الشيخ جوادي الآملي ..
تباينت آراء العلماء حول آية الميثاق تبايناً كبيراً. وقد ذُكر أنّ بعضهم ذهب إلى أنّها تشير إلى وجود عالم سابق على هذه الحياة الدنيا يسمى بعالم الذر وأنكر البعض الآخر وجود مثل هذا العالم معتبراً أنّ هذا التمثيل القرآني الرائع يحكي عن سطوع الآيات الإلهية وظهورها بنحو لا يبقى عذر للشرك.
أمّا العلاّمة الطباطبائي رضي الله عنه ، فبعدما أورد إشكالاته على النظريتين، تبنّى مذهباً آخر في تفسير الآية الكريمة. فما هو هذا المذهب؟
يرى الماديون أنّ حياة الإنسان تبدأ بالولادة وتنهي بالموت. وفي معرض الإشارة إلى هذه العقيدة جاء في سورة الزمر: ﴿وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يظنون﴾.
فعلى مذهب هؤلاء، لم يعش الإنسان أي عالم سابق قبل ولادته، ولا يوجد أي عالم ينتظره بعد وفاته، فوجود الإنسان ليس سوى أثر طبيعي للفعل والانفعال الحاصل للمادة، وكذلك وفاته. وعليه. فلا وجود لله الخالق أو المفني.
أمّا القرآن الكريم فيعتبر أنّ هذا التفكير لا يعتمد على أساس منطقي سليم، ويؤكّد أنّ الإنسان قد عاش عالماً سابقاً حيث أعطى تعهداً وميثاقاً بوحدانية الله تبارك وتعالى، كما تنتظره عوالم أخرى سوف يحياها بعد هذا العالم.
منها عالم البرزخ: ﴿ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ ومنها يوم القيامة: ﴿قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السموات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يخسر المبطلون﴾.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات في عملية خلق الإنسان وسائر الكائنات بشكل عام:
1- الإنزال بقدر:
جميع المخلوقات بشكل عام، والإنسان بشكل خاص، تحيا في عوالم سابقة على هذا العالم حيث لا تتحكم فيها الحدود والقيود الزمانية والمكانية وغيرها الموجودة في هذا العالم، ثمّ تنزل من هناك إلى هذا العالم السفلي. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم﴾.
وفي سورة الحديد يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾.
وفي سورة الزمر أيضا: ﴿َأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون﴾.
والإنزال هنا ليس بمعنى الخلق والإبداع فقط، بل يضيف إشارة أخرى وهي أن هذه الأشياء تنزلت من عالم إلى عالم آخر. فالحديد والمعادن والحيوانات، كلها مثل سائر المخلوقات والكائنات في العالم، قد تنزلت من عالم آخر سابق على هذا العالم كما تفيد الآية الواردة في سورة الحجر.
إذاً، فكلّ الأشياء لها وجود سابق في عالم الغيب، وليست كما يرى الماديون أنّها نتيجة للدورة السفلية في الطبيعة، فالعلوم الطبيعية تنصّ على عدم وجود أيّ قوة عاقلة أو مدركة تحتويها هذه العناصر المادية.
ولا يعني هذا أنّ الأشياء بتنزلها قد هجرت منازلها وتجافت عنها، بل يعني أنّها تنزلت من مرتبتها لتكون في اختيار البشر. فما تقرأه الآن، أو في أي كتاب آخر، وجوده في ذهن الكاتب ليس كما يبدون لك في صورته المادية الموجودة على الورق، لأنّ الأفكار ليست من نوع الماديات كي يمكن أن تتصور لها حيزاً ولو ذهنياً. بل إنّ عقل الإنسان يشاء من خلال اختراع أو ابتكار يقوم به، فهي موجودة قبل أن تصل إلى أذهاننا. وجميع مخلوقات هذا العالم موجودة قبل أن تأتي إلى هذا العالم في خزائن الغيب. ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو﴾ ﴿له مقاليد السموات والأرض﴾.
2- الإرادة المحضة
إنّ ما يصدر عن الله تبارك وتعالى من فعل كالخلق والإبداع والرزق وغير ذلك غير مشوب بالحركة أبداً. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فاعل لا بحركة". فالله تعالى بمجرد إرادته لشيء يحصل ذلك الشيء، أما نحن البشر، عندما نريد أن نفعل شيئاً ما فلا بدّ أن يلازم ذلك حركة أعضائنا في زمن بعيد، كما إذا أردنا أن نتكلّم أو نكتب. فلأنّنا كائنات زمنية نخضع لقياسات زمنية مادية وليس أمامنا أي خيار آخر.
أمّا الله الخالق، فهو مبدع الزمان والمكان.
وبتعبير أمير المؤمنين عليه السلام "وكيف يجري عليه ما هو أجراه"، وهذا إبطال للمنطق الديالكتيكي الذي يعتبر أنّ أيّ كائن موجود فهو متحرك، ولا يوجد شيء غير متحرك أبداً. بمثل هذا المنطق لا يمكن إثبات وجود الله تعالى والإيمان به، لأنّ الله خارج هذه الحركة المحدودة وذاته المقدّسة أعلى شأناً من أن تحدّها هذه الأطر المحدودة.
إذاً، فالله سبحانه قد خلق الكائنات بإرادة صرفة وأنزلها من ذلك العالم إلى هذا العالم ﴿إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾.
3- وجهان للوجود
ولكن، كيف نفسّر قوله تعالى في سورة فصلت: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ﴾، أو في سورة الحديد. ﴿خلق الأرض في يومين﴾؟
يقول العلامة الطباطبائي أنّه يوجد وجهان للوجود. وجه يمثّل الارتباط بمخزن الغيب من خلال الأمر "كن". وهو لا يخضع للحدود الزمنية، ووجه آخر يمثّل الارتباط بعالم الطبيعة ويتمثّل بكلمة "يكون"، وهذا الوجه تدريجي ويقع ضمن فترة زمنية محدودة.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة. عن أمير المؤمنين عليه السلام: إنّما كلامه سبحانه فعل منه، وهذا هو الكلام التكويني.
وإطلاق الكلام على الفعل الإلهي ليس من قبيل المجاز، بل هو إطلاق حقيقي. فالكلام المعروف هو لفظ موضوع ليحكي عن معنى، والمعنى نفسه يحكي عن نفسه بشكل أظهر من اللفظ، ولذلك يبدو كلّ شيء في هذا العالم "كلمة الله".
قال تعالى: ﴿ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾.
العالم عبارة عن كلمات الحق تعالى، فالله سبحانه له في كلّ يوم كلام، بل في كلّ لحظة، ولكن بعض هذه الكلمات تامة كاملة كما ورد عن المعصومين عليهم السلام: "نحن الكلمات التامات" وبعضها الآخر كلمات ناقصة كما في سائر البشر.
وهذا لا يعني إنّ الخطاب ليس كلاماً حقيقياً، بل هو كلام أيضاً، ولكن لا ينحصر الأمر فيه، فجميع الخلائق والكائنات كلمات الله وهذا إطلاق حقيقي وليس مجازياً. فقديماً كان يطلق على القنديل "المصباح". واليوم تطورت الإضاءة تطوراً كبيراً وصار لدينا الإضاءة الكهربائية، ومع ذلك يطلق عليها أيضاً "المصباح". فكلاهما إطلاق صحيح، إلاّ أنّ المصباح الكهربائي أكثر مصداقية من المصابيح القديمة.
* نظرية العلاّمة الطباطبائي
إذا اتضحت المقدّمات المذكورة آنفاً نبدأ بطرح نظرية العلامة وملخصها:
إنّ للأشياء جنبة ملكوتية وجنبة ملكية. وحيث أنّ جنبتها الملكوتية مرتبطة بالمبدأ مباشرة فهي منزّهة عن الحدود والقيود الطبيعية من زمان ومكان وغير ذلك، ووجودها في ذلك العالم سابق على هذا العالم السفلي. وهو الوجود الحاصل بالأمر الإلهي الدفعي الذي لا تدرج فيه كما ورد في سورة يس: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾. وكذلك ما ورد في سورة القمر: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر﴾.
أمّا الجنبة الملكية فهي هذا الوجود الطبيعي والنشأة السفلية الملازمة للحركة والتغير والمحدودة بحدود الزمان والمكان.
ولما كان قوله تعالى ﴿وإذ أخذ ربّك﴾ يشير إلى موطن سابق عن هذه النشأة، لأنّ لفظ "إذ" يدل على الماضي المتحقّق أو المستقبل المؤكّد وقوعه أيضاً، فلذلك لا يمكن أن يكون المقصود من الميثاق هو الآيات الإلهية الظاهرة في هذه النشأة، كما ذهب إليه منكرو عالم الذر، لأنّ هذا زمن حاضر لا يتلاءم مع لفظ "إذ".
إذاً لا بدّ أن يكون لظهور الميثاق صفة الأقدمية، ففي المقام الملكوتي للإنسان. الذي زمامه وناصيته بيد الله تبدو عبودية الإنسان وتتجلّى ربوبية الله رب العالمين بما لا يدع مجالاً للشك، ولذلك بعدما أشهدهم على أنفسهم سألهم: ألست بربكم؟ فأجابوه: بلى شهدنا. ولذلك ورد في بعض الروايات أنّ ذلك كان مشاهدة ومعاينة.
فعن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾، قلت معاينة كان هذا؟ قال: "نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه. ولولا ذلك لم يدر أحد من خالفه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه".
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة