تمهيد
بعد أن يستكمل الطالب كلّ قراءاته المفيدة في المصادر والمراجع، ويقمّشها أو يجمعها في البطاقات الخاصّة بها، وينجز فرزها بحسب الموضوعات، ويوزّعها على الفصول والأبواب العائدة لها (التجميع والتصنيف)، تبدأ مرحلة جديدة من عمله، هي مرحلة البدء بكتابة البحث، وتلعب القدرات الخاصّة للباحث المتفاعلة مع المادّة المقمّشة والمبوّبة، دوراً عظيم الشأن في عملية إبداع البحث، ينتج عنها التفاوت الكبير بين باحث وآخر، وبحث وآخر.
والطالب الباحث الحاذق الموهوب، المتذوّق للّغة وأساليبها وقواعدها، والمتمرّس فيها، هو الذي يحلّق في ميدان بحثه، وينسج من المادّة المقمّشة بين يديه، بحثاً خلَّاقاً. فكما أنّ الصائغ، الذي يبدع من لآلئه عقداً يخطف الأبصار بجماله وبريقه، فكذلك الباحث المبدع هو الذي يحسن صناعة البحث ويجيده ويحقّق النتائج والأهداف المرجوّة، مع أنّ المواد الأولية والمصادر مشتركة بينه وبين الباحثين الآخرين.
انتقاء المعلومات
تعدُّ مرحلة انتقاء المعلومات اللازمة من المادّة المقمّشة، من أهمّ المراحل وأكثرها دقّة في البحث العلمي، وعلى الطالب فيها أن يحسن الاختيار، فينتقي المعلومات التي تتعلّق مباشرة بموضوع بحثه، ويُهمل غيرها لعدم لزومه. فينبغي للباحث أن يتجنّب الاستطراد ما وسعه ذلك، كإضافة فصل أو مبحث لا لزوم له، أو مناقشة لا ضرورة لها، لأنّ الاستطراد يحدث اضطراباً في ذهن القارىء وتفكّكاً في أجزاء البحث.
وقد يجد الطالب نفسه في الكثير من الأحيان في مأزق الاختيار، وصعوبة التخلّي عن جزء ولو يسير من المادّة المجمّعة، التي كلّفته جهداً ليس باليسير، فيعمد إلى حشرها في ثنايا البحث، بطريقة أو أخرى، وعليه هنا أن يعلم أن الحفاظ على ما بذله من جهد لا يعني حشو المعلومات المجمّعة كيفما كان في البحث عند كتابته، بل عليه أن يتنازل عن قدر من المعلومات المجمّعة، لأنّ التخلّي عن بعض ما يجمعه من مادّة، حاصل حتماً، وهو شيء طبيعي بالنسبة إلى كلّ طالب باحث، فالمعلومات الزائدة قد تؤدّي إلى إيقاع الخلل في مجمل البحث، فتُفقده وحدته وتناسقه، وقد تجعله يتجاوز السقف المطلوب.
وعليه عند وجود معلومات متمركزة حول محور واحد تمّ استخراجها من أكثر من مصدر أن يعمد إلى الأخذ بالأهمّ فالأقلّ أهمّية، ويقيّم ذلك بحسب طبيعة المصدر والمؤلّف وموثوقية المعلومات... إلى آخره من المعايير.
وعليه أن يختار أيضاً المعلومات المتجانسة والمتناسقة والتي تخلو من التعارض والتناقض والتضارب فيما بينها.
كتابة البحث
بعد انتهاء الباحث من انتقاء المعلومات اللازمة يبدأ بالخطوة الأخيرة من خطوات إعداد البحث العلمي، وهي كتابة البحث، حيث يسير الباحث وفق الخطوات الآتية:
1- المسوّدة:
هي الصحيفة أو الصحائف تكتب أوّل كتابة، ثمّ تنقّح وتحرّر وتبيّض1.
وهي أوّل ما يبدأ الباحث به، ويبدأ بكتابة أبواب بحثه وفصوله، أو موضوعاته، ويرجئ كتابة المقدّمة والخاتمة حتّى الانتهاء من كتابة الأبواب، وأوّل ما يبدأ به من الأبواب الباب التمهيدي، وبعد أن ينتهي من كتابة موضوعات البحث ينتقل إلى كتابة الخاتمة فالمقدّمة.
2- التعليق:
وهو كتابة التعليقات، والتعليقة: ما يذكر في حاشية الكتاب من شرح لبعض نصّه، وما يجري هذا المجرى2.
ويراد بالحاشية - هنا - أسفل صفحة الكتاب أخذاً من حاشية الثوب3.
3- المبيّضة:
وهي الصورة النهائية أو الشكل الأخير لكتابة البحث.
وفيها ينتهي الباحث من كلّ مستلزمات البحث، مراعياً قواعد وشروط الكتابة الناجحة التي سنتناولها بشكل تفصيلي ضمن الفقرات اللاحقة.
أوراق البحث وكيفية استخدامها في كتابة البحث
يستحسن من الطالب أن يكتب على أوراق مسطّرة كبيرة الحجم، ذات هوامش واضحة، وأن يترك فراغاً بين كلّ سطر وسطر، وألّا يكتب إلّا على وجه واحد من الورقة، وأن يترك في أسفلها ما يكفي لكتابة المراجع والتعليقات (الحواشي).
وإذا طرأت لديه معلومة يريد إضافتها، فبإمكانه أن يفعل ذلك، إمّا على الفراغ القائم بين السطر والآخر، إذا كان يكفي ذلك، وإما بوضع علامة (سهم) ← يبدأ من المكان الذي يجب أن تبدأ الزيادة عنده، ويمتدّ إلى نهاية السطر، كإشارة إلى أنّ الإضافة ستكون على ظهر الصفحة.
وإذا كان هناك أكثر من إضافة، يمكن أن يضاف إلى السهم الأوّل، رقم (1)، فيصبح: ← (1)، وإلى الثاني رقم (2) فيصبح: ← (2)، وهكذا دواليك.
وإذا تعدّدت الإضافات بحيث لا يكفي ظهر الورقة لاستيعابها كلّها، فيحسن عندها إلغاء الورقة وإعادة كتابتها من جديد، وإدخال الإضافات بصورة طبيعية، ولا سيما أنّ كثرة الإضافات تربك القراءة، وقد تجعلها متعسّرة.
وإذا كانت الإضافة واحدة كبيرة، فيمكن كتابتها على ورقة مستقلّة، ثم يصار إلى قطع الورقة الأولى من المكان الذي يراد إلحاق الإضافة به، حتى تبدو المعلومات متسلسلة، ثم تثبت الورقة الإضافية في المكان المراد، سواء بواسطة الصمغ، أو بواسطة ورق لاصق على ظهر الصفحة.
من هنا تبرز أهمّية اتّباع الأسلوب الجيّد والسليم في كتابة البحث، فأسلوب الكتابة هو البصمة الخاصّة بكلّ باحث، إن أجاده الباحث، واتبّع قواعده الصحيحة حقّق نجاحاً في بحثه.
قواعد أسلوب الكتابة الناجح
من أهمّ نقاط نجاح كتابة البحث من حيث الأسلوب، أن يكون متميّزاً بعدّة صفات:
1- الوضوح والبساطة، أي أن تكون الألفاظ واضحة في الدلالة على المعنى، وخالية من التعقيد والإبهام، فلا تستخدم الكلمات الغامضة، أو المشتركة لفظاً من دون قرينة، أو المجملة التي تحتمل أكثر من معنى، أو الغريبة البعيدة عن الأنس الذهني لأهل اللغة... وتدرس هذه الشروط عادة في ما يعرف بعلم البيان.
2- الصحّة: أي أن يكون اللفظ موصلاً للمعنى بشكل صحيح وسليم إلى ذهن المخاطَب، وخالياً من الأخطاء اللفظية والمعنوية، مراعياً قواعد الإملاء والنحو والصرف وعلم المعاني.
3- الحسن: أي أن يكون الكلام عذباً تتذوّقه الباصرة والسامعة بجمال عند قراءته، مراعياً شروط علم البديع.
ولذا، عبّر عن العلوم الثلاثة (البيان، المعاني، البديع) التي يدرس كلّ واحد منها أحد تلك الصفات والخصائص بعلم البلاغة، لأنّ معنى البلاغة في اللغة هو الوصول والانتهاء، وفي التعبير الشفهي أو الكتبي معنى البلاغة وصول القول إلى غايته في وضوح الدلالة وحُسن المعنى وجودته وصحّته وسلامته. وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام، أنّه قال: "البلاغة ما سهُل على المنطق وخفَّ على الفطنة"4. وعنه عليه السلام: "ثلاثة فيهنّ البلاغة: التقرّب من معنى البُغية، والتبعّد عن حشو الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير"5.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "ليست البلاغة بحدّة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنّها إصابة المعنى وقصد الحجّة"6.
4- التماسك والترابط المنطقي والتسلسل الهندسي بين العبارات والفقرات: وبعبارة أخرى: الألفاظ قوالب تصبّ فيها المعاني والأفكار، وكما أنّ للأفكار قوانين لتعقّلها وإدراك العلاقات القائمة بينها، لتجنّب الوقوع في الخطأ والزلل، فكذلك للألفاظ قوانين خاصّة من حيث هي ألفاظ، ومن حيث دلالتها على معانٍ محدّدة. وهذه القوانين تحكمها علوم قواعد اللغة العربية كما يحكم الأفكار علم المنطق.
وحتى تُدرك بوضوح العلاقات القائمة بين الأفكار والألفاظ، لا بدّ للباحث أن يستخدم أسلوباً علمياً دقيقاً، واضحاً بسيطاً، لا لبس فيه ولا غموض، ولا تكرار، ولا إطناب مخلّ، ولا إسهاب مملّ، سواء كان ذلك في الألفاظ أو في الأفكار، فقد تكون الأفكار مشوّشة مضطربة، لا تماسك فيها ولا وضوح، ويكون التعبير عنها، مفكّكاً، مضطرباً، غامضاً. وأحياناً قد تكون الأفكار واضحة في ذهن الباحث، لكنّه يُعبِّر عنها بأسلوبٍ غامض، ومفكّك، لعدم قدرته اللغوية على التعبير عن أفكاره بصورة صحيحة وسليمة، فالأسلوب المُتبّع في البحوث كافة سواء كانت فلسفية، أو أدبية، أو تاريخية، أو فقهية... يؤدّي إلى إنجاح أو إفشال البحث.
توصيات حول أسلوب الكتابة الناجح
يمكن أن نوجز أهمّ التوصيات المساعدة في تحقيق أسلوب ناجح بالآتي:
1- الالتزام بخطّة البحث والعناوين المقرّر علاجها، دون الخروج عنها مطلقاً.
2- عدم تكرار الأفكار الواردة، ولو بأسلوب آخر، إلّا لدواعٍ توضيحية.
3- عدم إغفال أيّ نقطة من المقرّر مناقشتها والحديث عنها.
4- اعتماد الجمل القصيرة، وتحاشي الفصل الطويل بين الفعل والفاعل، أو بين المبتدأ وخبره.
5- الابتعاد عن الألفاظ الصعبة أو الغريبة، واعتماد الكلمات السهلة والبسيطة، دون اللجوء إلى الكلمات السطحية.
6- التزام قواعد اللغة العربية الصحيحة، وضوابط الإملاء.
7- تجنب استخدام ضمير المتكلّم ما أمكن، أو استخدام عدّة ضمائر بشكل مضطرب بما ينسّف تناسق النصّ ووحدته.
كيفية التحقّق من نجاح أسلوب كتابة البحث
يمكن للتحقّق من نجاح أسلوب كتابة البحث طرح التساؤلات المساعدة الآتية:
1- هل الجمل طويلة جدّاً أم قصيرة؟ وهل هناك استطراد أم إيجاز؟ وأيّ منهما المفيد أو المخلّ من حيث إيصال المعنى المراد؟
2- هل الجمل بسيطة وواضحة في الدلالة على المعنى أم أنّها مبهمة وغامضة ومعقّدة؟
3- هل ترتبط الجمل عضوياً داخل الفقرة الواحدة بنحو متناسق ومنسجم؟
4- هل ترتبط الفقرات فيما بينها بنحو يشعر بوحدة النصّ وانسجامه؟
5- هل الفقرة كافية في عرض التفاصيل والأمثلة الموضّحة، أم أنّها قاصرة عن بيان المراد؟
6- هل تحوي كلّ فقرة على فكرة جديدة، أم أنّها مكررة؟
7- هل استخدمت بعض العبارات أو المصطلحات أو الكلمات بشكل مملّ يتعارض مع ضرورة التجديد والتنويع في الأسلوب؟
8- هل الأسلوب المستخدم سردي أو حواري أو بطريقة ترقيم الأفكار؟
9- هل الزمن المستخدم في الأفعال، من ماضٍ أو مضارع، مناسب للكتابة؟
10- هل المبتدأ والخبر متناسقان إعرابياً من ناحية الرفع؟
11- هل الضمائر التي تشير إلى أشخاص أو أحداث واضحة؟
12- هل الصفات مناسبة لموصوفاتها من حيث العدد والنوع؟
* كتاب البحث العلمي - قواعده ومناهجه، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
ـــــــــــــ
1- مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، القاهرة، 1972م، ط2، مادّة (سود).
2- م.ن، مادّة (علق).
3- راجع: الدرس 15.
4- الآمدي، غرر الحكم، ح1881.
5- الحراني، تحف العقول، ص 317.
6- م.ن.، ص 312.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم