علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

معاثر التفكير من اليونان إلى ما بعد الحداثة

من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة ثم ما لبث حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ إلى صنعته حتى صارت له أدنى إلى كهوف ميتافيزيقية مغلقة. ومع أن مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة أنتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة- على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله- لم تتعدّ الخطوط الكبرى التي رسمتها المنظومة الصارمة للعلمنة.

 

بسبب من ذلك، سنلاحظ أن جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت مطابقة لمعايير الفلسفة السياسية للدولة الأمة، ولمقتضيات الثورة العلمية. غير أن المعاثر التي عصفت بالعقل الغربي في طوره المعاصر، ليست حديثة العهد. فهي موصولة بأصلها اليوناني ولم تفارقه قط.

 

لقد بذلت الميتافيزيقا مذ ولدت في أرض الأغريق وإلى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني) لكنها ستنتهي إلى معضلة استحالة الوصل بينهما. ذريعتها أن العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات ولا علم له بما وراء عالم الحس. على هذا النحو ستفارق الميتافيزيقا سؤال الوجود الأصلي كسؤال مؤسِّس، ثم لتستغرق في البحر الخضم الممتلئ بأسئلة الممكنات الفانية وأعراضها.

 

لم تتخلص الفلسفة من تاريخها الإشكالي هذا منذ اليونان إلى أزمنة الحداثة الفائضة. ذلك ما جعل كل مسألة ذات طبيعة ميتافيزيقية تستعصي في رحابها على الحل. المعثرة الكبرى في مكابدات الميتافيزيقا كامنة في مهمتها الأصلية، وهي فهم العالم كوجود متصل، والنظر إليه كامتداد أصيل بين مراتبه المرئية واللامرئية. الطبيعية وفوق الطبيعية. أو بتعبير أخص، بين الموجود وواجد هذا الموجود. ولئن كانت مهمة الفلسفة هي هذه، فذلك تذكير بما هو بديهي حتى لا تحجبه غوايات التأويل. فيقال مثلاً إن الفلسفة هي علم ما يظهر وحسب. والتذكير بمهمة الميتافيزيقا بما هي استكشاف ما يحتجب عن حاسة النظر إجراءات العقل العملي، هو إقرار للفلسفة بوصفها علماً حياً يحيي نفسه ويحيي سواه من العلوم في الآن عينه. هو أيضاً عرفان لها بالجميل وهو تقيّم علاقة شديدة الخصوصية بالوجود خلافاً لسائر المعارف والعلوم. وما ذاك إلا لأنها لا تكف عن إعلان رسالتها الأصلية. حيث تهتم بسؤال الوجود الأصيل من دون أن تنفك عن الاعتناء بأسئلة الممكنات وعوارضها.

 

فيلسوف الحداثة الذي أخذ دربته عن الإغريق هذا حاله. معه سيغدو كل سؤال تعلنه الفلسفة الحديثة على الملأ مثقلاً بحوامل الموجودات وعروضها. وسنجد كيف اكتظَّت بياناته بألوان الظنون، وهي يُسلم أمره لسلطان العقل الصارم.

 

غالباً ما دارت اختبارات الفيلسوف المستحدث مدار الفراغ العجيب. فإنه حائر بين الموجود وواجب الوجود. تتخطّفه جواذب السؤال فلا ينتهي إلى قرار. ثم لا تلبث حتى تميل به إلى عالم الممكنات كلما بَسَطَ يَدَه على شيء من أجل أن يتعرَّف إليه، انزلق ذلك الشيء من بين أصابعه ككائنٍ زئبقيٍ، فلا يجيئه من بعد ذلك نفعٌ ولا ضرٌ.. الفيلسوف المأخوذ في حَيْرته، سؤالُه حائرٌ وجوابُه حائرٌ. لهذا وجدناه كيف ينأى من جنّة اليقين ويستطيب الإقامة في دنيا الأسئلة الفانية. كتب على نفسه أن يتعرَّف إلى الأشياء كما هي في ذاتها. وأن يقتفي أثر الأحداث والظواهر قصد تحرِّي عِللِهَا وأسبابها والنتائج المترتبة عليها. وما ذاك إلا لأنه مفتون بما هو فيه، ومأخوذ بالظن أن الاهتداء إلى الحقيقي والعقلاني إنما يمر عبر الحواس واستدلالات الذهن وخداعه.

 

ولدت الفلسفة الأولى من رحم التحيُّر. كذلك قال الأوائل من أئمة الإغريق لـمَّا حملتهم أسئلتهم على النظر الحَيْرَة كمقولة -زمانية – نفس بشرية – تستحثُ على فهم وجودٍ تعذَّر فهمه. في كتابه “ما بعد الطبيعة” سيظهر أرسطو كمن يكشف عن الميقات الذي نضج فيه العقل البشري ليسأل عما يتعدى فيزياء العالم ومظاهره. لكأننا به يقول إن السؤال عن الموجود، ولماذا صار موجوداً بدلاً من العدم، هو سؤالٌ جاء في أوانه.

 

ولنا أن نعترف لأرسطو ومن جاء من بعده أن سؤال “ما بعد الطبيعة” جاء مناسباً للميقات. ربما لهذا السبب صحَّ أمرُه وسرى بيانه إلى يومنا هذا. لكن السؤال الأرسطي -على سمو شأنه في ترتيب بيت العقل- سيتحول بعد برهة من زمن، الى علّةٍ سالبة لفعاليات العقل وقابليته للامتداد. وما هذا، إلا لحَيْرة حلّت على أرسطو ثم صارت قلقاً مريباً. ولفرط ذكائه أمسك عن مواصلة السؤال، ليعرَضَ عن مصادقة الأصل الذي أطل منه الموجود على ساحة الوجود.

 

الحاصل أن فيلسوف “ما بعد الطبيعة” مكث في الطبيعة وآَنَسَ لها فكانت له سلواه العظمى. رضي أرسطو بما تحت مرمى النظر ليؤدي وظيفته كمعلم أول لحركة العقل. ومع أنه أقرَّ بالمحرك الأول، إلا أن انسحاره بعالم الإمكان أبقاه سجين المقولات العشر. ثم لما تأمّل مقولة الجوهر وسأل عمَّن أصدرها عاد إلى حَيْرته الأولى. لكن استيطانه في عالم الممكنات سيفضي به إلى الجحود بما لم يستطع نَيْلًه بركوب دابةَّ العقل. حيرته الزائدة عن حدّها فلم يجد معها مخرجاً. ثم سيكون عليه أن يسترجع ما اقترفه من ظنون، من أجل أن يكتشف مصدر حيرته. حتى لتبدو أحواله وقتئذٍ كذاك الذي دخل المتاهة ولن يبرحها أبداً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد