من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الخوارج سياسياً وتاريخياً (1)

 

السيد جعفر مرتضى 
ظهور الخوارج :
الخوارج : فرقة ظهرت في النصف الأوّل من القرن الأول الهجري ، وبالذات في مناسبة حرب صفين التي دارت بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) الخليفة الشرعي من جهة ، وبين معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى ، حيث رأى معاوية : أنّ علياً سيربح الحرب لو استمرّت ، فأمر ـ بمشورة من عمروبن العاص ـ برفع المصاحف ، الأمر الذي أنجرّ إلى التحكيم ، وكان أولئك المعترضون على قبول عليّ للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل ، كما اعترفوا به هم أنفسهم ، كما صرّحت به النصوص التاريخية الكثيرة جدّاً ، وهذا ما يكذّب ما يدّعيه البعض من أنّ الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أوّل الأمر .
نعم ... إنّ هؤلاء قد حكموا على عليّ (عليه السّلام) بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه ، كما كفَّروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته ، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم .
ثمّ إنّهم خرجوا على عليّ (عليه السّلام) وحاربوه ، وكان من جملة ما احتجّوا به لحربهم إياه : أن قالوا :  (زعم أنّه وصي فضيّع الوصيّة ) كما ذكره اليعقوبي ، نعم وهؤلاء بالذات وأتباعهم هم الذين سُمّوا بالخوارج ، وهم محطّ بحثنا الآن .


موقف عليّ (عليه السّلام) من الخوارج :
وقد عالج أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضية الخوارج بحكمة ومرونة ، ثمّ بحزم وبحسم أيضاً ، حيث حاول أوّلاً أن يقنعهم بخطئهم في تصوّراتهم ومواقفهم ، فناقشهم ووعظهم هو وأصحابه : ابن عباس وغيره ، وأقاموا عليهم الحجّة ، حتى رجع منهم الألوف .
ويلاحظ هنا : أنّه (عليه السّلام) ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذووجوه ، ولكن يخاصمهم بالسنّة ، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً .
كما أنّه هونفسه قد التزم بذلك إلى حدٍّ كبير ، حيث نجده يهتمّ بأن يحتجّ عليهم بأقوال النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأعماله بالدرجة الأولى ، فاحتجّ عليهم بأنّه ( صلى الله عليه وآله ) قد رجم الزاني ثمّ صلّى عليه وورثه أهله ، وقتل القاتل كذلك ، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ، ثمّ قسّم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم ( صلى الله عليه وآله ) بذنوبهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولا أخرج أسماءهم من بين أهله .
واحتجّ عليهم أيضاً بمنِّ النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على أهل مكّة فلم يسبّ نساءهم ولا ذريتهم ، وبمحوه ( صلى الله عليه وآله ) كلمة : ( رسول الله ) من صحيفة الحديبية ، وبإعطائه النصفة لأهل نجران ، حيث قال : ( ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) وبتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد .
ولكن... رغم كلّ تلك المحاولات والمواعظ والاحتجاجات ، ورغم رجوع الألوف منهم عن غيّهم ، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبوإلاّ البقاء على ما هم عليه ، ومحاربته ، وقتلوا الأبرياء ، حتى النساء ، وأخافوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فاضطر (عليه السّلام) لمحاربتهم لدفع شرّهم ، وإخماد نار فتنتهم ، فحاربهم ، وقتلهم ، ولم يفلت منهم إلاّ أقل من عشرة ، كما لم يستشهد من أصحابه إلاّ أقلّ من عشرة ، كما أخبر به (عليه السّلام) قبل ذلك .
ويقول المؤرّخون : إنّ الذين أفلتوا من القتل قد أصبحوا بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد .
وأمّا أولئك الذين استأمنوا ، فقد صاروا يخرجون على عليّ (عليه السّلام) وعلى غيره بعد ذلك ، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم ، ثمّ صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات وأقلّ وأكثر في الأنبار ، وماسبذان ، وجرجرايا، والمدائن ، وسواد الكوفة ، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلو الأخرى بيسر وسهولة .


أنا فقأت عين الفتنة :
ويقول (عليه السّلام) عن حربه للخوارج ولغيرهم :
( أنا فقأت عين الفتنة ، ولم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلبها ) .
وفي رواية أخرى لهذا النصّ بدل ذيل الكلام : ( ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون ) .
وفي نصّ آخر : ( ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان) .
ويبدو أنّ سرّ ذلك هو أنّه قد كان على رأس الناكثين : طلحة والزبير ، وهما من أهل السابقة في الإسلام ، ثمّ أُمّ المؤمنين عائشة زوجة الرسول ، وبنت الخليفة الأوّل أبي بكر ، المرأة الذّكية والشجاعة ، والتي كانت تحظى بعناية ورعاية خاصّة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس ، وشاع وذاع عنه ما لا يمكن تجاهله وإنكاره .
وكان معاوية يتزّعم القاسطين ، وعمر هو الذي جعله على بلاد الشام ، وكان يعامله معاملة متميزة ، وبقي على عمله إلى أن توفي عمر ، ثمّ طيلة خلافة عثمان ، وتربّى أهل تلك البلاد على أفكاره واتجاهاته ، وأصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي وغيره . ثمّ هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان .
أمّا المارقون ... فكانوا معروفين بالعبادة والزهد ، فالإقدام على حربهم وقتلهم لم يكن أمراً سهلاً وميسوراً لكلّ أحد ، أمّا عليّ (عليه السّلام) فقد كانت مكانته بين المسلمين معروفة لدى كلّ أحد ، وكانت الأمّة لا تزال تسمع من وعي النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الكثير الكثير ممّا يدل على فضله ، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه ، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، حتى ليصبح قتاله للخوارج ولغيرهم حتى عائشة دليلاً صريحاً على تعدّيهم وظلمهم ، وخطئهم في موقفهم على الأقل .
نعم ... وقد رأينا الكثيرين من الخوارج عليه ـ (عليه السّلام) ـ يشكّون في صحّة وسلامة موقفهم منه ، حتى إذا جاء العهد الأموي بدءً من معاوية ، قالوا : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه . ثمّ أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكلّ ضراوة وعنف ، كما هو معلوم .


لا تقاتلوا الخوارج بعدي :
وبعد... فإنّا نجد علياً الذي يحارب الخوارج ويستأصل شأفتهم يوصي الناس وشيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده ، ويعلل ذلك بأنّه ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه .
وأيضاً ... فقد ذكرت الحرورية عنده ، فقال : إن خرجوا على إمام عادل وجماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإنّ لهم في ذلك مقالاً .
ولعلّ سرّ ذلك هو:
أولاً : إنّ الخوارج في المستقبل سيقاتلون الأمويين الذين كانوا أشدّ خطراً على الإسلام والأمّة ، لأنّ دعوتهم وطريقتهم تستهوي النفوس الضعيفة ، لأنّهم يدعون إلى الدنيا وإلى زبارجها وبهارجها ، وهذا ما ينساق إليه الناس بغرائزهم ويلائم هوى نفوسهم ، كما إنّهم قد تلاعبوا في عقائد المسلمين وغيّروها وأدخلوا عليهم فيها الشُبَهة والإسرائيليات وغير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا ، في حين أنّه كان لهم القدح المعلّى والقدم الثابت في الانحراف ، مع خبث نفوسهم ، وشدّة ظلمهم وفجورهم .
يقول عليّ (عليه السّلام) بعد كلامه السابق عن الخوارج : ( ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، واخطأ البلاء من عمي عنها ، وأيم الله ، لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء ، كالنار الضروس تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، ـ إلى أن قال ـ : لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم ، وغير ضائر بهم ، ـ إلى أن قال ـ : ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى) .
 

أمّا دعوة الخوارج فلم يكن لها ذلك الخطر ، وذلك لما يلي :
ألف : لقد كان الخوارج ـ عموماً ـ أعراباً جفاة ، لا ثقافة ولا معرفة لديهم ، يشكّلون بها خطراً على الدّين بشبهاتهم وانحرافاتهم .
باء : إنّ دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة ولا تتقبلها العقول ، وإذا ما استهوت بعض شعاراتهم بعض البسطاء والسُذّج لبعض الوقت فإنّها لا تلبث أن تنحسر وتتلاشى بمجرّد دعوتهم إلى الفطرة ، والعقل السليم ، والفكر المستقيم .
يضاف إلى ذلك : حِدِّيتهم المتناهية في التعامل مع سائر المسلمين ، حيث لم يكن قلوبهم تعرف الرحمة والشفقة حتى للأطفال والنساء .
فالأزارقة، وقد كانوا أعظم فرقهم وأشدّها شوكة ، وقد استولوا على الأهواز وأرض فارس وكرمان وجبوا خراجها سنوات عديدة ، إنّ هؤلاء يقولون بكفر جميع من عداهم ، ولا يحقّ لأصحابهم المؤمنين منهم أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعا إليها ، ولا أن يأكلوا ذبائحهم ، ويتزوّجوا منهم ، ويرثوا منهم ، ويورثوهم ، ويكون غيرهم مثل كفّار العرب ، وعبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلاّ الإسلام والسيف ، ودارهم دار حرب ، ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم ، ويحلّ لهم الغدر بمن خالفهم ، ولا تجوز التقية ، إلى غير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا.
جيم : إنّ الخوارج إنّما حاربوا علياً (عليه السّلام) لشبهة تمكّنت من نفوسهم ، وزيّن لهم الشيطان إنّهم ظاهرون ومنتصرون ، فهم قد طلبوا الحقّ فوقعوا في الباطل ، وإذا كان قد خالط ذلك الشيء من حبّ الدنيا والمصالح الشخصية والمفاهيم الجاهلية ، والعصبيات القبلية ، فإنّما كان ذلك ملبساً بلباس ديني ، وشبهة كانت طاغية على فهمهم وإدراكهم ومبرّرة على هذا الأساس ، فكانوا ـ كما عن عليّ (عليه السّلام) ـ مصداقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ إنّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا )  .

 

ثانياً : إنّ ظاهر الخوارج هو إنّهم من العُبّاد والزُهّاد ، فمن يتصدّى لحربهم ـ سوى عليّ (عليه السّلام) ـ لم يكن يستطيع أن يدافع عن نفسه كثيراً ولاسيما إذا كان الإعلام ـ حتى الأموي ـ ضدّه ، ويعمل على تشويهه ، وتحطيم كلّ مقومات حياته ووجوده .
كما أنّ العراق الميّال لعليّ وأهل بيته (عليهم السّلام) سينشغل بقضية لن تكون نتائجها إلاّ زعزعة ثباته ، وتمزّق أوصاله ، ويقلل من فرص اجتياح المدّ الشيعي على شكل التعاطف مع أهل البيت لمناطق أخرى تقع في نطاق اهتمامات الحكم الأموي .
كما أنّ تولي هؤلاء لحرب الخوارج معناه أن يتحمّلوا هم آثار الحرب ومخلفاتها غير المرغوب فيها ، ولاسيما ما ينشأ عن سفك الدماء عادة من الأحقاد ، ثمّ زعزعت الثوابت على الصعيد القبلي والعاطفي .

 

ثالثاً : لقد كان الشيعة قلّة ومضطهدين من قبل الحكم الأموي ، فتكليفهم بقتال الخوارج معناه المزيد من إضعافهم هم والخوارج مع بقاء الحكم الأموي محتفظاً بكامل قواه ، يتحكّم بمقدرات الأمّة ، ويسومها الخسف والذلّ .
وقد حاول الأمويون ابتداء من معاوية الزجّ بأهل البيت وشيعتهم في حرب الخوارج ، فأرسل معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) وهو في طريقه من الكوفة إلى المدينة يدعوه لحربهم ، فرفض (عليه السّلام) طلبه وكتب إليه : ( لو آثرت أن أقاتل أهل القبلة لبدأت بقتالك ) ، وفي مناسبة أخرى على ما يظهر يذكره (عليه السّلام) بأن ليس من طلب الحقّ فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه فأسكت معاوية .
إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ الأمويين قد استطاعوا أن يجيبوا الشيعة على حربهم ، وقد نكل الحجّاج بأهل العراق ، وقتل من قتل وفعل بهم الأفاعيل في مجال إرغامهم على ذلك .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد