قرآنيات

الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

معنى (الرحمن) و (الرحيم) واتساع مفهومهما والفرق بينهما، شرحناه في تفسير البسملة، ولا حاجة إلى التكرار. وما نضيفه هنا هو أن هاتين الصفتين تتكرران في البسملة والحمد، "والملتزمون" بذكر البسملة في السورة بعد الحمد يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرة. وبذلك يصفون الله برحمته ستين مرة يوميًّا.
وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق الله، وتواقة للتخلق بأخلاق الله. إنه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.
القرآن يركز على علاقة الرحمة والرأفة بين رب العباد والعباد، حيث يقول:
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا).
هذه العلاقة نستحضرها مرات يوميا إذ نقول: الرحمن الرحيم، لنربي أنفسنا تربية صحيحة في علاقتنا بالله، وفي علاقتنا بأبناء جنسنا.


مالك يوم الدين
الإيمان بيوم القيامة
هذه الآية تلفت الأنظار إلى أصل هام آخر من أصول الإسلام، هو يوم القيامة: مالك يوم الدين، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.
تعبير (مالك) يوحي بسيطرة الله التامة وهيمنته المستحكمة على كل شيء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضرًا، فلا يضيع أي شئ - مهما صغر - ولا ينسى، والإنسان - وحده - يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنة استنها في الأرض أو مشروع أقامه.
مالكية الله في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم. ملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق أخرى، تتمثل في ارتباط الموجودات ارتباطًا خاصًّا بالله. ولو انقطع هذا الارتباط لحظة لزالت الموجودات تمامًا مثل زوال النور من المصابيح الكهربائية، حين ينقطع اتصالها بالمولد الكهربائي.
بعبارة أخرى: مالكية الله نتيجة خالقيته وربوبيته. فالذي خلق الموجودات ورعاها ورباها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.
نستطيع أن نرى نموذجًا مصغرًا للمالكية الحقيقية، في مالكيتنا لأعضاء بدننا، نحن نملك ما في جسدنا من عين وأذن وقلب وأعصاب، لا بالمعنى الاعتباري للملكية، بل بنوع من المعنى الحقيقي القائم على أساس الارتباط والإحاطة.
وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا الله بأنه مالك يوم الدين بينما هو مالك الكون كله؟

والجواب هو أن الله مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأن الارتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشي كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلا بأمر الله: يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله.
بتعبير آخر: قد يسارع الإنسان في هذه الدنيا لمساعدة إنسان آخر، ويدافع عنه بلسانه، ويحميه بأمواله، وينصره بقدرته وأفراده، وقد يشمله بحمايته من خلال مشاريع ومخططات مختلفة. لكن هذه الألوان من المساعدات غير موجودة في ذلك اليوم. من هنا حين يوجه هذا السؤال إلى البشر: لمن الملك اليوم يجيبون: لله الواحد القهار. الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى التي يخضع فيها كل شئ للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنها تذكر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضا بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.
التركيز على مالكية الله ليوم القيامة يقارع من جهة أخرى معتقدات المشركين ومنكري المعاد، لأن الإيمان بالله عقيدة فطرية عامة، حتى لدى مشركي العصر الجاهلي، وهذا ما يوضحه القرآن إذ يقول: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.
بينما الإيمان بالمعاد ليس كذلك، فهؤلاء المشركون كانوا يواجهون مسألة المعاد بعناد واستهزاء ولجاج: وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد، افترى على الله كذبا أم به جنة.
وروي عن علي بن الحسين السجاد (عليه السلام): "أنه كان إذا قرأ مالك يوم الدين يكررها حتى يكاد أن يموت".
أما تعبير يوم الدين، فحيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات ١٧ و ١٨ و ١٩ من سورة الانفطار ورد هذا المعنى بصراحة.
وأما سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأن يوم القيامة يوم الجزاء، و(الدين) في اللغة (الجزاء)، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تكشف السرائر ويحاسب الناس عما فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحًا أم طالحًا.

وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: "يوم الدين هو يوم الحساب" (والدين) استنادا إلى هذه الرواية يعني (الحساب)، وقد يكون هذا التعبير من قبيل ذكر العلة وإرادة المعلول. لأن الحساب دومًا مقدمة للجزاء.
من المفسرين من يعتقد أن سبب تسمية يوم الدين يعود إلى أن كل إنسان يوم القيامة يجازى إزاء دينه ومعتقده. لكن المعنى الأول (الحساب والجزاء) يبدو أقرب إلى الصحة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد