول فتنبهت إلى أن المبدأ الإلحادي يقوم على فكرة من هذا القبيل، أن هذا الكون المتقن بكل الكشوفات العلمية التي حيرت العلماء اليوم فيه، هذا الكون أنشأته طبيعة صماء، طبيعة عمياء لا تمتلك عقلاً، لا تمتلك فكراً. يقول فأخذت أنزه نفسي عن هذه الفكرة، ورأيت أن أعلن تخلصي من عقيدة الإلحاد. إذاً الإنسان البصير على نفسه، إذا حاكم هذه الأدلة، يرى أنها أدلة قائمة على فكرة سخيفة، تصور أن هذا الكون المتقن خلقته طبيعة عمياء صماء. ومن هنا نعود للتأكيد على المنهج القرآني، المنهج القرآني يؤكد أن الإنسان أينما يحرك بصره في هذا الوجود يجد آية من آيات الله. 

أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء الصباح يقول: "يا من دل على ذاته بذاته" يعني هذا الكون، هذا الخلق العظيم، هو بطبعه يوصل الإنسان إلى الإيمان بوجود الله تعالى. يدخل رجل على الإمام الصادق عليه السلام فيقول له: "يا ابن رسول الله، دلني على الله فلقد ألبس علي المجادلون ذلك". الملحدون والدهريون نتيجة كثرة الجدالات والنزاعات معهم أربكوا عليّ فطرتي وأربكوا عليّ عقلي فصرت لا أهتدي إلى الدليل الذي من خلاله أثبت وجود الله. أعطى الإمام الصادق عليه السلام دليلاً بسيطاً فطرياً لا يغفل عنه أي إنسان. قال له: "يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ تصور أنك يوماً من الأيام ركبت سفينة؟" قال: "بلى يا ابن رسول الله". قال: "تصور لو أن هذه السفينة كسرت بك، يعني جاءت ريح عاصف فحطمت هذه السفينة، وأصبحت في لجة البحر وبين أمواج البحر، بحيث لا سفينة تغنيك ولا سباحة تنجيك". تصور أن هذه السفينة تكسرت وأنت أيضاً غير قادر على السباحة. قال: "بلى يا ابن رسول الله". قال: "وأنت في ذلك الحال هل تعلق قلبك بشيء؟ قادر على تخليصك حين لا مخلص، وإنجائك حين لا منجي؟".  قال: بلى يا ابن رسول الله، قال:"ذاك هو الله".

 

الإنسان بمجرد أن يقع في معضلة، بمجرد أن يقع في محنة، بمجرد أن يقع في ورطة، يجد قلبه بلا سبب يدله على الله سبحانه وتعالى. يعني الإنسان كلما اشتد به الحال واشتدت به البلايا، يجد فطرته تشده إلى الله سبحانه. حتى هذا الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله، قد يكون لسانه يلقلق بهذه الفكرة، لكن إذا وقع في معضلة، إذا وقع في ورطة، هو نفسه يجد قلبه مشدوداً إلى أن هناك من يستطيع أن يخلصه من هذه الورطة. هذا الدليل الفطري أهم دليل يمكن أن نستند عليه في إثبات وجود الله تعالى. ولكن الإنسان إذا غرق في هذه الجدالات وأثرت عليه هذه الملابسات، قد يغيب الحق عن وجهه ولو كان أبلج، كما غاب الحق عن أتباع عمر بن سعد في يوم عاشوراء، والإمام الحسين أمام أعينهم، هديه ونوره كالشمس الواضحة في ربع النهار.

لكن الإنسان كما قلنا أحياناً يحيطه الباطل ويطبع على قلبه فلا يرى الحق. ولهذا الإمام الحسين سلام الله عليه لما رأى هؤلاء نصحهم وعظهم، ثم لما لم يجد بداً من أن يناجزهم القتال لأنهم أشهروا السيوف في وجهه. رأى الإمام أن القتال لا مفر منه، قدّم ابنه علي الأكبر ثم توالى الهاشميون واحداً تلو الآخر حتى لم يبق سوى أبي الفضل العباس. أجبرت الظروف الإمام على السماح للعباس بالقتال بعد أن دلع عبد الله الرضيع لسانه من العطش. العباس قاتل ببسالة ووصل إلى نهر الفرات لكنه تذكر عطش أخيه فرمى الماء وأخذ القربة. في طريق عودته، تعرض لهجوم قُطعت فيه يداه وسهم أصاب القربة، مما أضعف عزيمته. استشهد العباس بعد معركة شجاعة، تاركاً الحسين في حزن عميق. جاء الحسين إلى مصرع العباس وهو ينادي: "الآن انكسر ظهري، الآن قلت حيلتي، الآن شمت بي عدوي". 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد