علمٌ وفكر

كالضّوءِ من الضّوء

 

ابن أبي الحديد المُعتَزلي
وأَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّه كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ، والذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُد، واللَّه لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا ".." وسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ والْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لابن حُنيف:
(وَأَنا مِنْ رَسولِ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَالذِّراعِ مِنَ العَضُدِ): وذلك لأنّ الضّوء الأوّل يكون علّةً في الضّوء الثّاني، ألا ترى أنّ الهواء المقابل للشّمس يصير مُضيئاً من الشّمس؟ فهذا الضّوء هو الضّوء الأوّل. ثمّ إنّه يقابلُ وجهَ الأرض فيُضيء وجه الأرض منه، فالضّوء الذي على وجه الأرض هو الضّوء الثّاني. وما دام الضّوء الأوّل ضعيفاً فالضّوء الثّاني ضعيف، فإذا ازداد الجوّ إضاءةً ازداد وجه الأرض إضاءةً، لأنّ المعلول يتبع العلّة.
فشبَّه، عليه السّلام، نفسه بالضّوء الثّاني، وشبَّه رسول الله، صلّى الله عليه وآله، بالضّوء الأوّل، وشبَّه منبع الأضواء والأنوار، سبحانه وجلَّت أسماؤه، بالشّمس التي توجِب الضّوء الأوّل، ثمّ الضّوء الأوّل يوجب الضّوء الثّاني.
وها هنا نكتة: وهي أنّ الضوء الثّاني يكون أيضاً علّة لضوءٍ ثالث؛ وذلك أنّ الضّوء الحاصل على وجه الأرض، وهو الضّوء الثّاني، إذا أشرق على جدارٍ، ومقابل ذلك الجدار - قريباً منه - مكانٌ مظلِم، فإنّ ذلك المكان يصير مضيئاً بعد أن كان مظلماً، وإن كان لذلك المكان المظلم باب وكان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار، كان ذلك الجدار أشدّ إضاءةً من باقي البيت. ثمّ ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضِعٍ آخَر، كان ما يحاذي ذلك البيت أشدّ إضاءةً ممّا حواليه. وهكذا لا تزال الأضواء يوجب بعضُها بعضاً على وجه الانعكاس بطريق العلّيّة، وبشرط المقابلة، ولا تزال تضعف درجةً درجة إلى أن تضمحلّ ويعود الأمر إلى الظّلمة. وهكذا عالم العلوم والحِكَم المأخوذة من أمير المؤمنين، عليه السّلام، لا تزال تضعف كلّما انتقلت من قومٍ إلى قومٍ إلى أن يعود الإسلام غريباً كما بدأ، بموجب الخبر النّبويّ الوارد في الصّحاح.
وأمّا قوله: (والذّراع من العَضُد) فلأنّ الذّراع فرعٌ على العضد، والعضُد أصل. ألا ترى أنّه لا يُمكن أن يكون ذراعٌ إلّا إذا كان عضد، ويمكن أن يكون عضُد لا ذراع له، ولهذا قال الرّاجز لولده:
يا بِكْرَ بِكْرَيْنِ ويا خِلْبَ الكَبِدْ      أَصْبَحْتَ مِنّي كَذِراعٍ مِنْ عَضُدْ
 
فشبَّه، عليه السّلام، بالنّسبة إلى رسول الله، صلّى الله عليه وآله، بالذّراع الذي العضد أصله وأُسّه. والمراد من هذا التّشبيه الإبانة عن شدّة الامتزاج والاتّحاد والقرب بينهما.
فإنّ الضّوء الثّاني شبيهٌ بالضّوء الأوّل، والذّراع متّصل بالعضد اتّصالاً بيِّناً. وهذه المنزلة قد أعطاه إيّاها رسول الله، صلّى الله عليه وآله، في مقامات كثيرة، نحو قوله في قصّة براءة: (قَدْ أُمِرْتُ أَنْ لا يُؤَدِّيَ عَنّي إِلّا أَنا أَوْ رَجُلٌ مِنّي)، وقوله: (لَتَنْتَهُنَّ يا بَني وَليعَةَ أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلاً مِنّي) أو قال: (عَديل نَفْسي)، وقد سمّاه الكتاب العزيز (نفسه) فقال: ﴿..وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ..﴾ آل عمران:61، وقد قال له: (لَحْمُكَ مُخْتَلَطٌ بِلَحْمي، وَدَمُكَ مَسوطٌ (منوط) بِدَمي، وَشِبْرُكَ وَشِبْري واحِدٌ).
فإن قلت: أمّا قوله: (لَوْ تَظاهَرَتِ العَرَبُ عَلى قِتَالِي لَما وَلَّيْتُ عَنْها) فمعلوم، فما الفائدة في قوله: (وَلَوْ أَمَكَنَتِ الفُرَصُ مِنْ رِقابِها لَسارَعْتُ إِلَيْها)، وهل هذا ممّا يفخر به الرّؤساء ويعدّونه منقبة؟ وإنّما المنقبة أن لو أمكنَته الفرصة تجاوز وعفا!
قلت: غَرَضُه أن يقرّر في نفوس أصحابه وغيرهم من العرب أنّه يحارب على حقٍّ، وأنّ حربه لأهل الشّام كالجهاد أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ مَن يجاهد الكفّار يجب عليه أن يغلظ عليهم ويستأصل شأفتَهم.
قوله عليه السّلام: (وَسَأَجْهَدُ في أَنْ أُطَهِّرَ الأَرْضَ..) الإشارة في هذا إلى معاوية، سمّاه شخصاً معكوساً وجِسماً مركوساً، والمراد انعكاس عقيدته وأنّها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحقّ والصّواب. وسمّاه مَركوساً من قولهم: ارتكس في الضّلال، والرّكس ردّ الشّيء مقلوباً، قال تعالى: ﴿..وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا..﴾ النساء:88، أي قلبهم وردّهم إلى كفرهم. فلمّا كان معاوية تاركاً للفطرة التي كلّ مولود يولَد عليها، كان مرتكِساً في ضلاله. وأصحابُ التّناسخ يفسّرون هذا بتفسير آخر، قالوا: الحيوان على ضربَين، منتصب ومنحنٍ، فالمنتصب الإنسان، والمُنحني ما كان رأسه منكوساً إلى جهة الأرض كالبهائم والسّباع. قالوا: وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الملك:22.

قالوا: فأصحاب الشّقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب، وأصحاب السّعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب؛ ولمّا كان معاوية عنده عليه السّلام، من أهل الشّقاوة سمّاه معكوساً ومركوساً رمزاً إلى هذا المعنى.
قوله عليه السلام: (حَتّى تَخْرُجَ المَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الحَصيدِ) أي حتّى يتطهّر الدّين وأهله منه، وذلك لأنّ الزّرّاع يجتهدون في إخراج المَدَر والحجر والشّوك والعَوسج ونحو ذلك من بين الزّرع كي لا تفسد منابته فيفسد الحبّ الذي يخرج منه. فشبّه معاوية بالمدَر ونحوه من مفسِدات الحَبّ وشبَّه الدّين بالحبّ الّذي هو ثمرةُ الزّرع.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد